دولة القلق
كل شيء فيها بات يثير القلق، ولا مؤشر على إقتراب وشيك أو منظور
أو حتى بعيد من الفكاك منه، فالمستقبل يخبىء لقاطني هذه الدولة الشيء
الكثير من القلق.
التعليم بكافة مراحله، والصحة بمجمل خدماتها، والتوظيف في كل
مستوياته، والأمن بكل أبعاده، أصبحت عناوين قلق يومي للسكان، فطاحونة
القلق تزج بالعوائل في متاهات لا تدرك كيفية الخلاص منها. فالأبناء
يبلغون العمر التأهيلي للانتظام في صفوف الدرس، ولكن لا مدارس كافية
تضمهم فضلاً عن كون المتوفر منها غير مصممّ وفق مقاييس المدرسة
النموذجية، وإذا ما أنهوا المرحلة الثانوية فإن عذاباً عسيراً ينتظر
أبناءهم، لا فرق في ذلك بين من حصل على درجات متدنية أو حاز الدرجة
الكاملة، فكلهم سواء في العذاب والقلق، فعلى أعتاب جامعاتنا تتحطم
طموحات من سهروا الليالي وكافحوا من أجل بلوغ أحلامهم الكبيرة، فمن
كان يحدّث نفسه بأن يكون طبيب المستقبل ساقه القدر الى أي من الكليات
التي لم تقفل أبواب القبول فيها بعد. ولن يضع القلق أوزاره لدى
العوائل حتى حصول فلذات أكبادهم على مقعد جامعي، وإن كان في تخصصات
لا تتفق مطلقاً مع طموحات وميول الطلبة. وهل يقف الأمر عند هذا الحد؟
مرحلة قلق جديدة تندلع بعد التخرج، بحثاً عن وظيفة، فالأعداد
الغفيرة من المتخرجين سنوياً يتدافعون بطلبات التوظيف على مكاتب
العمل الحكومي وشركات القطاع الخاص، ويمضي كثير منهم شهوراً وأحياناً
سنوات دون جدوى، فيما يضطر بعض من أوصد القلق أبواب الأمل في وجوهمم
لقبول وظيفة حارس معمل، أو سائق باص عمومي، أو محاسب في متجر صغير،
أو نادل في مطعم، أما البقية فتضاف الى مجتمع البطالة التي بلغت
معدلات مخيفة.
في المجال الصحي، ثمة قصة قلق أخرى، فقد أخذتها الدولة من قصيرها،
كما يقولون، وأقرّت ضمنياً بأنها عاجزة عن الايفاء بالحد الأدنى من
متطلبات الخدمة الصحية للسكان، وفرضت سياسة التأمين الصحي على
الشركات والمؤسسات الخاصة، وستعمم هذه السياسة في وقت لاحق لتشمل
كافة السكان. فالنقص الحاد في الأدوية، والمستشفيات، والمراكز الصحية
الحكومية يتم تغطيتها من خلال تفويض المستشفيات الخاصة بكل عوراتها
وعيوبها من إرتفاع أسعار العلاج فيها بصورة حادة، الى التنافس
التجاري غير الشريف فيما بينها. والمصيبة، أن اوضاعاً إقتصادية
مترديّة تعيشها العوائل تجعل منها عاجزة عن تغطية نفقات العلاج في
المستشفيات الخاصة.
وجاء قلق الأمن ليزيد الطين بلة، فقد أصبحت حياة المواطن وأمنه في
خطر، وحتى الآن لم تفلح الدولة في القيام بسمؤوليتها في توفير غطاء
أمني لمن تسود، يخبر عن ذلك انتشار السلاح وتهريبه وحوادث الاغتيال
والقتل والجريمة بأشكال مختلفة، حتى باتت النساء في بعض المدن،
كالطائف وجدة وفي الشمال يحملن السلاح دفاعاً عن أنفسهن، فضلاً عن
المصادر الأخرى لتهديد الأمن، وأبرزها التفجيرات والمواجهات المسلحة
التي يسقط فيها أبرياء، ونساء وأطفال، وتخرّب فيها البيوت والمنشآت
الحيوية، الى درجة أن الناس باتوا لا يأمنوا الخروج من بيوتهم أو
التنزّه في الحدائق العامة، أو حتى التسوّق في المراكز التجارية
لشعورهم بأن حياتهم مهددة، من قبل مجموعات إرهابية منبثة في داخل هذه
البلاد، وفشلت الدولة حتى الآن في القبض عليها أو التعامل الصحيح
معها.
مصادر القلق تنوّعت وتشعبت، وبدلاً من أن ينظر الناس الى الدولة
كمصدر حماية لهم، ومصدر رفاه لهم ولأبنائهم وضامن لمستقبل أجيالهم
اللاحقة، تحوّلت هي الأخرى الى مصدر قلق، فعجزها لم يتوقف عند حد
فقدان شروط القيمومة، والتنصل من وظائفها كدولة ملزمة بتنظيم المصالح
العامة، وردع العدوان، وتوفير ظروف العيش الكريم بل تحوّلت هي الأخرى
الى عبء كبير، ينظر اليه السكان بوصفه مصدر شقائهم.
ولا ندري كيف تحتفظ الدولة بصفتها، اذا فشلت في ضمان الحد الأدنى
من ضروريات الحياة، فلا هي قادرة على توفير مقعد دراسي، ولا سرير
طبي، ولا أمن إجتماعي، وهي وظائف مندكة في صميم وظيفية الدولة
وقيمومتها. فالدولة إنما تكون دولة أي مالكة لزمام هيمنتها على من
تسود بقدرتها إبتداءً وقبل أي شيء آخر على سداد حاجات الرعية من
تعليم وصحة وخدمات، هذا قبل الحديث عن حاجات وحقوق معنوية وسياسية
وفكرية، وهو حديث لا يقل مركزية وخطورة عن غيره. فالإصلاح السياسي
صار جزءا أصيلاً من القلق العام، ويتنامى كلما أحجمت الدولة عن
الدخول اليه من بوابته الصحيحة، أي من بوابة الاصلاح الشامل والجوهري
في بنية الدولة وجهازها الاداري نزولا الى الاصلاح الاقتصادي
والاجتماعي والثقافي، كسلسلة متصلة في مشروع الاصلاح الشامل.
القلق أصبح ظاهرة عامة، حتى صار بديلاً عن الرغيف اليومي للسكان،
وتبديد هذا القلق يتوقف الآن على جدّية الدولة في وضع العربة على
الطريق السريع للإصلاح الشامل، والا فإن المستقبل ينذر بقلق كارثي،
لا يبقي للدولة مبرر البقاء والاستقرار. فالناس حين يدركون بأن
الدولة عاجزة عن حماية رغيفهم، ومصيرهم، وأمنهم يصطنعون لأنفسهم
نظاماً بديلاً لتحقيق كل ذلك، وحينئذ تصبح كالخلافة العباسية في
خريفها، حيث صارت مزقاً تتحكم فيها الامارات الصغيرة التي تكاثرت
كالفطر في أرجاء دولة الخلافة وصارت تملي على الخلافة السياسة التي
تريد. |