|
مظاهرات القطيف: نوفمبر 2011
|
مواجهات وتظاهرات في القطيف
زمن الرصاص السعودي!
(شتاء دموي) في السعودية
عمر المالكي
زمن (الخصوصية) ولّى؛ فالنظام السعودي لم يختلف ولن
يختلف عن غيره من أنظمة الإستبداد، في مواجهة الحراك السياسي
المطالب بالإصلاح. ليست هي المرة الأولى التي يطلق فيها
النظام الرصاص على مواطنين متظاهرين في القطيف، بل سبقها
أن فعل ذات الأمر ومن طائرات الهيلوكبتر أيضاً في نوفمبر
1979. لا يمكن اكتشاف مدى شراسة نظام وتهوّره وحجم شهوته
للدماء إلا من خلال التجربة، وها هي بوادر التجربة في
محافظة القطيف الواقعة في شرقي السعودية.
لإعطاء خلفية عن الأحداث، يمكن القول أنه منذ بدايات
الربيع العربي، خرجت تظاهرات في عدة مدن وقرى في المنطقة
الشرقية حيث تتواجد آبار النفط ومعامل تكريره ومرافئ تصديره،
وقد ووجهت بالقمع والإعتقال، وإطلاق الرصاص في الهواء
للترويع، وإن أصاب هذا الرصاص بعض المتظاهرين، فإنه قد
حُمل حينها على أنه خطأٌ غير مقصود. وقد استمرت التظاهرات
لثلاثة أشهر بين فبراير وأبريل الماضيين، الى أن توقفت
التظاهرات تقريباً اعتماداً على وساطات من الوجهاء المحليين
مع حاكم المنطقة الشرقية الأمير محمد بن فهد، وكذلك على
أساس وعد من هذا الأخير بمراجعة مطالب المواطنين الخاصة
المتعلقة بإطلاق سراح السجناء السياسيين (المنسيين منذ
16 عاماً) وداعية المملكة الدستورية الشيخ توفيق العامر
وغيرهم؛ إضافة الى أن تعلن الحكومة رسمياً إلغاء سياسات
التمييز الطائفي وتجريم الحض على الكراهية والتكفير وغيرها،
فضلاً عن مراعاة التنمية المتوازنة خاصة بالنسبة لمنطقة
تعيش فوق بحيرات النفط ولا ينالها منه إلا القليل.
لكن الحكومة وبعد أن اطمأنت الى ما ظنّت أنه موت للحراك
السياسي في الشارع، لم تنفّذ شيئاً، بل زادت عدد السجناء،
وزادت من شراسة التعذيب الى حدّ استشهاد المواطن حسن عوجان
من تاروت، وهو في العشرين من العمر، تحت التعذيب في أغسطس
الماضي؛ كما وضيّقت السلطة الخناق على المواطنين في نقاط
التفتيش التي تهين المواطنين وتنغّص عليهم حركتهم، فضلاً
عما يجري فيها من إهانات متعمدة. وفي ذات الوقت حاولت
قوات الأمن ضرب الحراك المستمر منذ سنوات في مدينة (العوامية)
منتهزة فرصة الهدوء العام، فجهزت نفسها واقتحمت المدينة
واعتقلت رجلين مسنّين للضغط على ابنيهما لتسليم نفسيهما
لأنهما يشاركان في التظاهرات. هنا انفجر الشارع العوامي،
وحدثت صدامات، وجرح مواطنون برصاص الأمن، ثم زعمت الحكومة
ان أحد مواطني البلدة قد استخدم سلاحه وجرح بضعة جنود
من قوات الأمن (انظر العدد 108)، تراجعت على أثرها قوات
الأمن من داخل المدينة، وخنقت مدن وقرى المنطقة بنقاط
التفتيش في عملية عقاب جماعي متعمّدة. وفي أواخر شهر أكتوبر
بدا وكأن الأوضاع تتجه نحو التأزم، حيث عمدت قوات الأمن
الى اطلاق الرصاص بدون مناسبة، مرة في الهواء، ومرة تقصدت
به مواطنين يركبون سياراتهم، ومرة راحوا يكسرون زجاج المحلات،
في حملة طائفية ترويعية، وكأن المحافظة بلد مستباح لا
كرامة لأهله، وكأنها ليست جزءً من المملكة نفسها.
الشرارة بدأت يوم الأحد، 20/11/2011، حين تمّ اطلاق
الرصاص من نقطة تفتيش عند أحد مداخل مدينة القطيف وبشكل
عشوائي، أدّى الى مقتل الطالب ناصر المحيشي، كما جرحت
أمرأة من مدينة مجاورة هي صفوى، كما جرحت طفلة، واخترق
الرصاص منازل وسيارات. تكتمت الحكومة على الخبر، ولم تصدر
بياناً بالأمر، وانتشر الغضب في كل المدن والقرى، وبدأت
التظاهرات، خاصة وأن السلطات الأمنية رفضت تسليم جثة المحيشي
الى أهله لدفنه، وأبلغت بعض الوجهاء بأن الحكومة أرسلت
لجنة تحقيق!!
|
من شهداء القطيف (1979)
|
في مظاهرات اليوم التالي، الإثنين، 21/11/2011، استعدّت
قوات الأمن بحشود غفيرة من قواتها، ووضعت بعضاً من قناصتها
فوق المباني المرتفعة ومن بيناء أحد خزانات الماء. في
تلك المظاهرات سقط شخص آخر في مطلع العشرينيات من عمره
صريعاً برصاص أحد القنّاصة، وهو السيد علي فلفل من مدينة
القطيف نفسها؛ كما جرح نحو 7 أشخاص، إثنان منهم ن جراحهما
خطيرة، أحدهما في وضع (الميت سريرياً) وهو أحمد العرادي
الذي أصابته رصاصة في البطن واخترقت ظهره.
واصل المواطنون التظاهر، في اليوم الثالث الثلاثاء
22/11/2011، مع توارد أخبار عن نصائح وجهها بعض الوجهاء
الى أمير الشرقية محمد بن فهد، بأن يسلّم جثماني الشهيدين
الى ذويهما، وأن لا توغل قوات الأمن في الدم، لأنه لا
يمكن السيطرة على المحافظة بعدئذ. اعتبر المسؤولون الأمنيون
النصيحة تلك تهديداً، وأصرّوا على الإحتفاظ بالجثث. ووقعت
مصادمات وسقط جرحى في المظاهرات المتواصلة في صفوى والقطيف
والعوامية وتاروت والجارودية وغيرها.
في صباح يوم الأربعاء 23/11/2011، تم تسليم الجثمانين،
وحضر التشييع والتظاهر عشرات الألوف من المواطنين، وكانت
مشاعر الألم والإستياء والتحدّي واضحة. وبعد التشييع،
واصل المتظاهرون تظاهراتهم السلمية، الى مقربة من إحدى
نقاط التفتيش، وحسب ما تظهره الفيديوهات المسجّلة وبوضوح،
بدأت الحكومة بإطلاق الرصاص مرة أخرى، فسقط عدد من الجرحى،
واستشهد إثنان، أحدهما كان استشهاده قنصاً من القوات الخاصة
فيما يبدو، وهو علي القريريص في منتصف العشرينيات من العمر؛
اضافة الى استشهاد السيد منيب العدنان، في العشرين من
العمر. وقد شُيّع جثمانا الشهيدين بشكل منفرد، وبحضور
عشرات الآلاف من المواطنين في 26/11/2011.
وهكذا، استمرت التظاهرات، ولاتزال الى اليوم، بالرغم
من أن وجهاء المحافظة طلبوا من المواطنين أن لا يقوموا
بأي عمل سياسي (تظاهر) خلال الأيام العشرة الأولى من المحرم،
والتي بدأت في 27/11، وانتهت في 6/12. لكن المواطنين كانوا
يتظاهرون بشكل يومي، ويرفعون شعارات سياسية تعبر عن مطالبهم،
بينها الدعوة الى ملكية دستورية، وإلغاء سياسة التمييز،
وإطلاق سراح السجناء السياسيين، ومحاسبة القتلة وفق شعارهم:
(القصاص، القصاص، لمن أطلق الرصاص)!
لكن وحتى فجر 24/11 لم تصدر الداخلية أية بيان عن الأحداث،
وكانت تجربة بيانها في أحداث العوامية مخزياً، ألّب المواطنين
قبل غيرهم عليها، كونه نسب شريحة كبيرة من السكان (مليونين
على الأقل) كعملاء للخارج! في هذه المرة، كادت الحكومة
أن لا تتحدث، لكنها اضطرت وعلى خجل أن يصرح لرويترز الناطق
باسم الداخلية اللواء منصور التركي، بأن ما حدث هو أن
مواطنين ألقوا قنابل بترولية (مولتوف) على نقطة تفتيش
فتصدّت لهم القوات، دون أن يعترف بدور لقوات الأمن في
قتل أحد.
لكن لفجر يوم 24/11، وضع يستحق أن يروى، ففي مساء مقتل
آخر شهيدين 23/11، كان موقع (تويتر) يعجّ بالسعوديين الباحثين
عن الحقيقة. وبعد سماع سقوط شهيدين آخرين، تدحرجت كرة
الثلج ضدّ الحكومة، حيث أعلنت عشرات من الأسماء الكبيرة
من الإعلاميين والمدونين والحقوقيين والناشطين السياسيين
وحتى الأفراد العاديين، ومن مختلف المناطق، أعلنت ادانتها
للقمع الحكومي والأسلوب الطائفي الذي تعاطت به الحكومة
مع الأحداث، واستهتارها بالدم. كان الواحد منهم يكتب:
أنا فلان بن فلان، أو فلانة بنت فلان، أرفض قتل المواطنين
في القطيف وهدر دمائهم. في حدود الساعة الثالثة والنصف
من فجر 24/11 (بتوقيت السعودية)، ورغم أنه وقت غير ملائم
لاصدار بيانات، اضطرت الداخلية الى إصدار بيان تضع فيه
روايتها للأحداث، وفي الرابعة صباحاً ظهر الخبر على العربية،
التي لم تجد سوى مراسلها في جدة لازال صاحياً وهو عادل
المطيرفي ليعلق على الأحداث وليثني على البيان ويحمل المواطنين
المسؤولية، والعمالة للخارج!.
|
من شهداء القطيف (2011)
|
بيان الداخلية، حاول تجنّب اللغة المثيرة التي استخدمها
في بداية اكتوبر في بيانه بشأن أحداث العوامية. ولكنه
من الناحية الفعلية شدّد على أن هناك اطلاق رصاص انطلق
من المواطنين على قوات الحكومة، وليس قنابل مولوتوف كما
زعم سابقاً المتحدث باسم الداخلية، وزعم البيان أنه جرح
اثنان. والحقيقة ان القتلى والجرحى كلهم في صفوف المواطنين:
(وإن كان قميصه قدّ من دبر فكذبت وهو من الصادقين)! كما
زعم النظام أن الذين استخدموا العنف ضد قوات الأمن على
ارتباط بالخارج! بالرغم من اعتراف التركي بأن الأمن لم
يعتقل أياً من المهاجمين! ولم يجر تحقيقاً أصلاً.
الرواية الرسمية بدت باهتة جداً بعد سيل التنديد من
المواطنين مساء 23/11 وفجر 24/11 على تويتر، والبيان إنما
جاء بتحريض تلك المواقف الشجاعة والنبيلة. وما جعل الرواية
الرسمية غير مقبولة، وهزيلة جداً، هو أن تقرير بسيوني
فيما يتعلق بأحداث البحرين كان قد صدر في 23/11 وأثبت
أن إيران لم يكن لها دور في الأحداث، وإنما المشكلة محليّة..
وقد عزّز تقرير بسيوني قناعة المواطنين بأن النظام السعودي
يكذب هو الآخر، وأنه يستخدم الورقة الطائفية لتسوير نفسه،
وجذب الدعم له، ولكن في هذه المرة بالذات، انكسر خطاب
السلطة، وتحمّلت هي وحدها المسؤولية، رغم محاولات الصاق
تهمة القتل للمواطنين بالمجموعات المسلحة (شبيحة القطيف)!!
أي ان المواطنين يقتلون أنفسهم، وأن قوى الأمن جاءت لحماية
المواطنين!! وهذا كذب مفضوح؛ وزاد من فضحه بيان 5/12 للإصلاحيين
بشأن احداث القطيف والأحكام الصادرة بحق معتقلي جدة من
الإصلاحيين (انظر ص 2-3).
بالطبع فإن الحكومة في فترة صمتها وغياب بياناتها،
كانت حاضرة في مواقع التواصل الإجتماعي، خاصة في تويتر،
وكان رجالها يبثّون الشبهات، ويقدّمون روايات متعددة لما
جرى في القطيف، وكلّها تصبّ في خدمة النظام، ولكن النظام
نفسه لم يأخذ بأي منها في بيانه، فضلاً عن أنه وحتى اليوم
لم يثبت على رواية واحدة.
بالطبع، وكما يحدث عادة، قام النظام باستنفار أنصاره
الطائفيين، كما استنفر صحافته، واعلامه الرسمي، وراح ينسب
تصريحات لمواطنين وهميين بلا صوت ولا صورة، يؤيدون فيها
اجراءات القتل الحكومي، ويلقون باللائمة على المواطنين.
لكن المدهش هو أن المفتي قد استفزّ بما جرى في القطيف،
وأعطى تصريحاً لعكاظ يوم الخميس الأول من ديسمبر، هاجم
فيه من أسماهم مثيري الفتنة، وطالب بقمعهم، لأنهم عملاء
للخارج، وخوارج، وفئة ضالة، وشكك في إسلام المختلفين معه
في المذهب، وغير ذلك. ثم كرر الأمر بصورة أكبر في اليوم
التالي في خطبة الجمعة، دون أن يلتفت (أو يهتم في الحقيقة)
بأنه إنما يتحدث بلسان وزارة الداخلية، وأنه يكرر ادعاءاتها،
وأنه لم يسمع للطرف الآخر وروايته المثبتة بالصورة والصوت
في فيديوهات منتشرة.
الإعلام السعودي الرسمي بصحافته وصحافييه، عملوا بشكل
منظم لتثبيت مزاعم وزارة الداخلية وشتم المتظاهرين بل
والشيعة أنفسهم في تحريض طائفي بغيض، مثلما فعل امام الحرم
المدني الذي دعا علناً في احدى خطبه يوم الجمعة بطرد الشيعة
الى العراق!! هذا الإعلام، لم يكن موجهاً للمواطنين المحتجين،
لأنه لا يمكن أن يخدع من هو على الأرض ويعلم بالحقائق.
ومع هذا، فشل الإعلام في تسويق مزاعم الداخلية ولازال
على نفس المنوال القديم (عنزة ولو طارت).
أما ما هو المستقبل؟ فيمكن قول التالي:
1/ السعودية تمرّ بإرهاصات تحوّل غير عادية، وإن لم
تتمظهر في كل المناطق على شكل تظاهرات. يكاد السيل يبلغ
الزبى، ولم يصل النظام الى انكشاف سياسي واعلامي مثلما
هو عليه اليوم، ولم يبلغ بالمواطنين الحنق والغضب مثلما
هم عليه الآن.
2/ لا يظهر أن لدى النظام غير القبضة الأمنية خياراً
في التعاطي مع مشاكل البلاد المتعددة، ولا يبدو أنه يفكر
في القيام بأية اصلاحات سياسية.
3/ في موضوع القطيف بالذات، ستبقى المنطقة ملتهبة،
ولكن ـ وهذا يحدث لأول مرة ـ ظهرت بوادر تأثير أحداث القطيف
في مناطق أخرى، ما يعني ان الخطاب الطائفي الرسمي فقد
مصداقيته؛ وأن الشجاعة التي يتحلى بها أهل القطيف يمكن
أن تتكرر في أمكنة أخرى، وتحفّزهم على التظاهر والإحتجاج،
وهذا هو ما يقلق النظام اليوم.
4/ اعتمد النظام في معالجة الوضع في المنطقة الشرقية
على الخيار الأمني، والتجاهل، وضعف المبادرة، واعتماد
التواصل مع الوجهاء وليس مع من يمسك بالشارع والشباب،
وبالتالي لا يمكن ان يتوقع النجاح في التهدئة، خاصة وان
وعوده ثبت مراراً أنها كاذبة. وقد لوحظ أيضاً بأن الوجهاء
جميعاً لم يصطفوا هذه المرة مع النظام، مع انه حوّر تصريحاتهم
لصالحه، بل وزور وافتعل تصريحات لم يقولوها، وقد ظهر عدد
منهم وقال ذلك علناً.
5/ في ظل اصرار الشارع على التظاهر، والحكومة على المعالجة
الأمنية، يمكن أن تنفجر المنطقة الشرقية، في وقت يشعر
فيه النظام أنه محاصر بالإعلام الحديث (مواقع التواصل
الإجتماعي) وبحقيقة أن آبار النفط على مرمى حجر من المواطنين،
ويمكن أن تلتهب يوماً ما؛ لهذا هو يشعر بأنه غير قادر
على استخدام القبضة الأمنية بشكل موسّع، ولا هو قادر أيضاً
على مواجهة المخاطر والضغوط الأمريكية بالذات فيما يتعلق
بسلامة امدادات النفط.
هذا يعني أن البلاد تمر بمرحلة قريبة من الإنسداد السياسي،
والإحتقان الإجتماعي، وليس في المنطقة الشرقية وحدها،
وقد وصل الإحتقان الى داخل العائلة المالكة نفسها. هذا
هو احساس الكثير من المراقبين والناشطين المحليين حقوقياً
وسياسياً. وعليه يمكن أن نتوقع أي شيء في المستقبل غير
البعيد.
|