تجاذب بين الإتجاهين التقليدي والحركي
الإرباك سيّد السلفيّة
محمد السباعي
حالة من الإرباك غير مسبوقه يعيشها التيار السلفي في
السعودية، فمن جهة يتموقع في موجة صعود الإسلاميين في
أكثر من بلد عربي شهد انتفاضة شعبية ويحتسبه إنتصاراً
كبيراً لم يكن يحلم به من قبل، ومن جهة أخرى يدرك المنتمون
له ردود فعل النظام السعودي على أي تغيير في قواعد اللعبة
الداخلية، خصوصاً مع ظهور تيار سلفي يترسخ اعتقاده في
أن ولاية الأمر مقتصرة على العلماء دون سواهم، وأن العلماء
هم الموكلون بشؤون العامة، وأن الأمراء تبع لهم يأتمرون
بأوامرهم، وينتهون عمّا نهوا عنه.
كان الربيع العربي إختباراً جديّاً بالنسبة للتيار
السلفي السعودي، فهو من جهة مدجّج بفتاوى تحرّض على (تحكيم
الشريعة) في مقابل كتلة فتاوى تحظر (الخروج على الحاكم/الأمير/الإمام)
ما لم يظهر منه كفرٌ بواح يخرج من الملّة، بل بلغ الحال
بالمدرسة السلفية أن أغلقت الباب بإحكام على فكرة الخروج
مطلقاً، واختارت طاعة الأمير فيما أطاع الله فحسب، أما
في المعصية فلا طاعة، ولكن دون الخروج.
إذاً مالذي حدث في الربيع العربي؟
فقد صدرت فتاوى من كبار علماء المملكة تحرّم التظاهر
في تونس ومصر، من أبرزها ما جاء على لسان مفتي عام المملكة
الشيخ عبد العزيز آل الشيخ في خطبة الجمعة في 4 شباط (فبراير)
2011 إن (مخططات مثيري المظاهرات إجرامية كاذبة لا هدف
لها إلا ضرب الأمة والقضاء على دينها وقيمها وأخلاقها
وتفريق كلمتها وتشتيت شملها وتقسيم بلادها والسيطرة على
خيراتها)، معتبراً نتائجها سيئة وعواقبها وخيمة (لما فيها
من سفك الدماء وانتهاك للأعراض وسلب الأموال والعيش في
رعب وخوف وضلال).
وكان أعضاء اللجنة الدائمة لهيئة كبار العلماء في المملكة
(أبو زيد، صالح الفوزان، بن غديان، عبد العزيز آل الشيخ،
والشيخ بن باز) قد أفتوا بتحريم (المظاهرات والاعتصاماتِ
والإضرابات..) ويشمل ذلك: تحريمَ المقاصدِ وتحريمَ الوسائلِ.
وبحسب اللجنة الدائمة، الفتوى رقم ( 19936 ) ( الجزء رقم:
15، الصفحة رقم: 368)، وضمّت 23 عالماً سلفياً وشيخاً
في المملكة ومصر، والأردن وسورية والكويت واليمن والجزائر،
تحرّم التظاهر.
وكان موقف الشيخ صالح اللحيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى
السابق، من مظاهرات تونس ومصر وليبيا فارطاً في صرامته،
بقوله في 21 شباط (فبراير) 2011 أن (المظاهرات من الفتن
غيرالمحمودة شرعاً). وقال في تسجيل صوتي (كرّرت التأكيد
على أن المظاهرات غير شرعية لما يترتب عليها من المفاسد
من إتلاف الأموال، أو سفك الدماء، أو الترويع، إلى غيره،
وإذا لم يحصل من هذا شيء أبدًا، فإنه يحصل فيها تعطيل
الناس عن القيام بأعمالهم، وفتح متاجرهم، وكل ذلك لا يجوز).
وعزّز رأيه بالقول (لم يعرف عن أحد من أئمة الإسلام -
من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة - أن أحدًا منهم
يحث الناس عند الإستنكار أن يقوموا بمظاهرة ومغالبة)،
مذكّراً (بالسمع والطاعة حتى إذا كان الوالي غير مرضي
عنه من الناس ما دام لم يكفر).
ولكن..على النقيض تماماً من هذا الرأي، إنتشرت فتاوى
للحيدان صادمة حيال التظاهرات في سورية واليمن..ففي تسجيل
صوتي نشر على موقع يوتيوب في 22 نيسان (إبريل) 2011 دعا
(للجهاد) لإسقاط الرئيس بشار الأسد ودعا أيضاً الى تنحي
الرئيس اليمني علي عبد الله صالح وتسليم سطاته. ودعا اللحيدان
(الشعب السوري للجدّ والاجتهاد في مقاومة النظام السوري
حتى لو ذهب ضحايا)، وأضاف: (يرى في مذهب مالك أنه يجوز
قتل الثلث ليسعد الثلثان، فلن يقتل من سوريا ثلثها إن
شاء الله). من جهة ثانية، دعا اللحيدان الرئيسَ اليمني
للتنحي وتسليم سلطاته، ودعا الله (أن يرينا في المجرمين
عجائب قدرته، وأن يعاجل علي عبد الله صالح عن التخلي عن
منصبه، أو أن يعاجله بالإزالة، وأن يكون ما بعده خيراً
لليمن ولمن يجاوره ممن كانت الحال عليه قبله..)، محذرًا
في الوقت نفسه (من سيطرة الحوثيين على السلطة في اليمن).
إنتقائية اللحيدان، وعلماء السلفية عموماً، حيال الثورات
العربية تسبّبت في انقسام حاد داخل التيار نفسه أولاً،
كما أحدث ردود فعل لدى علماء دين آخرين، فضلاً عن انخراط
التيار السلفي في أنظمة مابعد الثورة، بعد أن أفتى العلماء
في المدرسة السلفية بتجريم التظاهر على النظام مهما بلغ
جوره.
فقد ردّ الشيخ السلفي اليمني يحيى بن علي الحجوري،
مدير معهد (دار الحديث) في دمّاج في محافظة صعدة بالشمال
اليمني، على فتوى الشيخ صالح اللحيدان بتغيير نظام علي
عبد الله صالح. وقال الحجوري في ردّه على فتوى اللحيدان
بأنها (ليست بصواب، ففيها تهييجٌ ومعاضدةٌ لأناسٍ هو يبغضهم،
ويبغضهم كلّ سنيّ، فأصحاب هذه الثورة هم (الاشتراكيّون)
و(البعثيّون) و(الناصريّون) و(الروافض) و(الإخوان المسلمون).
وأضاف (فإنّ هذه الفتوى تُهيّج هؤلاء بالثورة على من
هو أحسنُ حالاً منهم، على ما فيه، وإن كان عنده ما يُنتقد
وننكره عليه). وتحفّظ الحجوري على ما نقله اللحيدان عن
الإمام مالك أنه (يجوز قتل الثلث ليسعد الثلثان)، وقال
(هو نقلٌ فيه نظر عن الإمام مالك).
وخاطب الحجوري مباشرة (يا شيخ ( صالح).. ما يدريك أنّهم
يسعدون أو يزدادون شقاءً، بسبب إراقة دماء المسلمين والأذى
لهم..).
توالت الفجوات داخل التيار السلفي، حين بدأت مرحلة
الإستحقاقات في أكثر من بلد عربي. ففي مصر، علي سبيل المثال،
حيث دخل حزب النور السلفي كأحد الفاعلين الرئيسيين في
المعادلة السياسية الجديدة، رغم أنه لم يشارك في ثورة
25 يناير بل كان متماهياً مع نظام مبارك وجهازه الإستخباري،
وقد أبدى الحزب (الذي تتحفظ السلفية السعودية الرسمية
على تحويل السلفية الى حزب أو تيار سياسي) مرونة في التعاطي
مع الوقائع القائمة. ونشرت وكالة فرانس برس في 21 كانون
الأول (ديسمبر) الماضي مقتطفات من مقابلة غير مسبوقة للمتحدث
باسم حزب النور السلفي يسري حمّاد مع إذاعة الجيش الإسرائيلي،
منها أن حزبه سيحترم إتفاقية السلام الموقّعة مع اسرائيل
عام 1979. وقال حماد في مقابلة عبر الهاتف من القاهرة
مع اذاعة الجيش الاسرائيلي (نحن لا نعارض الاتفاقية ومصر
ملتزمة بالمعاهدات التي وقعتها الحكومات السابقة). وأضاف
(نحن نحترم جميع المعاهدات). ورحّب بالسيّاح الإسرائيليين.
على المقلب الآخر، لحظنا إنقلاباً مفاجئاً لمن يوصف
بـ (إبن تيمية الصغير)، أي الشيخ سفر الحوالي، الذي اختفى
طويلاً عقب إصابته بنزيف داخلي في المخيخ أدّى الى شلل
شبه تام منذ العام 2005. ففي مؤتمر في تونس في 17 كانون
الأول (ديسمبر) الماضي نظّمته (الحملة العالمية لمقاومة
العدوان) التي يرأسها الشيخ الحوالي، بدا الأخير كما لو
أنه قادم برؤية جديدة حيال الديمقراطية، والإنتخابات،
وتأسيس الأحزاب والنقابات، التي كانت توصم باعتبارها محرّمات،
بل وكفريات.
عن رؤيته الفقهية، المثبّتة على موقعه حتى الآن، سئل
الحوالي بشأن مفهوم الديمقراطية وهل في الإسلام ديمقراطية؟
فقد نظر الى الديمقراطية من خلال الممارسة الغربية لها
ونقد الحرية المنفلتة الاجتماعية والاخلاقية. ونفى أن
يكون في الإسلام ديمقراطية (الله عز وجل رضي لنا الإسلام..فما
رضي لنا الإشتراكية ولا الديموقراطية ولا القومية ، ولا
أي تسمية أخرى..)
وقال في جواب على سؤال عن حكم الإسلام في الديمقراطية،
أجاب الحوالي ما نصّه (بالنسبة لنا نحن في دين الإسلام:
الديمقراطية كفر، الديمقراطية شرك..)، لأنها لا تحكم بما
أنزل الله (فالتحكيم الديمقراطي هو اتّباع لأهواء الذين
لا يعلمون..).
ولكن في المؤتمر الأخير بدا الحوالي في كلمة الافتتاح
الموسومة (ولدنا أحراراً) ديمقراطياً من الطراز الرفيع،
فقد دعا الأنظمة التي لم تصلها رياح الثورات (أن تأخذ
العبرة مما جرى، وأن تتصالح مع شعوبها والقيام بإصلاحات
شاملة وفتح المجال لقيام أحزاب سياسية ونقابات مهنية وإقامة
انتخابات حرة ونزيهة). وكان موقف الحوالي منسجماً مع رفيق
دربه الشيخ سلمان العودة الذي أثنى على التطوّر الكبير
في تونس وقال عن شعبها أنه (تحرّك من أجل الحريات، ولذا
يجب أن يحصل على حريته، بما في ذلك حرية العمل السياسي
وتنظيم التجمعات والأحزاب).
في المقابل هناك من المشايخ الكبار في المدرسة السلفية
يرفضون القول الجديد للحوالي ويتمسّكون بما كان يؤمن به
الأخير فيما مضى من تحريم للديمقراطية والأحزاب والنقابات
(على طريقة ناصر العمر الذي مازال يمسك العصا من منتصفها
فهو مع آثار الديمقراطية وليس مع عنوانها)، فقد رفض الشيخ
صالح الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء، أن يمنح دعمه لحزب
النور السلفي وقال بأن على المسلم (وقت الفتن أن يتجنبها
وأن يبتعد عنها حتى تهدأ، ولا يدخل فيها، هذا الواجب على
المسلم)، وقال بأن (الأحزاب والتكتلات قد تجر إلى شر وفتنة
واقتتال فيما بينها، فالمسلم يتجنب الفتن مهما استطاع).
النزوع الى التمييز بين نوعين من السلفية: سلفية تقليدية/عقدية
وأخرى سلفية حركية/ سياسية تشي بانقسام في المجتمع السلفي
السعودي قبل غيره، فالتماهي مع السلفية العقدية يعني العودة
الى خط الدفاع الأولى عن العقيدة التي أسّست الدولة السعودية،
وإن ظهور سلفية سياسية تحاول بخجل حتى الآن الإنفتاح على
أدوات ومفاهيم الديمقراطية (الأحزاب، النقابات، والاتحادات،
الإنتخابات، الدستور، التشريعات القانونية..).
في تقديرنا إن هذا التمييز سيحكم المشهد السلفي في
العام 2012، حيث سنجد تجاذباً بين التيار التقليدي في
السلفية الذي يرفض التعاطي مع المفاهيم الحديثة والقبول
باللعبة الديمقراطية من أجل التماهي مع الواقع السياسي
الجديد، والحفاظ على ما يعتبره العقيدة الأصلية التي قام
عليها المذهب. ولذلك، فإن حزب النور السلفي في مصر، على
سبيل المثال، منبوذ من السلفية التقليدية في السعودية،
ولكّنه بالتأكيد يحظى بتقدير ودعم السلفية السياسية.
بطبيعة الحال، لا يمكن حسم الرأي في السلفية السياسية،
التي لا تزال غير واضحة المعالم فيما يرتبط بموقفها من
الآخر، سواء داخل المجال الإسلامي (أتباع المذاهب الأخرى)،
أو المجال الديني (النصارى واليهود وأهل الكتب الأخرى)
أو في المجال الإنساني (من يسمونهم العلمانيين والليبراليين
وغيرهم)، خصوصاً ما يترتب على ذلك من التزامات، بالنظر
الى حق الآخر، مهما يكن، في المشاركة في سن التشريعات،
التي قد تتعارض جزئياً أو كلياً مع موقف (تحكيم الشريعة)،
إذ بحسب الفتوى السائدة لدى علماء السلفية التقليدية عدم
جواز العمل في حكومة لا تحكم بغير شريعة الإسلام، ولا
المشاركة في الانتخابات فيها إلا بهدف (دفع ضرر أكبر)
أو (درء فساد محتمل). وإلا فإن الأصل هو حرمة الإنتخابات
والأحزاب وغيرها لأنها من البدع المحرّمة، كونها لم ترد
في كتاب أو ترد في فتاوى علماء الدين.
بإزاء هذا التنوع الثري في أشكال السلفية التي لن تقتصر
على بلد دون سواه، سيدخل التيار السلفي السعودي بشقيّه
التقليدي والحركي مرحلة تجاذب جديدة، قد تفضي إلى تطوّرات
هامة مع تطلّع الشق الحركي الى لعب دور مماثل لنظرائه
في بلدان عربية شهدت تحوّلات كبرى وسمحت لقوى سلفية حركية
بالمشاركة بأدوار فاعلة، فيما سينافح التيار التقليدي
من أجل الحفاظ على موقعه كحارس للعقيدة، وما يتطلبه من
دفاع عن النظام السياسي الذي يأويه.
|