السعودية وجيرانها..
سوار من نار
عبدالحميد قدس
إرتفع مستوى القلق لدى آل سعود منذ تنحي الرئيس المصري
حسني مبارك عن السلطة في 11 كانون الثاني (يناير) من هذا
العام (2011)، وباتوا يتصرّفون على أنّهم يجب أن ينزعوا
الشوك بأنفسهم..
(لا نثق بالأميركيين) عبارة ردّدها الملك والأمير نايف
لمشايخ الخليج، ولكن مالبث أن سعى المسؤولون الأميركيون
إلى تبديد مخاوف آل سعود من انقلاب الحليف الإستراتيجي
عليهم في ظلِّ التحوّلات التاريخية الكبرى التي تشهدها
منطقة الشرق الأوسط. حتى الآن، أطلق الأميركيون إشارات
إيجابية بالنسبة للسعودية فيما يرتبط باليمن، وتشجيع كل
القوى السياسية والإجتماعية على قبول المبادرة الخليجية
(السعودية)، وقبل ذلك كان الأداء في ليبيا مقبولاً بالنسبة
لآل سعود، مادام الأمر متعلقاً بالخصوم..
ذكرنا في مقال سابق بأن السعودية خسرت أمنها الاستراتيجي
منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر وخروج باكستان وأفغانستان
من دائرة النفوذ السعودي، ما قطع الطريق على مدار جيوسياسي
في منطقة الشرق الأقصى وكذلك آسيا الوسطى يمكن للسعودية
أن تلعب فيه لمشاغلة خصومها، ثم جاء الربيع العربي ليفقد
السعودية أمنها القومي بعد أن شهد عدداً من الدول العربية
الحليفة تقليدياً للسعودية ثورات شعبية أفضت الى تغيير
الرؤوس بانتظار تغيير الأنظمة، ولم يتبقَّ أمام السعودية
سوى أمنها الوطني الذي تحاول الحفاظ عليه عبر أسلوب التدخّل
المباشر في شؤون الثورات العربية وخصوصاً في البلدان المحيطة
بالمملكة (اليمن، البحرين وأخيراً سورية)..
لا شك أن السعودية تعيش اليوم أسوأ أيامها، كونها تجد
نفسها واقعة في بيئة خصاميّة، فكل جيرانها إلاّ ما ندر
تصنّف اليوم إما في خانة الخصوم مثل إيران والعراق أو
مرشّحة لأن تكون كذلك (اليمن، البحرين، مصر)، أو دول يراد
لها أن تبقى حليفة مثل الأردن ودول مجلس التعاون الخليجي.
بالنسبة لآل سعود، ليس هناك ما يمكن وصفه بالحليف في الوقت
الحاضر، فالربيع العربي جعل كل الدول المجاورة باعتبارها
خصوماً إما مباشرين أو غير مباشرين..
رئيس الاستخبارات السعودية السابق، والسفير في واشنطن
ولندن سابقاً الأمير تركي الفيصل تحوّل الى ما يشبه منظّر
دعائي. فهو وإن يك يحاول تصنيع صورة مفتعلة عن نظام الحكم
الذي تديره العائلة التي ينتمي إليها، فإنه لايخفي أحياناً
طبيعة الأخطار المحدقة بالكيان، وإن سعى لوضع الأخطار
في سياق مختلف..الأمير تركي الفيصل يدرك بأن المملكة تواجه
أخطاراً أمنية جديّة، وخصوصاً مع الدول التي تتقاسم المملكة
معها حدوداً بريّة كبيرة مثل العراق واليمن، والسبب أن
عناصر القاعدة التي أريد إخراجها الى هذين البلدين، يخشى
دائماً من عودة العناصر الى الديار سواء بفعل عوامل تنظيمية
أو بسبب صعوبة الظروف السياسية وبيئة العمل..
محاضرة تركي الفيصل في جامعة قوات مشاة البحرية الأميركية
المارينز في قاعدة كوانتيكو العسكرية بالقرب من واشنطن
في العاشر من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي بعنوان (عقيدة
الأمن الوطني السعودي خلال العشر سنوات القادمة) اشتملت
على عناوين عديدة، من بينها تأثيرات ما يجري في الجوار
على الامن في السعودية. ويرى الفيصل بأن (عدم الاستقرار
في اليمن يمثّل خطرأ أمنياً على السعودية)، وأرجع ذلك
إلى نشاط تنظيم القاعدة المتزايد، وأن ذلك يعود إلى كون
اليمن (أقرب دول الجوار للمملكة)، وأن تنظيم القاعدة قد
أقام قواعد له في المناطق الجبلية خارج العاصمة، وهي مناطق
لا تخضع لسيطرة الحكومة، وأن هؤلاء العناصر عقدوا اتفاقيات
حماية وتموين مع زعماء القبائل، ما يلفت الى تجربة تنظيم
القاعدة في منطقة القبائل الحدودية الباكستانية.
بالنسبة للسعودية فإن سقوط النظام في اليمن يدق ناقوس
الخطر في المملكة، ولكن قد يكون مشاغلة القبائل والقوى
الإجتماعية في حروب موضعية (دون الوصول الى حرب أهلية
تكون عابرة للحدود) خياراً آخر من أجل عدم انتقال الخطر
الأمني الى داخل الحدود في الطرف الآخر. المبادرة الخليجية،
بحسب ما يقول تركي الفيصل، هو ضمان ليس انتقال سلمي للسلطة
في اليمن، لادراك السعودية ودول خليجية أخرى بأن المبادرة
مرفوضة من قبل الغالبية الساحقة من الشعب اليمني، وإن
التوقيع على المبادرة في الرياض بين الرئيس اليمني علي
عبد الله صالح وقوى اللقاء المشترك، وتكليف محمد باسندوه
بتشكيل حكومة انقاذ وطني لن تصل الى مستوى إخماد الثورة
الشعبية بل لحظت السعودية زيادة الزخم الشعبي والثوري
عقب التوقيع، كما ظهر في مظاهرات يوم الجمعة 2 كانون الأول
الجاري والتي أطلق عليها (جمعة الاستقلال)، وأسقط بذلك
المبادرة قبل تمريرها على الشعب اليمني وثورته المتصاعدة.
تحدّث الأمير تركي عن برنامج مساعدات المملكة لليمن
والذي توقّف في الوقت الراهن بحجة غياب الاستقرار في اليمن،
والحال أن قرار التجميد يعود الى أن الوضع في اليمن ليس
محسوماً، ويخشى آل سعود بأن يخرج اليمن من نطاق نفوذها،
الأمر الذي يتطلب ضغوطات متواصلة على الشعب اليمني سواء
عبر تجميد المساعدات، أو تحريك بعض الجماعات السلفية في
محافظة صعدة للدخول في مناوشات عسكرية مع الحوثيين، أو
تشجيع بعض قوات النظام اليمني لارتكاب جرائم في مناطق
ناشطة مثل تعز للحيلولة دون وصول الثورة الى مرحلة قريبة
من الانتصار، ما يفقد السعودية والدول الخليجية المعنيّة
بالملف اليمني فرصة الالتفاف على الثورة اليمنية من خلال
فرض مشاريع مشبوهة أو قاصرة عن بلوغ درجة الاستقلال الوطني.
|
ربيع عربي مخيف للسعودية
|
يقال الشيء نفسه بالنسبة للعراق، الذي تشترك المملكة
معه بحدود طويلة تصل الى 814 كيلومتراً، وقد أعلن وزير
الداخلية السعودي الأمير نايف، ولي العهد الحالي، في 14
تشرين الثاني (نوفمبر) 2006 بأن المملكة ستبدأ في العام
المقبل (2007) العمل على مد سياج أمني بكلفة 12 مليار
دولار يمتد 900 كيلومتر بطول الحدود مع العراق، وقال بأن
(ان اقامة سياج حدودي فاصل مع العراق هو أمر ضروري لحفظ
الامن..وأتوقع بدء أعمال انشاء الجدار الحدودي العام المقبل)،
وبرر الأمير نايف هذا السياج الأمني الضخم وغير المسبوق
في تاريخ الحدود الدولية بأنه (لمنع تسلّل الإرهابيين
إلى أراضيها).
ذاك كان ظاهر المشكلة، ولكن يبدو أن قضية آل سعود مع
العراق لم تكن وجود إرهابيين ينتمون اليهم ويخشون عودتهم،
ولكن مشكلتهم في جوهرها هي مع العراق الجديد. وهو ما عبّر
عنه الأمير تركي الفيصل بطريقة أخرى، ولكنها كافية لأن
تكشف عن حقيقة الهواجس السعوديّة. فقد طالب الأمير تركي
في محاضرته سالفة الذكر، بصدور قرار من مجلس الأمن (لحماية
الأراضي العراقية)، والهدف من ذلك (للوقوف ضد الطموحات
الخارجية في العراق)، في إشارة إلى إيران.
كلام الأمير تركي أمام الجنود الأميركيين كان موجّهاً
وانتقائياً، إن لم يكن تعبوياً وتحريضياً، فهو يتحدث إلى
جهة موكلة بمهمة الإنسحاب من العراق، وهي على عداوة مطلقة
مع إيران، ولذلك فهناك دافع واضح لإيصال رسالة من نوع
خاص. ولذلك خاطب الجنود بلغة العداوة، وكأنّه يخبر عن
أمر لا يدركونه كقوله (قادة إيران يتدخلون في شؤون الدول
الأخرى ويبذلون جهودهم لتحقيق عدم الاستقرار في الدول
التي توجد فيها أغلبية شيعية مثل العراق والبحرين والدول
التي توجد فيها أقليات شيعيه مثل الكويت ولبنان). والسؤال
هل أمر التدخل في شؤون الدول الأخرى يقتصر على إيران وحدها
بين دول العالم، والخطاب لمن؟ لجنود دولة تحتّل قواتها
بلدين مسلمين بناء على مقررات مجلس الأمن الدولي وهما
أفغانستان (2001) والعراق (2003)، وأليس الولايات المتحدة
تتدخل عبر سفرائها في كل دول العالم، وفي مقدّمها الدول
العربية والإسلامية، بل وحتى السعودية أليست هي تفعل الأمر
ذاته في الدول العربية والإسلامية الأخرى، وأليست قواتها
تحتل البحرين دون وجود خطر خارجي يبرر هذا الاحتلال، بحسب
تقرير لجنة تقصّي الحقائق التي يرأسها الدكتور شريف بسيوني؟
حديث الأمير تركي عن العراق وكأنه يتحدّث عن منطقة
نفوذ يجب أن تخضع تحت تأثير المملكة، ولا يجب أن يتفاعل
مع محطيه، متناسياً وجود إحتلال أميركي، ما يجعل جملة
أن (الكثير من إمكانيات العراق قد تم سحقها بواسطة السياسات
الإيرانية)، دون أن يشرح الأمير تركي ذلك، وكيف حصل، رغم
أن العراق بقي تحت الاحتلال الأميركي ومازال؟ اللهم إلا
أن يكون كلام الأمير تركي للجنود الأميركيين بهدف تصعيد
وترسيخ الخطر الإيراني لناحية دفع الإدارة الأميركية للتفكير
بصورة جديّة في حلول لمعالجة الفراغ الذي سيتركه رحيل
القوات الأميركية من العراق. ولذلك لجأ الأميركي تركي
الى كل ما من شأنه شحن طاقة القلق لدى الأميركي بقوله
(العراق الذي سبق أن شنّ حرباً دموية ضد إيران أصبح الآن
ساحة بارزه للنفوذ الإيراني المتزايد وهناك الآن أشخاص
ومجموعات في العراق خاضعين تماما لمرشد الثورة الإيرانية
خامنئي) ووصف هذا السلوك بأنه (غير مقبول وسيء بالنسبة
لبلد يتميز بتعددية دينيه مثل العراق). وعلى فرض صحة ذلك،
أليست هناك مجموعات مسلّحة مرتبطة بصورة مباشرة بالمخابرات
السعودية وبشخص الأمير مقرن بن عبد العزيز، وكذلك وجود
شخصيات سياسية رفيعة وأحزاب عراقية رئيسية مرتبطة بالقيادة
السعودية، وتنسّق معها في المواقف والسياسات، بل إن تقارير
القوات الأميركية في العراق كشفت على مدى ثمان سنوات عن
ضلوع أجهزة أمنية سعودية في تفجيرات وعمليات انتحارية
داخل العراق، حتى بلغ سجّلت نسبة مشاركة العناصر السعودية
في دوامة العنف في العراق الأعلى بين الجنسيات الأخرى.
لاريب أن الأميركيين يعلمون تماماً الدور السعودي السلبي
في العراق، وأن حديث الأمير تركي عن (أن المملكة تحتفظ
بمسافة متساوية من جميع الفئات العراقية الحالية) مجرد
هراء إعلامي لا يؤخذ قط بجديّة من قبل المسؤولين الأميركيين،
بل ما هو انكى اعتبار تلك المسافة المتساوية المزعومة
سبباً كافياً لعدم إرسالة سفير سعودي إلى العراق، فيما
يعلم الأميركيون، وعلى وجه الخصوص نائب الرئيس الأميركي
السابق ديك تشيني الذي سعى لإقناع الملك عبد الله بإرسال
سفير الى بغداد، أن السعودية محثوثة بدوافع طائفية في
رفض استئناف العلاقة مع الحكومة العراقية الجديدة.
تحدّث الأمير تركي عن سياسة سعودية باتت سارية مع كل
الدول التي يمكن إخضاعها للمقايضات السياسية. فالمال السعودي
يعمل كفاعل حاسم في المساومات، هكذا كان الحال في لبنان،
وسوريا، واليمن، والمغرب، ومصر والأردن، والبحرين، وأخيراً
العراق المدين للسعودية بأكثر من 25 مليار دولار. يعرض
الأمير تركي على العراق الجديد: التنازل عن معظم هذا الدين
بشرط إنهاء النفوذ الإيراني في العراق، ولربما يكون هذا
العرض برسم كل من يستطيع تحقيق هذا الهدف.
يبدو أن الفهم السعودي للأمن يكتسب دلالاته من خلال
علاقة الأمن بالعلاقة بالولايات المتحدة وبالطاقة الممثلة
في النفط. فهو يستدرج دعماً أميركياً حين يقول (إن المملكة
باستقرارها ونفوذها تشعر بأنها في موقف يمكن من أداء دور
إقليمي وعالمي هام)، فالخصائص الذي يسردها الفيصل للمملكة
السعودية تستهدف بدرجة أساسية التأكيد على جدارة المملكة
للحصول على الدعم الأميركي في مواجهة المتغيرات التي تشهدها
المنطقة، وأن العراق بعد الانسحاب الأميركي منه يفرض تحدّيات
جديدة وعلى الولايات المتحدة تأمين كل مصادر الحماية لمنابع
النفط..والسلطة في السعودية!
فيما يخصّ الثورات العربية، أقرّ الأمير تركي بأن العالم
العربي شهد ثورات شعبية في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن
والبحرين (في ثورات أسقطت أو ربما تسقط حكومات تلك الدول).
وقال بأن (موقف المملكة تجاه الدول الأخرى يهدف إلى تقوية
حلفائها في المنطقة وخارجها والمساعدة على استقرار جيرانها).
كلام في غاية الوضوح، وهو أن المملكة ضد التغيير الذي
يؤدي الى ضعف نفوذها وحلفائها وأن الاستقرار في الجوار
إنما يتحقق من خلال وجود حلفاء لها.
|