الحرب التي لا تفهما السعودية
خالد شبكشي
السعودية تستعجل الحرب على إيران. تتمنّاها أن تقع
اليوم قبل الغد. والإعلام السعودي ـ خاصة قناة العربية
وجريدة الشرق الأوسط ـ يظهر تلك الرغبة والإستعجال وكأن
نهاية النظام في إيران قد لاحت، وكأن الحرب مجرد نزهة،
يقوم بها الإمريكي نيابة عن السعودية كيما تستعيد الأخيرة
مكانتها الإقليمية، بعد أن فشلت في ميدان المنافسة السياسية.
الحرب كما يقول الشاعر الجاهلي امرئ القيس، مغرية في
بدايتها، بشعة في نهايتها:
ﺍﻟﺤﺭﺏُ ﺃﻭّلُ ﻤﺎ ﺘﻜـﻭﻥ ﻓﺘيّةً/ ﺘﺴﻌﻰ ﺒﺯﻴﻨﺘﻬـﺎ ﻟﻜل ﺠﻬﻭلِ
ﺤﺘﻰ ﺇﺫﺍ ﺍﺴﺘﻌﺭﺕ ﻭﺸﺏّ ﻀﺭﺍﻤُﻬﺎ/ ﻋﺎﺩﺕ ﻋﺠﻭﺯﺍً ﻏﻴر ﺫﺍﺕِ
ﺨﻠﻴلِ
ﺸﻤﻁﺎﺀَ ﺠـﺯّﺕ ﺭﺃﺴﻬﺎ ﻭﺘﻨﻜّﺭﺕْ/ ﻤﻜﺭﻭﻫﺔ ﻟﻠﺸﻡّ ﻭﺍﻟﺘﻘﺒﻴلِ
آل سعود ليسوا رجال حرب، ولا جيش السعودية جيش حرب،
لم يدخل حرباً يمتحن فيها، بل دخل أقلّ من ربع حرب، حين
واجه الحوثيين فخسر فيها خسارة كبرى، ودخل الحوثيون واستولوا
على 47 موقعاً داخل الأراضي السعودية.
إذن لماذا التحريض السعودي على الحرب؟ الملك عبدالله
يقول للأمريكيين ـ كما تثبت وثائق ويكيليكس ـ اضربوا إيران
فهي (رأس الأفعى) حسب تعبيره؛ والإسرائيليون يقولون ذات
الكلام، ويحرضون الإدارة الإميركية على ذات الفعل، ويعمل
اللوبيان الإسرائيلي والسعودي في واشنطن بشكل منسّق لتحقيق
غاية موحدة.
السعودية ـ وعبر بندر ـ وعدت منذ أربعة أعوام الولايات
المتحدة بأن تدفع القسم الأكبر من تكاليف الحرب لو قامت؛
وإعلام السعودية يهوّن من شأن إيران، ويقول بأن كل ما
تزعمه من قوّة غير صحيح، فهلموا واضربوها، فما هي ـ حسب
الصحافي السعودي في الشرق الأوسط مشاري الذايدي ـ إلا
دُمُّلة آن فتقها، وإخراج قيحها!
يظنّ السعوديون أن التهوين من شأن قوّة إيران سينطلي
على الأميركيين. لو كانت إيران بذلك الضعف الذي تصوره
السعودية، لقامت الحرب منذ سنوات، وتمّ التخلص من النظام
الحاكم هناك. لكنهم يدركون بأن الحرب مكلفة، ليس فقط عليهم،
بل على حلفائهم ايضاً في الخليج واسرائيل. السعودية تقول
بأن ايران لا تمتلك القدرة على إغلاق مضيق هرمز؛ والأميركيون
يقولون أنها قادرة. والسعوديون يقولون بأن صواريخ ايران
هي مثل صواريخ عبدالناصر المزعومة (القاهر والقادر) والأميركيون
يقولون بأنها صواريخ ضخمة العدد شديدة التأثير. والسعوديون
لا يصدقون أن لدى ايران غواصات صغيرة وكبيرة رغم ظهورها
على الشاشات، ولا يقبلون بالقول أن لديها باع في التكنولوجيا
وقوة بحرية فعّالة ونشطة، ولا قوّة جويّة لأن ايران لم
تشتر طائرات حربية غربية كما فعلوا هم. أما الأميركيون
فيعرفون خصمهم وإمكانياته جيداً.
السعودية خطت خلال الأشهر الثلاثة الماضية خطوة إضافية
واضحة في التحريض على حظر النفط الإيراني، ومن ثمّ تقريب
احتمالية الحرب. قالت السعودية في تصريحات علنيّة بأنها
تستطيع ومستعدة لأن تعوّض النقص في الإسواق إذا ما تم
الحظر. بمعنى واضح: لا تشتروا النفط الإيراني، نحن نبيعكم
بديلاً له. وفعلاً فقد ارسلت وفوداً عديدة الى اليابان
والصين لهذه الغاية. وقد زاد الإنتاج السعودي في الشهور
الماضية من النفط الى حد غير مسبوق في تاريخ انتاج النفط
السعودية (أكثر من 10 ملايين ونصف مليون برميل يومياً).
ليست هنا المشكلة. فالسعودية تستطيع فعلاً التعويض
عن النفط الإيراني (تصدير مليونين ونصف المليون برميل
يومياً). ولكن السؤال: مالذي يضمن للنفط السعودي من الوصول
الى المشترين إن قامت ايران بإغلاق مضيق هرمز، مع أنها
تعتقد انه في حال الإغلاق فإن حرباً ستقع، تدمّر من خلالها
ايران ـ كما تعتقد ـ ويفتح المضيق.
هذا تصوّر بائس لتداعيات الحرب. فمن يدخل الحرب عليه
أن يعلم بنتائجها في النهاية. ماذا لو أطلقت ايران صواريخها
الدقيقة ـ او حتى غير الدقيقة ـ على معامل التكرير في
رأس تنورة، والأهم على معامل أبقيق لفصل الغاز عن النفط،
وهي المرحلة الأساس قبل تصدير النفط؟ ماذا سيحدث لو أطلقت
الصواريخ، وهي ستطلق على الأرجح على قلب الصناعة البتروكيماوية
في الجبيل؟ ما هي البدائل إذا ما طالت الحرب، أو تأخر
فتح مضيق هرمز؟ بالتأكيد فإن خط بترولاين الموصل بين نفط
شرق المملكة مع ميناء ينبع غربها، ليس بديلاً عن الخليج،
ومن المؤكد ان نحو 60-70% من امدادات النفط السعودي ستتوقف
اذا ما توقف المضيق؛ فضلاً عن ذلك فإن السعودية ودول الخليج
بعكس ما هي عليه ايران، تعتمد في حاجياتها على الموانئ
الشرقية، في حين أن ايران مكتفية ذاتياً بنحو يصل الى
95% من كل حاجياتها الغذائية والصناعية.
|
ولذا فإن الحرب محتملة في حال تم حظر شراء النفط الإيراني،
ومن المحتمل جداً أن تقدم ايران على إغلاق المضيق، وهي
تمتلك امكانياته؛ وتبعاً لذلك فإن من المحتمل جداً ايضاً
ان تقع الحرب بين الغرب وايران. لكن هذه الحرب لن تكون
ساحتها مضيق هرمز والأراضي الإيرانية، بل ستشمل كل دول
الخليج وقواعد اميركا فيها والصناعة النفطية والبتروكيماوية
هناك، فضلاً عن اسرائيل.
فهل لدى أمريكا والغرب استعداد لذلك؟
من غير المحتمل ان تقوم حرب لأسباب عديدة، فالحرب لن
تقصم بالضرورة ظهر ايران، وستعجل بانتاج سلاحها النووي،
وسترفع أسعار النفط الى ما يقرب من 200 دولار للبرميل.
بكلمة فإن الدمار سيعم المنطقة. نظن أن اميركا تفهم ذلك،
وإن كان السعوديون والإسرائيليون يعتقدون بأنهم قادرين
على تحمل كلفة قليلة فيما يدفع الأميركيون والغربيون الجزء
الأكبر منها، فالمهم بالنسبة لهم هو التخلّص من النظام
الحاكم في طهران.
لكن الغرب ـ كما عودنا ـ لا يدخل حروباً بالنيابة عن
آخرين؛ ولا يستطيع على الأقل في الوقت الحالي أن يشنّ
حروباً كبيرة، لأسباب اقتصادية وسياسية. فهناك أكثر من
انتخابات في عواصم غربية بينها واشنطن على الأبواب؛ وهناك
أزمة اقتصادية خانقة ستزيدها الحرب التي لا يعرف حجمها
وأمدها. إن واشنطن التي لم تنجح في العراق، ولم تنجح حتى
في التغلب على من كانت تسميهم عصابات طالبان مع دعم من
عشرات الدول بما فيها دول الناتو، كيف لها أن تتغلّب على
دولة بحجم ايران؟
بيد أن هناك سؤالاً ملحّاً فيما يتعلق بالحماسة السعودية
لحرب إيران، وهو: ما هي الجريمة الكبرى التي فعلتها إيران
حتى استحقت هذا العداء السعودي المستحكم، الى الحدّ الذي
يجعلها مستعدة للمغامرة في المشاركة في حرب وتمويلها ضدها؟
كل جريمة ايران، أنها تقع في معسكر مواجه للغرب واسرائيل
(ولو غيرت ايران بوصلتها السياسية لطلب الغرب من دول الخليج
ان يتبعوا ايران وليس فقط أن يرضوا عنها، تماماً كما في
عهد الشاه). ايضاً فإن ايران قزّمت النفوذ السعودي في
المنطقة، بسبب هزال النظام في الرياض وفشل سياسته الخارجية
ورهانه على الغرب وامريكا. النفوذ السعودي يتسافل لأنه
نفوذ قائم في الأساس على موج النجاح الغربي، فإذا ما أخفق
الغرب أو تراجع في المنطقة كما هو واضح اليوم، فإن الأدوات
الذيلية تخسر معه، ولهذا نرى أن كل حلفاء واشنطن يخسرون
في المنطقة: في مصر، واسرائيل وبقية دول الإعتدال العربي
كما يسمون.
بقي أمران يجدر بنا التنبيه لهما: أولهما له علاقة
بالفهم السعودي الساذج لإيران. فإن كانت السعودية تنظر
للأخيرة كعدوّ أو كمنافس، فلا أقل يجب أن تفهم هذا الخصم
العنيد. أن تفهم مكامن قوّته، ونقاط ضعفه، واستراتيجياته..
إن أبسط الأمور غير مدركة في السعودية؛ فهي دولة لا يوجد
بها مركز أبحاث واحد، وكل المواقف والمعلومات تأتي شفاهاً
أو حتى مجرد اشاعات. يعتقد السعوديون بأن إيران مغامرة،
والحقيقة فإن ايران من أكثر الدول اعتماداً على مراكز
العلم والأبحاث لديها سواء كان في السياسة أو في الشؤون
الأخرى. لم تستخدم ايران عضلاتها منذ 1988 وهو عام انتهاء
الحرب العراقية الإيرانية؛ في حين أن السعودية تلوّح بعضلات
مفقودة ليست لديها اصلاً، وانما بعضلات آخرين امريكيين
واوروبيين.
وثانيهما، وقد يكون هذا من حسن الحظ، أن الغرب يفهم
ايران جيداً، بل ويحترمها جيداً حتى وإن كانت عدوّاً ممقوتاً
الى أبعد الحدود. هو يعرف حجم قوتها، أو على الأقل لا
يستهين بها، ولا بتقدمها العلمي والتكنولوجي والصناعي
والعسكري والنووي وغيرها. وبناء على هذا الفهم، ندرك بأن
الوصول الى حافة الحرب لا تعني الحرب، وإنما هي استعراض
كل طرف لقوته، واختبار جديّة خياراته وقراراته المحتملة.
ولذا لا نظن أن الغرب سيسارع من الغد لحرب مع ايران يعلم
مسبقاً أنه ـ إن انتصر فيها وهو ليس مؤكداً ـ فسيكون مثخناً
بالجراح، وستكون هزيمة ايران مجرد معركة قد تدفعها لإنتاج
سلاح نووي في غضون أشهر. أما اذا هزمت اميركا، فستكون
نهايتها كقوة عظمى.
إن كان هذا التحليل قريباً من الصحّة، فلماذا إذن هذه
الضجّة والتصعيد بين أمريكا وحلفائها مع ايران؟ بعض الباحثين
في الخليج ومنهم شفيق الغبرا، يرى بأن الهدف الحقيقي هو
الضغط على ايران من جهة، وبيع الأسلحة لدول الخليج، خاصة
السعودية من جهة أخرى. ينبغي التذكير هنا بحقيقة أن الضغط
على إيران قد لا يستهدف البرنامج النووي الإيراني بالذات،
وإنما المطلوب تنازلاً سياسياً إيرانياً في مكان ما: سوريا
مثلاً؛ أو العراق؛ أو لبنان؛ او فلسطين. معلوم أن الإنسحاب
الأمريكي من العراق بالذات قد آلم الأمريكيين كثيراً،
حيث يعتقد الأميركيون بأن الإيرانيين كانوا وراء (هندسة)
إخراج القوات الأميركية ذليلة من خلال القوى السياسية
الكردية والشيعية، وبتحريك قوى المقاومة هناك، ما أدّى
الى رفض ابقاء قوات اميركية ما لم تكن تحت القانون العراقي،
وهذا شرط مستحيل لأن الكونغرس قد شرع قانوناً لا يقبل
محاكمة اي جندي في الخارج إلا أمام المحاكم الأميركية.
ولنا ان نتخيل ان العراق المحتل يستطيع ان يقول (لا) لأميركا
في حين ان لدى الأخيرة تواجداً عسكرياً في اكثر من 130
دولة وبينها السعودية ودول الخليج الأخرى وكلها تقول لأميركا
(نعم)!
من الواضح أن الإيرانيين رفضوا تقديم تنازل سياسي في
أي مكان للأميركيين، ونتذكر أن أمير قطر قد زار طهران
قبل نحو 3 أشهر، ليوصل رسالة بهذا المعنى، وبتهديد واضح،
وقد رُفض التهديد، وجاء التصعيد أخيراً.
ربما يكون قد فات أوان الحرب؛ فأميركا عضلة قوية تسبق
عقلها أحياناً في الدول التي تعتقد بأنها قادرة على كسرها
بسهولة؛ أما إيران فقصة أخرى، وما التصعيد إلا لوضع كوابح
أمام الإندفاع السياسي والصناعي والحربي الإيراني؛ ولابتزاز
دول الخليج التي اعتادت الإبتزاز بحجة (أمن الخليج) الذي
له كل يوم عدو، مرة السوفيات، ومرة العراق، ومرة العراق
وايران، ومرة ايران وحدها.
ايران تحتل بموقعها الجغرافي أكثر من نصف شاطئ الخليج،
فلا يعقل أن تهدد الخليج وهي دولة خليجية ـ غير عربية؛
ولا يمكن ان تغلق مضيق هرمز، إلا إذا حرمت من تصدير نفطها.
حينها يكون الأمر: عليّ وعلى أعدائي.
|