سقوط الخطاب الرسمي الطائفي والتحريضي
سرديّة إصلاحية بشأن أحداث القطيف ومعتقلي الإصلاح
بجدّة
محمد قستي
ربما تفاجأ موقعو (بيان حول محاكمة الإصلاحيين بجدة،
وأحداث القطيف) والمنشور في 5/12/2011؛ بردّة فعل حكومية
شرسة، عبر حملة اعلامية منظمة لاتزال مستمرة، تضمنت التهديد
للإصلاحيين الموقعين على البيان بالسجن والعقاب، واتهامهم
بالعمالة للخارج، وتشجيع الإرهاب، وأنهم عملاء لولاية
الفقيه أو للقاعدة، وغير ذلك من الإتهامات المعتادة.
بالنسبة لنا لم يكن رد الفعل الحكومي مفاجئاً، فجوهر
البيان الإصلاحي، لا ينتقد فقط الأحكام الصادرة بحق الإصلاحيين
المعتقلين بجدة، ولا السياسة التمييزية الطائفية وقمع
حرية التعبير والتظاهر في المنطقة الشرقية.. بل الأهم،
وهو لأول مرّة يقع، وفي هذا الظرف الحساس بالنسية لنظام
تحاصره المشاكل من كل جانب، أن الموقعين على البيان، تجاهلوا
أمرين أساسيين، من وجهة نظر الداخلية، وأكدوا في أمر ثالث
حقيقة لم ترد الداخلية انكشافها:
الأول ـ أنهم، وفي بيانهم آنف الذكر، لم يصدقوا أياً
من مزاعم النظام وبيانات وزارة الداخلية والعدل، سواء
فيما يتعلق بسيرورة الأحداث وقتل المتظاهرين في القطيف،
أو الإتهامات التي بُنيت على أساسها الأحكام القضائية
الفاسدة ضد معتقلي الإصلاح في جدة. فلطالما كانت وزارة
الداخلية تعتبر كلامها منزّلاً من السماء، وروايتها هي
الحاسمة التي يجب أن تصدّق بدون نقاش أو تساؤل، بحيث تعتبر
السقف الأعلى الذي لا يجب أن تتخطاه المقالات والتعليقات
(اذا قالت حذام فصدقوها/ فان القول ما قالت حذام). وعادة
ما يأتي بيان الداخلية، بما يت?منه من مزاعم تجاه أية
حادثة أو قضية لها علاقة بصلب النظام السياسي والمعارضين
له، ليفصل في القول، ويحسم الأمور، وبالتالي على الجميع
أن يستشهد بما قاله البيان، ويبني عليه من خلال المقالات
والشروحات والتعليقات.
البيان الأخير للإصلاحيين، تبنّى بالكامل الرواية الشعبية
الأهليّة للأحداث، وتجاهل البيان الرسمي الذي أصدرته وزارة
الداخلية. ومع أن كثيرين تجاوزوا البيان الرسمي بشكل منفرد،
من خلال تعليقات على تويتر وغيره، إلا أن البيان الجمعي
كان له وقع الصاعقة على رأس نايف وأجهزة أمنه. ما أراد
البيان أن يقوله هو: نحن الموقعون لا نصدّق الهراء الذي
جاءت به وزارة الداخلية. لا نصدّق أن المواطنين عملاء،
ولا أنهم استخدموا العنف، وأن القتل وجرحى الرصاص جرى
في صفوف المواطنين، وأن الحكومة هي المسؤولة عن العنف
وأنه يجب التحقيق فيما ?علته وتحاسب عليه. هذا يعني نسف
للبيان الرسمي بدون التطرّق اليه.
ومثله أيضاً، فإن الموقعين أرادوا من بينانهم توضيح
حقيقة أن كل الاتهامات لمعتقلي الإصلاح في جدة، غير مقبولة
وغير معقولة ولا أحد يصدقها لا في الداخل ولا الخارج.
وأن ما قام به القضاء من تبنّي رأي الداخلية ومزاعمها،
يعني أنه قضاء غير مستقل، وغير نزيه، ولا يعتمد عليه في
إرجاع حق أحد.
الثاني ـ أن البيان الحقوقي ليس فقط همّش وساهم في
إسقاط الخطاب الرسمي وسرديته للأحداث؛ بل وأيضاً أسقط
قيمة مؤسسات آل سعود كالداخلية والقضاء والإعلام والإفتاء،
وكلها كانت ولازالت شريكة في الجريمة: في الترويج لبيانات
الداخلية الكاذبة واعتبارها الحق المطلق مقابل دعاة الإصلاح
والتظاهر.
في الحقيقة، إن البيان أكد على حق المواطنين في التظاهر
والتعبير السلمي، ضارباً بعرض الحائط فتاوى المفتين، وفي
مقدمتهم المفتي آل الشيخ الذي حرم التظاهرات والتجمعات
انسياقاً مع معطيات الداخلية، ثم تبنّى المفتى سرديتها
بشأن أحداث القطيف، بل وزايد على ذلك ـ شأن آخرين من الصحافيين
والطبّالين ـ بأن طالب بالحسم والضرب بيد من حديد على
أيدي مواطنين هدرت دماؤهم وحقوقهم.
وهكذا، يظهر اليوم، ومن خلال البيان، أن الإعلام السعودي
الكاذب غير قادر على إقناع مواطنيه بأكاذيبه؛ وقضاؤه صار
غير محترم وفاسد وقد أثبتت الأحكام الأخيرة ذلك، وانه
في جيب السلطات الأمنية، وأن قضاة السلطان لا ينتظرون
حتى سماع الرأي الآخر، خاصة المفتي، الذي يفترض به أن
يتروّى وأن لا يطلق الأحكام جزافاً، خاصة أن تحقيقاً لم
يقم، وأن الرواية الأهلية ـ فيما يتعلق بالتظاهرات ـ لم
تُسمع، رغم توثيقها الحيّ بالفيديو والصورة والصوت؛ فكيف
بعالم ومفتي الدولة يصدر أحكاماً أو يؤيد أفعالاً تطلق
يد الداخلية للعبث بحقوق الموا?نين وأمنهم ودمائهم قبل
أن يتثبّت من أي أمر؟
الثالث ـ أن البيان أعطى مؤشراً لكل ذي لبّ، بأن الخطاب
الرسمي القائم على الكراهية والتحريض الطائفي، واتهام
الإصلاحيين وطلاب الحق، بأنهم عملاء للخارج، ومحرضين على
الفتنة والعنف، ان هذا الخطاب سقط ـ وربما لأول مرّة ـ
في تاريخ هذا النظام، وإن لم يكن السقوط كاملاً. لم يعد
المواطنون يصدقون كل مزاعم النظام، ثم إن اعتماد الخطاب
الطائفي بالتحديد، وربط النشاط السياسي المعارض بالمؤامرات
الخارجية، بدا وأنه غير قادر على حشد الدعم الذي توقعه
نظام آل سعود. موقعو البيان هم من مختلف المناطق ومختلف
المذاهب، وهم ـ ومعظم المو?طنين ـ صاروا على قناعة بأن
النظام يلعب بالأوراق الجهوية الطائفية والمناطقية والقبلية
ليستخدمها ضد الإصلاحيين، وشرائح من المواطنين، لأغراضه
السياسية. هذا القدر من ترسخ هذه القناعة لم يتوفر في
أي وقت مضى من تاريخ هذه الدولة السعودية، على حد علمنا
وتقديرنا. وهذا سبّب إحراجاً كبيراً، بل صدمة لم يفق منها
الإعلام الرسمي حتى الآن، حيث لاتزال المقالات تتوالى
بالشتيمة والتحريض والسخرية والتهديد من البيان والموقعين
عليه.
ماذا قال البيان؟
قال البيان بأن الوطن فوجئ (بأحكام قضائية بالغة القسوة
على ستة عشر من الإصلاحيين في جدة، وصلت في مجموعها إلى
228 سنة، بعد خمس سنوات من الاعتقال، إضافة إلى المنع
من السفر لفترات مماثلة، وتحميل بعضهم غرامات مالية ضخمة،
وذلك في محاكمة افتقرت إلى الكثير من معايير العدالة،
وارتكزت على أسباب وحيثيات لا تسند ما صدر بحقهم من أحكام).
وأضاف: (وبدلاً من تهدئة النفوس التي أضيرت في مشاعرها
وصُدمت بهذه الأحكام، يصحو الوطن وبعد أيام قليلة، على
تصعيد أمني غير مبرر، استخدمت فيه الذخيرة الحيّة، وذهب
ضحيته أربعة من أبناء منطق? القطيف، وسقط الكثير من الجرحى
نتيجة الإجراءات الأمنية المشددة التي أصبحت تترى في وتيرة
تصاعدية).
وفي رفض مباشر لفتاوى تحريم التظاهرات، او اعتبارها
عملاً عنفياً ارهابياً، أكد البيان على أن (حق التعبير
عن الرأي، بما فيه حق التظاهر السلمي، وحق الاجتماع للتشاور
في قضايا الشأن العام للوطن، هي أمور مشروعةلكل مواطن،
كفلتها جميع الأديان والقوانين والأعراف الدولية في كافة
أنحاء العالم، وبلادنا لا يجب أن تكون استثناءاً، ولا
سيما وقد انضمت إلى العديد من عهود ومواثيق حقوق الإنسان
العالمية والعربية والإسلامية التي تكفل تلك الحقوق. وفي
هذا المستوى الحقوقي، فإن معتقلي جدة لا يستحقون التعامل
معهم بإصدار تلك الأحكام ا?جائرة، كما أن مظاهرات المواطنين
السلمية في القطيف ومطالبهم المحقة، كانت تحتاج إلى تعامل
أكثر حكمة، دون الحاجة إلىاستخدام الوسائل القمعية المؤلمة).
وأضاف البيان محمّلاً السلطة ما جرى في القطيف: (إن
دور القوى الأمنية يجب أن ينحصر في ضمان سلمية التظاهر،
وعدم الاستفزاز وإثارة المشاعر بإقامة نقاط التفتيش غير
المبررة، كما في منطقة القطيف منذ ما يزيد على تسعة أشهر
وحتى اليوم، والتي أصبحت بمثابة حصار مفروض على المنطقة،
يخضع الناس فيه إلى التفتيش المتواصل يوما بيوم وساعة
بساعة، مما يفضي إلى مزيد من الضغط النفسي على المواطنين
ويؤجج المشاعر ويزيد الإحتقان السياسي).
ونسف البيان مزاعم السلطات السعودية بشأن التدخل الخارجي،
واعتبار المتظاهرين عملاء، والتشكيك في وطنيتهم، فقال:
(إن الهروب من الواقع المتأزم في المنطقة، وإلقاء اللوم
على التأثيرات والارتباط بالخارج، والتشكيك في الولاء
للوطن، تحت لافتات إقليمية أو دولية، يفضي إلى الكراهية،
ويؤجج الطائفية، ويؤدي إلى تمزيق المجتمع).
وطالب البيان فيما يتعلق بالمعتقلين الإصلاحيين في
جدة: (إيقاف هذه الأحكام وإطلاق سراح جميع المعتقلين في
القضية)؛ وبشأن أحداث القطيف الدامية، كانت لغة البيان
شديدة الوقع على النظام الأمني السعودي: (نعلن إدانتنا
لاستخدام السلاح بكل أشكاله ومن أي طرف كان، ولذا فإن
على الجهات الحكومية أن تضبط الجهات الأمنية وتمنع استخدام
السلاح، وإزالة كافة نقاط التفتيش من المنطقة والتي تؤدي
إلى استفزاز المواطنين وتعطيل مصالحهم).. وحث البيان شباب
المظاهرات في القطيف على: (التركيز على المطالبة السلمية
بالحقوق لرفع كافة أشكال الت?ييز الطائفي، وتطبيق مبادئ
العدالة والمساواة، وتكافؤ الفرص المتساوية بين كافة أبناء
الوطن).
وطالب البيان بتشكيل (لجنة عدلية لتقصي الحقائق، وتحديد
الأشخاص والجهات المتورطة في عمليات القتل، وتقديمهم للعدالة).
كما طالب السلطة السياسية باعتماد (معالجات جذرية لحل
قضايا التمييز الطائفي والمناطقي والقبلي بكافة أشكاله،
ومعالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية - وعدم
اقتصار الحلول على المعالجات الأمنية التي لن تزيد الوضع
إلا اشتعالا - وذلك من خلال حل الإشكالات والمطالب المشروعة
والتي سبق وان طرحتها كافة الفئات والأطياف الاجتماعية
في المملكة، والتي من ضمنها وثيقة: شركاء في الوطن؛ التي
طرحها المواطن?ن في المملكة، وأولها إطلاق سراح المعتقلين
السياسيين ومعتقلي الرأي، بمن فيهم (السجناء المنسيين)
الذين مضى على اعتقالهم أكثر من ستة عشر عاماً بدون محاكمات
ولا أحكام، كخطوة أولى، وكبادرة ستساعد على تهدئة المشاعر).
بديهي أن مثل هذا البيان لن يلق قبولاً لدى السلطات،
بل استثار ثائرتها فعلاً؛ خاصة وأن هناك أسماءً لامعة
في المجال الحقوقي والسياسي والأدبي والإعلامي ومن مختلف
المناطق قد وقعت عليه. ان البيان صرخة احتجاج بوجه الطغيان
السعودي. الموقعون على البيان 64 شخصاً من بينهم: محمد
سعيد طيب؛ وعبدالله فراج الشريف؛ ود. عبدالمحسن هلال؛
والمفكر محمد العلي؛ ود. توفيق السيف؛ والناشط البارز
حقوقياً وليد أبو الخير؛ والحقوقي علي الدميني؛ ونجيب
الخنيزي، والشاعر والحقوقي عبدالمحسن حليت، والأديب محمد
زايد الألمعي، والأكاديمية د. فائ?ة محمد بدر؛ والحقوقية
وجيهة الحويدر، ونظيرتاها فوزية العيوني، وسمر محمد بدوي،
والشاعر عدنان العوامي؛ والفنانة منيرة موصلي، والناشطون:
عبدالرحمن الملا، وصالح الصويان، وعبدالله الحركان، ومحمد
القشعمي، وحمد الباهلي، وعبدالعزيز السويلم، وعقل الباهلي،
وعبدالرحمن الربيش، وعلي العنيزان، ود. عبدالرحمن الحبيب،
ومحمد آل قريشه اليامي، وكمال عبدالقادر، وعبدالله باقي،
وغيرهم.
|