نهايتها الفشل
المبادرة السعودية: هل تغتال الثورة اليمنية؟
توفيق العباد
كانت مبادرة سعودية محضة، تحوّلت الى مبادرة خليجية
حتى يسهل استمراؤها وقبولها. ذلك أن قوى عديدة في اليمن
لا تشعر بارتياح من الدور السعودي المتطفّل والداعم لعلي
عبدالله صالح. وبالرغم من انسحاب قطر من المبادرة، فإن
الدول الخليجية الأخرى لم تعارضها، وإن لم تكن ترتاح لعلي
صالح. لكن من المؤكد أن كل دول الخليج، بما فيها قطر،
تريد انتقالاً للسلطة من علي صالح (الى يد أمينة)! واليد
الأمينة ليست إلا إزاحة علي عبدالله صالح وقلة من الوجوه
الأخرى، والإتيان بوجوه معروفة كانت موجودة في السلطة
اصلاً، أو لها علاقات وثيقة بالسعودية بالذات، مع تفويت
الفرصة أمام نجاح الثورة بشكل كامل، ومنع أية قوى معارضة
لا يرتاح لها الغرب ولا السعودية، وبالذات الطلبة والشباب
الذين أشعلوا الثورة، وكذلك الحوثيين الذين هم قوة ضاربة
وذات تأثير سياسي كبير، منعهم وتهميشهم عبر المبادرة السعودية.
الآن وقد قبل علي عبدالله صالح بالمبادرة، في جراحة
تجميلية لوجه النظام، فإن الجهد الغربي الخليجي ينصبّ
على تشكيل البديل، الذي هو في واقعه يشمل معظم ان لم نقل
كل الوجوه السياسية القديمة، وبالتالي ـ ان نجح المخطط
ـ يكون الإنقلاب على الثورة اليمنية قد آتى أُكله، وتكون
الثورة قد فرّغت من محتواها فعلياً.
|
انتهى عصر طاغية والعمل جار
على استبداله! |
يهم السعودية احتواء الثورة عبر مبادرتها، التي تميل
الى تغيير الحدّ الأدنى من الوجوه السياسية المعروفة.
فالسعودية لاتزال تأمل بالإحتفاظ بنفوذها المتميز في اليمن
والذي تمدد خلال العقود الثلاثة الماضية بشكل مفرط في
ظل علي صالح وأركان نظامه. جوهر الثورة اليمنية لا تستطيع
السعودية التعايش معه؛ لا تستطيع السعودية التعايش مع
يمن جمهوري وثوري يقف على البوابة الجنوبية لحدودها. لا
تستطيع السعودية تحمّل وجود قوى معارضة لها في السلطة
سواء بين الطلبة أو الحوثيين او حتى الجنوبيين وبعض رجال
القبائل.
لكن ما لا تريد السعودية إدراكه أن الثورة أنتجت قوى
سياسية جديدة، وسمحت بترسيخ قوى أخرى؛ وأن الطبقة السياسية
القديمة التي تخطط المبادرة السعودية تسليمها السلطة من
الباب الخلفي لا تستطيع وحدها الإمساك بزمام السلطة. والدليل
واضح، وهو أن التظاهرات والإعتصامات في كل المدن اليمنية
لاتزال قائمة؛ وأن هناك إصراراً على محاكمة علي صالح،
وعلى تغيير الطاقم الحاكم من جذوره.
قطر التي دخلت على خط الأزمة، وحاولت وراثة النفوذ
السعودي في اليمن من خلال احتواء حزب الإصلاح واللواء
علي الأحمر، نجحت في البداية من خلال الدعم المالي، وقام
الحزب وعلي الأحمر بتغيير شعاراته بل وممارسة بعض النقد
العلني للدور السعودي؛ أما بعد توقيع علي صالح المبادرة،
فيبدو أن الإنتهازية تغلّبت وعاد الاصلاحيون والأحمريون
الى حليفهم وحبيبهم السعودي القديم.
حزب الإصلاح اعتقد بأن نهاية الثورة يقررها هو، وكأنه
هو الذي بدأها! وحين قبل بالمبادرة، وبقي اعتصام صنعاء
الكبير، هاجمه فجر أحد الأيام وجرح الكثيرين مطالباً بفضّه،
وكان فيما مضى يقدّم الطعام للجمهور يومياً! أيضاً فإن
حزب الإصلاح ـ وحسب الرغبة السعودية ـ حاول قطع تمدد الحوثيين
في الشمال، وراح يهاجم مواقع نفوذهم، وهو عمل مصادم حاولت
قطر قبل نحو 4 اشهر حلحلته بالحسنى عبر التفاوض مع الطرفين
الحوثي والإصلاحي؛ أما بعد توقيع المبادرة فإن السعودية
تحبّذ المواجهة بدلاً من التفاوض لحسم الصراع والنفوذ.
مسألة أخرى برزت، وهي قضية بلدة دمّاج، ومركز السلفية
الوهابية فيها. لا بدّ أن القدر يسخر، ولا بدّ أن التاريخ
يأبى إلا أن يغيظ السعوديين. هؤلاء الأخيرون لم يقبلوا
بالنفوذ السياسي الأول والمتميز في اليمن فحسب، بل رأوا
أن ذلك النفوذ لا يمكن أن يبقى إلا بنفوذ وهابي رديف؛
فالولاء الديني ـ حسب التجربة السعودية ـ مقدّم على الولاء
السياسي لآل سعود. مع انطلاقة النفوذ السياسي السعودي
وتصاعده، حدث أن تحول أحد الزيدية الى الوهابية وهو مقبل
الوادعي، وهو من دمّاج، وذهب الى السعودية وتعلّم على
يد بن باز وصارت له حظوة. أراد السعوديون تأسيس قلعة وهابية
في داخل قلعة الزيدية في صعدة المحافظة، وبالتحديد في
دمّاج وليس في صنعاء او الحديدة أو تعز أو أي مدينة أخرى.
تم تأسيس معهد كبير، وجيء بالوهابيين من كل العالم ليدرسوا
فيه وليصارعوا الزيدية وليحولوهم بالقوة والمال والسلاح
والمضايقات وتحت مظلة عسكر علي صالح والقبائل المشتراة
سعودياً، يحولونهم الى الوهابية. كان ذلك في بداية الثمانينيات
الميلادية. وقد تضخم المعهد وصار المئات وقيل الآلاف يفدون
اليه ويدرسون فيه.
مع تلاشي قوة علي صالح، وتبدّل وضع السعودية من القوة
الى الوهن، خسر معهد الوهابية في دمّاج غطاءه السياسي
والأمني، وما كان مقبولاً تحت ضغط القوة السعودية صار
مرفوضاً في عصر الثورة؛ ولكن فيما يبدو لم ير الوهابيون
أن شيئاً تغيّر، ورأت السعودية بأن على دمّاج أن تسدّ
ثغرة ضعف النظام الأمنية، وأن يقوم الوهابيون بمساهمة
كبيرة وباستخدام السلاح لمواجهة الحوثيين الزيديين. والنتيجة
ان خسر الوهابيون المعركة العسكرية، وبدأ الصراخ يظهر
من كل المواقع السلفية: (أنقذوا دمّاج)!
الانتشار المذهبي الوهابي آذن بالأفول في اليمن؛ فبقدر
ما تخسر السعودية من نفوذ تتقلّص مظلّة الحماية، ويتضاءل
ألق الوهابية.
الآن نرى وبشكل لم يكن أوضح منه منذ انطلاق الثورة
اليمنية، أن النقد الموجّه لأميركا والسعودية من قبل المتظاهرين
والمعتصمين وهم بالملايين، قد تصاعد بشكل صاروخي. الأكثرية
باتت تعتقد أن السعودية عدوّ لثورة الشعب اليمني، وعدوّ
لمصالحه، وهذا ما يظهر من الشعارات المرفوعة واليافطات
والتصريحات الإعلامية.
حتى الآن، وبسبب إصرار الشارع على المضي في الثورة،
وعلى محاكمة علي صالح وأركان نظامه، وتأسيس نظام جديد
بديل عن القديم، لا إلباس القديم بلباس الجديد.. فإن المبادرة
السعودية لم تمض بالسهولة التي أرادها الأميركيون والسعوديون،
رغم الضخّ المالي لأركان النظام، والمظلّة السياسية المتوفرة
للبديل أو نصف البديل.
قد لا تحقق الثورة اليمنية كامل أهدافها في ضربة واحدة؛
ولكن من المؤكد أن مخرجات الثورة حتى الآن تؤكد بأن السعودية
ومن ورائها الولايات المتحدة بالذات فشلتا في فرض وجوه
حاكمة دون إحداث تغيير ثوري في العمق وهو أمرٌ لا يقنع
الشارع اليمني، وأن ما جرى حتى الآن ليس إلا البداية،
وأن إرادة الشعب اليمني إذا ما قدّر لها المواصلة فإنها
قادرة ليس فقط على إسقاط المبادرة السعودية وعلي عبدالله
صالح فحسب، بل الأهم إسقاط نظامه.
بقيت حقيقة أخرى يجب التأكيد عليها وهي أن المبادرة
السعودية تجاهلت كل القوى التي عملت على زعزعة اركان نظام
صالح، ودفعت الثمن، ومن ثم صنعت الثورة، قبل أن يلتحق
الأفاقون التابعون للسعودية ويركبوا موج الثورة لسرقتها..
تلك القوى التي ابعدتها المبادرة ولم تمنحها ـ بل لم تجرب
حتى ـ أي دور لصناعة مستقبل ما بعد علي صالح، هي نفسها
القوى التي تشكل عائقاً أمام مؤامرة (المبادرة السعودية)،
وهي نفس القوى التي إن اشتركت ضمن النظام السياسي في مرحلة
ما بعد علي صالح، أضعفت السعودية، وإن تخارجت عنه فإنها
جعلت النظام السياسي معوّقاً غير قادر على النهوض.
|