الرياض تستقبل المعارضين وتمنحهم 18 مليون دولاراً
السعودية تُسقط اتفاقاتها الأمنية مع إيران
هيثم الخياط
هي ليست حرباً ناعمة، كما يصفها البعض.
بل هي أكبر من كونها حرباً باردة. فالحرب الباردة لم
تشمل اغتيالات علماء في الذرة والأسلحة والسياسة، ولا
اختطاف سياسيين ومسؤولين؛ ولا حصاراً إقتصادياً ونفطياً
ومالياً، ولا التهديد بالحرب، وباستخدام الأسلحة النووية،
كما لمح أوباما ذات مرّة.
هي في العمق حربٌ ساخنة. بل حربٌ ساخنة جداً جداً.
هذا هو التوصيف الدقيق للصراع الإيراني الأميركي المدعوم
إسرائيلياً وسعودياً، حيث الإستخدام الأميركي السعودي
الغربي الإسرائيلي لكل الأسلحة المتاحة وعلى مساحة تمتد
لمناطق مختلفة، بما فيها الفضاء نفسه؛ وبما فيها الحرب
الطائفية والإعلامية والأمنية والسياسية والإقتصادية والعسكرية
والثقافية والفنيّة وغيرها.
ولأن السعودية مجرد تابع للسياسة الخارجية الأميركية،
فإنها اليوم تبدو وكأنها مستعجلة لفتح المعركة مع ايران
على حدودها القصوى. آخر ملامح الصراع متعدد الأوجه مع
إيران:
|
الحرب بدل التلاقي |
ـ اعلان السعودية تغطية النقص في النفط الإيراني في
حال توقفت الدول المستوردة للنفط الإيراني عن ذلك، ومحاولة
تشجيعها للمضي في هذا الطريق.
ـ استقبال السعودية لمعارضين إيرانيين في منتدى الجنادرية
السنوي والذي بدأ في فبراير من هذا الشهر، وترشح معلومات
عن تخصيص 18 مليون دولار لدعم المعارضة الإيرانية. ويأتي
هذا في سياق دعم الحركات الكردية اليسارية والتي تتخذ
من كردستان العراق منطلقاً لها، والقيام بالتغطية الإعلامية
لنشاطاتها ومعسكراتها كما فعلت قناة العربية؛ وكذلك دعم
حركة جند الله (المقربة من القاعدة) في بلوشستان؛ وفتح
ملف (عرب الأهواز) وفتح مكاتب للمعارضة في اوروبا وبعض
العواصم العربية كالقاهرة بتمويل سعودي، بغية تقسيم إيران.
ـ إطلاق قناة طائفية ضد الشيعة باللغة الفارسية تحرّض
على الفتنة والصراع الطائفي، وهي قناة وصال الفارسية،
وقد أعلن الأمير عبدالعزيز بن الملك فهد تمويله لها على
موقعه في تويتر في يناير الماضي. ويأتي هذا تماشياً مع
المواقع المدعومة باللغة الفارسية ومن بينها موقع العربية
نت الفارسي؛ ومع محطة أفلام تغريبية للإم بي سي بالفارسي
والتي بدأت منذ سنوات، وغيرها.
ويأتي هذا كله في سياق الحرب الإعلامية التي لم تهدأ
منذ عقد، وكذلك حرب الإستخبارات، واختطاف العلماء كما
فعلت السعودية التي اختطفت عالماً ايرانياً كان يؤدي العمرة
بالتنسيق مع واشنطن قبل ثلاث سنوات؛ وكذلك في سياق تحويل
المعركة مع اسرائيل الى معركة مع ايران، عنصرياً وطائفياً،
وإعلان السعودية استعدادها للمساهمة بالقسط الأكبر في
تمويل الحرب على إيران، فضلاً عن التحريض عليها.
نذكّر هنا، أن الأمير نايف، سبق له أن زار طهران قبل
أكثر من عقد، ووقع اتفاقاً أمنياً يقضي فيما يقضي بعدم
دعم المعارضة في البلدين. ولكن يبدو أن هناك تردداً إيرانياً
للقيام بالمعاملة بالمثل، على أمل أن الرياض قد تعيد النظر
في سياساتها، وهذا ما دفع وزير الإستخبارات الإيراني مصلحي
لزيارة الرياض الشهر الماضي (يناير) والتقاءه بوزير الداخلية
وولي العهد الأمير نايف؛ ولكن الزيارة فشلت في حل أيّ
من الملفات، اللهم إلا كشف الكذبة الكبيرة التي افتعلتها
واشنطن بشأن محاولة إغتيال ايرانية للسفير السعودي في
واشنطن، والتي أثيرت حولها ضجّة وتجييشاً إعلامياً وطائفياً
ضخماً، تبيّن أنها مجرد فقاعة كاذبة غرضها إعطاء السعودية
مبررات للمضي في سياسة التصعيد ضد طهران.
الخلاف بين طهران والرياض سياسي بامتياز؛ لكن السعودية
تريد تحويله الى صراع مذهبي وعنصري، تستخدم فيه كل الأسلحة
لصالح تدمير القوّة الإيرانية الناهضة عسكرياً وسياسياً
وعلمياً. وهو هدف تلتقي واشنطن وعواصم اوروبية واسرائيل
عليه. ولذا نرى الجهد السعودي متناغماً أيما تناغم مع
ما تقوم به واشنطن واسرائيل وتهديداتهما؛ كما ويتناغم
مع كل خطوات الحصار الغربي والجهود السياسية لتحجيم إيران.
بل ويأتي متناغماً مع الموج الفضائي الذي يراد منه اختراق
الحصون الأخلاقية والثقافية لدى الخصم، حيث تكثر القنوات
الفضائية الطائفية والإباحية وشبكات التواصل الموجهة باللغة
الفارسية، لإحداث نقلة نوعية في الداخل الإيراني.
السؤال المركب هنا هو: الى أي حدّ ستمضي الرياض قدماً
في الصراع مع طهران؟ والى أي حدّ يمكن لطهران ضبط نفسها
وعدم المعاملة بالمثل؟
تبدو السياسة الخارجية السعودية وكأنها في مرحلة هجوم
بعد سبات طال أمده، واستمرّ لأكثر من عقد ونصف. لكن اليقظة
السعودية إنّما تفتّحت على ملف واحد هو: (الحرب مع إيران)
أما الملفات الأخرى، فمهملة أو مجرد ملحق للأزمة التي
تعيشها السعودية نفسها. الملفات الأخرى، يقصد منها: الملف
الفلسطيني المهمل تماماً من الأجندة السعودية الخليجية
العربية؛ وملف الثورات العربية التي تشكل المحور الآخر
للجهد التخريبي السعودي من أجل استيعاب ما نجح منها، وإفشال
ما هو قائم كما في البحرين واليمن، عدا سوريا التي ينظر
اليها غربياً واسرائيلياً وسعودياً كجزء من المعركة مع
ايران، مع ان الملف السوري، شأنه شأن الملف البحريني،
والملف اليمني، خرج من الإطار المحلّي الى الإقليمي والدولي،
أي ضمن قائمة الصراع الكبرى في العالم، والذي دخلت فيه
روسيا والصين (على الأقل فيما يتعلق بسوريا).
السعودية لديها الإستعداد النفسي للقيام بدور أكبر
في توتير الوضع مع طهران.
ربما تكون الخطوة القادمة: قطع العلاقات معها، أو تقليص
التمثيل الدبلوماسي، ومنع الطيران المتبادل بين البلدين،
اضافة الى احتمال منع سفر رعاياها الى ايران وتجريم ذلك.
وهذا أمرٌ تفعله بشأن العراق، وسبق أن فعلته بشأن المنظومة
الشرقية واسرائيل، ولكن اسرائيل حذفت من قائمة الدول التي
يجرّم القانون السفر اليها، وهذا ما حدا بعدد من الأمراء
السفر الى الأراضي المحتلة.
والسعودية لديها الإستعداد بشكل أكبر لإعلان دعمها
للمعارضة الإيرانية بشكل صريح وواضح، وليس عبر إرسال الرسائل
من خلال وسائل الإعلام فحسب. وفي هذا الإطار، فإن المعلومات
المتوفرة تفيد بدعم كبير مالي قد تم تقديمه لمنظمة خلق
الإيرانية، والتي ينظر اليها كأقوى فصيل معارض في الخارج،
وهي منظمة تعتمد الإغتيالات والعنف، وقد قتلت العديد من
القيادات الإيرانية خلال العقود الثلاثة الماضية، وكانت
قد اعتبرت منظمة ارهابية، ولكن الدول الأوروبية أعادت
تقييمها وأزاحتها من قائمة الإرهاب كيما تخدم المخطط القائم.
اما الإيرانيون، فاكتفوا بتصريحات التحذير: لن نسمح
لكم بتصدير نفطكم إن مُنعنا من تصديره؛ ننصحكم بأن لا
تزيدوا انتاجكم النفطي. كما قاموا باستعراض القوة مقابل
أمريكا بالذات: مناورات بحرية وبرية مستمرة؛ والإعلان
عن صناعات حربية ومدنية جديدة بما فيها اطلاق 3 صواريخ
للفضاء محملة بالستلايت وغواصات متعددة وغيرها. لكن من
الواضح ان سياسة ايران تجاه السعودية تتخذ طابع رد الأفعال
المحدودة؛ وهي لا تميل الى فتح معركة معها؛ بل يمكن القول
انها مشغولة بالمواجهة مع الأميركيين أكثر مما هي مشغولة
بأدوات السياسة الأميركية، سواء ما يقوم به الخليجيون
أو غيرهم. لكن في نقطة ما، قد تشتعل المنطقة، وهذا يعتمد
حتى الآن على الموقف الأميركي أكثر منه الموقف الإيراني،
أو (السعودي التابع).
بمعنى آخر، فإن التصعيد السعودي عادة ما يأتي متوازياً
مع الخطوات التصعيدية الأوروبية الأميركية وليس خارج نسقها
وسياقها؛ فكلّما علت اللغة واصوات التهديد الأميركية والخطوات
والقرارات المتعلقة بالحصار، كلّما رأينا في الجانب السعودي
ـ الخليجي تصعيداً موازياً. السعودية لا تتحرك منفردة،
وأنّى لها ذلك؟. وقرار المواجهة العسكرية التي لا رجعة
فيها مع إيران، ليس بيد آل سعود، بل بيد البنتاغون.
وحتى الآن، فإن واشنطن لا تستطيع المخاطرة بحرب (تتمناها
بشدّة إسرائيل والسعودية) مع طهران؛ فهي تدرك حجم قوة
الأخيرة؛ وهي وإن تضررت، فإن حروب أميركا خلال العقد الماضي
كانت حروباً خاسرة في أفغانستان، والعراق، ولا يمكن أن
تكون الحرب مع ايران رابحة، في ظل الإنحلال الإقتصادي،
وسنوات الإنتخاب في أكثر من بلد. الأميركيون يقدّرون ان
الحرب مكلفة جداً، وأن لغة التهديد لإيران لم تعد مجدية،
كما أن كل خطوات الحصار لا يمكنها ـ كما ثبت خلال ثلاثة
عقود ـ أن تؤتي الثمار التي تبتغيها.
من هنا، فإن بعض مراكز البحث الغربية، أعادت القيمة
مجدداً لحوار مع طهران، أو بالتحديد لصفقة مع طهران، وهي
ما وعد به أوباما قبل وصوله الى كرسي الرئاسة، لكن الأجنحة
المتشددة في الإدارة تغلّبت عليه، وعاد لاستخدام لغة أعنف
من لغة بوش الإبن. الصفقة لا تريدها السعودية ولا اسرائيل،
فهي ستكون على حساب نفوذهما الإقليمي. إن أكبر قلق يساور
السعودية أن تجري صفقة ايرانية اميركية تكون محصلتها الحقيقية:
الإعتراف بإيران كقوّة أساسية فاعلة في محيطها الإقليمي؛
بما يعني المزيد من الإضمحلال للدور السعودي، الى حدّ
يمكن إلحاقه بالدور الإيراني كما في عهد الشاه قبل سقوطه.
لا يبدو في الأفق أن صفقة كهذه يمكن أن يكتب لها النجاح،
بسبب قوة اللوبي الصهيوني أولاً؛ وبسبب أن القيادة الإيرانية
تراهن على سقوط أميركا كما سقط الإتحاد السوفياتي. قد
يبدو الأمر خيالياً، ولكن من الواضح أن الزعامة الأميركية
الغربية على العالم تآكلت كثيراً في الخمس عشرة سنة الماضية،
في حين ظهرت قوى اقتصادية وسياسية ناهضة، هي من حيث الواقع
الإقتصادي والسياسي والعسكري أكبر من دول تتمتع الآن بحق
الفيتو في مجلس الأمن.
مشكلة الغرب مع إيران لا تتعلق بالسعودية؛ فهذه الأخيرة
يمكن التضحية بها جملة وتفصيلاً، أو على الأقل التضحية
بإضعاف دورها إن كانت المحصّلة كسب بلد ضخم وقوي مثل إيران.
إنما المشكلة الحقيقية هي في (إسرائيل) فإيران ركّبت شرعية
نظامها على مواجهته، ولا تستطيع كما لا ترغب في تغيير
سياستها؛ ولو قبلت ما تقبل به السعودية اليوم، لما كانت
هناك مشكلة نووية ولا تهديدات بحرب ساخنة او ناعمة ولا
اغتيالات ولا مؤامرات. بيضة القبان هي المحافظة على أمن
إسرائيل، والصفقة الإيرانية الأميركية لن تتضمن بأيّ حال
توفير المزيد من الأمن لها، لأن ذلك مرفوض من الجانب الإيراني.
هناك حيرة غربية في التعامل مع الملف الإيراني بمجمله؛
والأهداف تتنوع بين إسقاطه أو كبحه وتأجيل تطوره كنموذج
استقلالي في المنطقة. أما حيرة وقلق السعودية فمتعدد،
فخسارتها السياسية، وحروبها جميعاً تأكل مما تبقى لها
من رصيد. وهي الى جانب اسرائيل الفتاتان المدللتان للراعي
الأميركي، ويمكن أن يتغير الحال في السياسة بسهولة كبيرة.
السعودية تابع لواشنطن في سياستها؛ وما تقرره الأخيرة
بشأن إيران هو ما تنفذه الرياض. إذن فالمعركة الحقيقية
ليست بين السعودية وايران، بقدر ما هي بين الأخيرة وأميركا،
وما بين الأخيرة وتل أبيب. وهنا فالمعركة متواصلة في المدى
المنظور.
|