متغيّرات عكس التيار السعودي
هاشم عبد الستار
كما في تونس ومصر واليمن والبحرين وقبل ذلك العراق،
فإن آل سعود ليسوا سعداء، على الإطلاق، بأية تغييرات تحدث
في أي دولة تعتبر منطقة نفوذ لهم، أو على الأقل منطقة
لا تبطن تهديداً راهناً ومستقبلاً لدولتهم. يحرص آل سعود
على خلق بيئة متصالحة معهم، إن عجزوا عن تحويلها الى بيئة
خاضعة بصورة جزئية وكلية لهم..
هناك متغيّرات في أنظمة حكم شرق أوسطية قصمت ظهر الاستراتيجية
السعودية، فبعد عقد من حوادث سبتمبر 2001، والتي نقلت
السعودية الى مرحلة شديدة التحوّل والاضطراب، فإن بداية
العقد الثاني كان مرحلة أخرى أشد تحوّلاً واضطراباً وخطراً
بالنسبة للكيان السعودي.
في الدول التقليدية التي كان فيها النفوذ السعودي ثابتاً
وراسخاً تغيّرت الأحوال فيها بصورة دراماتيكية، مثل المغرب
(التي شهدت مؤخراً إنتخابات برلمانية أوصلت الإسلاميين
الى رأس السلطة)، واليمن (بثورتها الشعبية التي تحمل في
طياتها تهديداً جدّياً للنفوذ السعودي)، يضاف إلى ذلك
مصر وتونس..وحتى ليبيا التي اعتقد السعوديون كما القطريين
بأنهم قد تخلّصوا من خصم لدود وأن ليبيا ستكون مجالاً
لنفوذ سعودي ـ وهابي وقطري مالي وسياسي، تتحوّل الآن بطريقة
تختلف عما أريد لها أن تكون. في البحرين، التي مازالت
السعودية تعتقد بأنها تملك الكلمة الفاصلة في هذه المملكة
الصغيرة، تشهد هذه الآيام موجات احتجاجية متواصلة تنذر
بإطاحة النظام، وفي الحد الأدنى لن تنتهي دون تغييرات
جراحية كبرى.
ماعجزت السعودية عن تحقيقه في العراق بإعادة التاريخ
الى الوراء عبر الرصاص وصناديق الاقتراع، عجزت كذلك عنه
في لبنان وتعجز اليوم عن تحقيقه في سورية.
لبنان: إعتقدت السعودية بأن فوز حليفها 14 آذار بأغلبية
المقاعد في الانتخابات البرلمانية اللبنانية في منتصف
2009، سيقضي على النفوذ الايراني في لبنان وعلى شعبية
حزب الله. وراهنت السعودية وحلفائها في لبنان على أن قضية
اغتيال رئيس الوزراء الأسبق وما ترتب عليها من آثار أبرزها
المحكمة الدولية سوف تشكّل ضمانة لرسوخ النفوذ السعودي،
وتمهيداً لإضعاف خصومها من خلال تسليط سيف المحكمة والمطالبة
بنزع سلاح حزب الله.
وفّرت السعودية كل أشكال الدعم لحكومة 14 آذار، وحتى
حين اندلعت الحرب على لبنان في تموز (يوليو) 2006، أصدر
الملك عبد الله قراراً بإيداع نصف مليار دولار في الخزينة
اللبنانية دعماً لعملة الليرة، اعتقاداً من السعودية بأن
الحرب سوف تقضي على حزب الله والنفوذ الإيراني وستمهّد
السبيل لنفوذ سعودي حاسم ونهائي وبدون منافس.
ولكن في 12 كانون الثاني (يناير) 2011 وضعت المعارضة
اللبنانية خاتمة مباغتة لحكومة سعد الحريري بعد استقالة
وزراء المعارضة وأحد وزراء رئيس الجمهورية، ونجحت المعارضة
في اختيار نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة بديلاً وأدّى ذلك
الى إضعاف قوة 14 آذار وسدّدت بذلك ضربة قاصمة للأخيرة،
وفقد جناح سعد الحريري حلفاء فاعلين مثل التكتل الطرابلسي
الممثل في نجيب ميقاتي ومحمد الصفدي واللقاء الديمقراطي
بزعامة وليد جنبلاط بعد انسحاب مروان حمادة منه..
وفي المحصلة، فإن السعودية لا تملك اليوم في لبنان
أوراق كثيرة تلعب بها في المساومات السياسية، باستثناء
ما ترجو كسبه في التطوّرات الإقليمية، وخصوصاً في سورية.
سورية: خسارة النفوذ السعودي في لبنان لم يكن قابلاً
للتعويض بسهولة، بعد أن تراجعت فرص سعد الحريري بالعودة
مجدداً الى الواجهة، ولذلك جرى التعويل على التغييرات
المأمولة في سورية، وهذا ما يفسّر ضلوع قوى 14 آذار في
تهريب السلاح الى سورية والتحريض على العنف وايواء بعض
الجنود الهاربين من الجيش السوري، وتشجيع قيام منطقة عازلة
في الشمال اللبناني..
دخلت السعودية على خط الأزمة السورية من باب الاستثمار
السياسي فحسب، وقد كشف الأمير تركي الفيصل عن محادثات
جرت بين مسؤولين سعوديين وسوريين حول الملفين اللبناني
والسوري، ولكن المحادثات انهارت ليس بسبب (الخلافات حول
كيفية احتواء الأزمة المتزايدة في لبنان وسفك الدماء في
سوريا)، كما نقل الأمير تركي، ولكن لأن الجانب السوري
قدّم عرضاً مفاده بأن تقبل سورية بعودة سعد الحريري الى
دفة الحكم في لبنان، وأن يوقف الإعلام العربي التابع لإيران
التحريض على الثورة في البحرين مقابل أن تعمل السعودية
وحلفائها على تهدئة الأوضاع في سورية..وقيل بأن أمير قطر
عرض على الرئيس السوري 16 مليار دولار للقبول بعودة سعد
الحريري الى الحكم في لبنان، ولكن الجانب السوري رفض تلك
المساومة، بل وأبلغ الإيرانيين بأن لا يقحموا الورقة السورية
في أية مفاوضات غير مباشرة مع أطراف خليجية أو غربية وأنهم
ليسوا في وضع يدفع الى المساومة على وضعهم.
الامير تركي الفيصل قال صراحة بأن خطّة الجامعة العربية
هي بقيادة المملكة، بما في ذلك السماح لمراقبين عرب وأجانب
بالدخول الى مناطق ومنشآت حسّاسة في سورية، وإخضاع المراكز
المدنية والعسكرية والمؤسسات الحكومية الى عمليات تفتيش
دائمة من قبل المراقبين العرب والاجانب. وبالرغم من أن
الجانب القطري ممثلاً في رئيس الوزراء ووزير الخارجية
الشيخ حمد بن جاسم هو من يضطلع بصورة مباشرة بالتفاوض
بإسم الجامعة العربية مع الجانب السوري، فإن أهداف خطة
الجامعة تراعي مصالح السعودية في سورية ولبنان، وهذا ما
يفهمه السوريون تماماً. يتحدّث مصدر سياسي مطّلع في لبنان
بأن القطري يزرع والسعودي يحصد، وليس هناك من ضير بأن
يمسك الشيخ حمد بن جاسم المايكرفون كما لو أنه لعبة أطفال
جديدة، طالما أن الأضرار ستصيبه وحده، فيما المكاسب ستكون
من نصيب الجانب السعودي.
كانت السعودية في طليعة الدول المبادرة إلى (استدعاء)
سفيرها من دمشق، في خطوة وصفت بأنها تشجيعية لدول أخرى
للإقدام على خطوات مماثلة، ورغم كثافة الضغوط على النظام
السوري إلا أن النتائج المرجوة لم تتحقق حتى في حدودها
الدنيا، بل هناك اليوم حديث عن سورية الإعلام وسورية الواقع،
أي سورية التي تنعكس في الاعلام وخصوصاً الفضائي منه كما
تصوّره قنوات عربية باتت معروفة في انحيازها الكامل لأنظمة
خليجية مثل السعودية وقطر، وهناك سورية على الأرض كما
يعكسها الزائرون والتي تختلف كثيراً عن سورية الإعلام،
من حيث مستوى التدهور الأمني، وأعداد القتلى، وحجم المظاهرات
وتعدادها، ومساحة انتشارها. ويكفي لمن يزور العاصمة وضواحيها
بأن لا يجد أي حضور عسكري يوحي بأن ثمة أوضاعاً استثنائية
تشهدها البلاد. ما هو أكثر من ذلك، أن الاختناقات المروية،
وكثافة حضور الناس في الشوارع والاسواق العامة، والمطاعم،
والحدائق وسير المعاملات اليومية بصورة اعتيادية يكشف
عن أن هذا البلد لا يعيش وضع ثورة شعبية، بل هناك أصوات
تنادي اليوم في أرجاء مختلفة بأن الأمن والكرامة الوطنية
واستعادة هيبة سورية أهم من الإصلاحات نفسها، وأن وجود
المسلّحين وارتباطات المعارضين المشبوهة أضاع فرصة تاريخية
يمكن أن تنقل سورية الى دولة ديمقراطية تعددية حقيقية.
أين السعودية من ذلك كله؟ السعودية لا تحارب بنفسها
في أي ساحة يمكن أن تشتمل على أخطار وتداعيات على وضعها
الداخلي، فالخطاب الطائفي المتصاعد في سورية والذي أدّى
الى إخافة السوريين ونفورهم كان سعودياً وهابياً وهو عامل
فشل في الثورة السورية، وأن التنسيق السعودي التركي منذ
زيارة الأمير سعود الفيصل الى أنقره في 17 آذار (مارس)
من هذا العام (2011) ودعا تركيا بدور نشط في إحتواء التوتّرات
في الدول العربية. ورغم أن هدف الزيارة تلك هو شرح وجهة
نظر السعودية بعد دخول قوات درع الجزيرة الى البحرين عقب
اندلاع ثورة 14 فبراير، إلا أن الأمير سعود الفيصل أراد
في الوقت نفسه التأسيس لتنسيق مستقبلي فيما يرتبط بملف
الثورات العربية، وهذا ما ظهر إبان الثورة الليبية، ويظهر
الآن بصورة جليّة في الموضوع السوري، حيث زار مهندس السياسة
الخارجية التركي أحمد داود أوغلو مدينة جدة في 10 تمو
(يوليو) الماضي، والتقى نظيره سعود الفيصل، وقد تركّز
اللقاء حول ملف الأزمة السورية، وقام الجانب التركي بنقل
وجهة النظر السعودية الى طهران التي طار إليها من جدّة،
في إشارة واضحة إلى أن ثمة مساومات تجرية بين عدد من الأطراف
يكون الملف السوري أبرزها.
تنقل مصادر مقرّبة من الحكومة السورية إلى زيارات متفرّقة
تجري في السر بين الرياض ودمشق، ويقوم بها أشخاص مقرّبون
من صنع القرار في البلدين. أحد هذه المصادر كان في دمشق
قبل نحو شهرين، وسئل من الجانب السوري: ماذا يريد السعوديون؟
فأجاب: السعودية تريد عودة سعد الحريري إلى الحكم، وفك
الإرتباط بإيران، ونزع سلاح حزب الله.
وقد عاد الوسيط السعودي الذي ينتمي الى السلك الأمني
الى الرياض ليبلغ الأمير نايف بأن السوريين ليسوا على
استعداد للتفاوض على نقطتين أساسيتين: العلاقة مع ايران
وسلاح حزب الله، ولكن فيما يرتبط بعودة سعد الحريري فيجب
أن يتم ذلك ضمن صفقة أكبر..وقد فسّر بعض المراقبين استئناف
سعد الحريري لنشاطه الإعلامي والسياسي بأنه مؤشر على ارتفاع
أسهمه في بورصة التسويات السياسية.
لايبدو أن آل سعود قد ربحوا حتى الآن الجولة في سورية
رغم أنهم استثمروا كثيراً في أزمتها، بل هناك ما يشير
الى تراجع فرص نجاح الرهان على سقوط النظام السوري، فقد
أبدى تماسكاً وقوة واستعداداً لمواجهة حتى الحرب الخارجية،
الأمر الذي دفع تركيا التي كانت مستعدّة لأن تدير أي مواجهة
عسكرية مع النظام السوري إلى التراجع وإطلاق تصريح معبّر
في 7 كانون الأول (ديسمبر) بأنها لن تسمح بجعل أراضيها
مكاناً للحرب على أي بلد آخر، في إشارة إلى سورية. يضاف
إلى ذلك خطوات أخرى ذات دلالة واضحة مثل عودة سفراء واشنطن
وباريس وبرلين، فضلاً عن تراجع ضغوطات الجامعة العربية
على دمشق فيما يرتبط بالبروتوكول الخاص بإرسال مراقبين
الى دمشق.
في المحصّلة، كل ما يجري في سورية الآن يسير عكس ما
تريده السعودية، ويخشى أن تدفع الأخيرة ثمن أخطاءها الفادحة
من نفوذها وقد ينعكس على أمنها ونفوذها، وقد حذّر الأميركيون
السعوديين في بداية التسعينيات من الدخول في مغامرات مع
السوريين لأنهم يثأرون ممن يخدعهم ويتآمر عليهم، وجاء
التحذير على خلفية مخطط سعودي اسرائيلي لاختراق الجيش
السوري بهدف إطاحة النظام.
مصر: عاشت السعودية في عهد الرئيس المصري المخلوع حسني
مبارك أفضل سنواتها، فالفترة الممتدة منذ العام 14 تشرين
الأول (أكتوبر) 1981 وحتى مساء 11 شباط (فبراير) 2011،
حيث أعلن نائبه عمر سليمان قرار تخلّي مبارك عن السلطة،
لم تشهد العلاقة بين ملوك ال سعود وكبار أمرائها هزّات
أمنية عنيفة، بل كان الإنسجام سائداً في هذه العلاقة الاستراتيجية
والمصيرية، ولذلك فإن ما يقوله تركي الفيصل عن المكانة
الخاصة لمصر لدى آل سعود، إنما تعني العقود الثلاثة الأخيرة
من تاريخ مصر، والتي فقدت فيها الأخيرة جزءاً جوهرياً
من مكانتها التاريخية، ودورها الاستراتيجي والحيوي، بسبب
خضوع الرئيس المصري المخلوع مبارك تحت تأثير النفوذ السعودي
عن طريق المساعدات والهبات المشروطة التي يقدّمها لمبارك.
وكان لوقوف الأخيرة إلى جانب النظام السعودي في كل خصوماتها
ومعاركها سواء خلال الحرب العراقية الايرانية حيث كان
نظام مبارك يشارك دول الخليج مواقفها ضد إيران، وحين غزت
قوات صدام حسين الكويت في آب (أغسطس) 1990، شاركت القوات
المصرية الى جانب جيوش قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات
المتحدة لتحرير الكويت، الى جانب وقوف مبارك مع السعودية
في خندق الاعتدال الذي يضم الدولة العبرية ودول مجلس التعاون
الخليجي والأردن، في مقابل معسكر الممانعة الذي يضم ايران
وسورية وحزب الله وحماس، وقد يكون ذلك أحد الأسباب المحرّضة
على الثورة الشعبية في مصر، حيث تعرّضت الكرامة المصرية
لجرح عميق بفعل وقوف مبارك الى جانب الكيان الاسرائيلي
في الحرب على المقاومة في فلسطين ولبنان.
لم يكن متوقّعاً من السعودية أن تناصر قضية الشعب المصري
في ثورته العادلة ضد نظام حسني مبارك. وقد ذكر الأمير
تركي الفيصل بأن(الملك عبدالله كان على علاقة وثيقة مع
الرئيس السابق حسنى مبارك)، وكان من الطبيعي أن يكون (التخلي
عن حليف وثيق الصلة ليس من ضمن خيارات المملكة..) حسب
قوله، فقد أعطى مبارك لآل سعود ما لم يعطه رئيس مصري سابق..
اعتراف السعودية بالواقع الجديد ليس بملء إرادتهم،
فالملك والأمراء الكبار لا يزالون يكيدون لثورة مصر بالمال
والفتنة، وبات المصريون على علم بما تحيكه السعودية من
مخطط لاستعادة سيطرتها على مركز القرار السياسي في مصر،
وأن ما وعدت به من قروض وودائع ليست بدون شروط كما يدّعي
الأمير تركي الفيصل، فقد بات معلوماً أن آل سعود إنما
إرادوا من خلال هذه القروض النفوذ الى مصر عبر ما بات
يعرف بالثورة المضادة، حيث يفعل المال السعودي فعلاً فتنوياً
على المستوى الاجتماعي، والسياسي، والديني.
|