كتاب (أسئلة الثورة)
الـعــودة: حـداثـة سـلـفيـّة أم قـطـيعـة أيـديـولـوجـيـة؟
سامي فطاني
ما خشي منه الأمير نايف من أن نسخة سياسية سلفية قد
يجري إنتاجها في أجواء الربيع العربي قد وقع، أو ربما
في أحسن الافتراضات قد بدأ في التشكّل. لاريب أن هناك
بوادر لصحوة ثانية للتيار السلفي الوهابي في المملكة،
الأولى كانت بعد احتلال قوات صدام حسين للكويت في آب (أغسطس)
1990، بعد أن بدأ رموز في التيار الصحوي بإطلاق تصريحات
تصنّف بأنها راديكالية، ولكن بالمفهوم السلطوي، ولكنها
داعمة للديمقراطية بالمفهوم الشعبي.
|
سلمان العودة: هل يمكن تحديث
السلفية؟ |
عاش رموز التيار الصحوي تقلّبات فكرية وسياسية حادة
منذ منتصف التسعينيات، حين وجّه النظام السعودي ضربة قاصمة
لهم بالاعتقال والمنع من السفر والخطابة والتضييق على
نشاطاتهم، وخرج كثير منهم من المعتقلات عقب توقيع تعهّدات
بعدم مزاولة أي نشاط احتجاجي ضد النظام، وهو الشرط الذي
سبق عودة مشايخ الصحوة الى الأضواء، وممارسة أدوارهم الدعوية،
حيث وجدوا كل الأبواب مفتوحة أمامهم، بما في ذلك القنوات
الفضائية التي كانت مصنّفة باعتبارها من القنوات الماجنة
مثل إم بي سي.
أسدى مشايخ الصحوة خدمات للنظام السعودي في أحلك الظروف
التي شهدها، وخصوصاً بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر حين
أصبحت الأيديولوجية الوهابية المتطرّفة في دائرة الفحص
والنقد على المستوى العالمي، وكان لابد من الاستعانة لمشايخ
الصحوة الذين أسّسوا للأفكار المتطرّفة التي شكّلت أيديولوجية
العنف لدى تنظيم القاعدة. وبالفعل، ترأس الشيخ سفر الحوالي
مشروع المناصحة برعاية وزارة الداخلية، وجلب معه زملاءه
من مشايخ الصحوة الذين برزوا في فترة التسعينيات من بينهم
الشيخ سلمان العودة، والشيخ ناصر العمر، والشيخ عايض القرني،
والشيخ عادل الكلباني ومحسن العواجي، وذلك في سياق تبديل
أفكار عناصر القاعدة المعتقلين في السجون السعودية في
قضية الخروج على الدولة السعودية..
بدا مشايخ الصحوة بمثابة علماء بلاط في العقد الماضي،
كما أطلق عليهم قادة القاعدة ممن تأثروا بأفكار المشايخ
في التسعينيات، وصارت النظرة اليهم على أنهم لا يختلفون
في أفكارهم وسلوكهم عن هيئة كبار العلماء وخصوصاً المفتي
بن باز وابن عثيمين وتالياً الشيخ عبد العزيز آل الشيخ،
المفتي الحالي. لقاءات مشايخ الصحوة وزياراتهم خصوصاً
الشيخين سلمان العودة والشيخ عايض القرني الى ليبيا وتونس
واليمن وغيرها الى جانب رحلات الزيارة الى أوروبا تركت
انطباعاً وكأن مشايخ الصحوة قد طلّقوا ما آمنوا به بالأمس،
وأن تمردهم الهادىء ينبىء عن انزياحات حادة فكريّة وسياسيّة،
خصوصاً في ظل أضواء الكاميرا التي لا تفارق العودة والقرني.
لقد فتحت أبواب الشهرة والثروة أمام بعض مشايخ الصحوة
الى الحد الذي أيقنت معه السلطة بأنها نجحت في تصنيع طبقة
يمكن التعويل عليها في الترويج لخطاب سلفي بنكهة ليبرالية،
لا سيما مع الاجتهادات الفكرية والعقدية التي قدّمها العودة
والقرني في موضوعات كانت تعتبر سمات الأيديولوجية الوهابية
المتشدّدة، سواء في العلاقة مع الآخر، أو الغرب، أو المرأة،
أو الأيديولوجيات الأخرى.. ولكن بقي البعد السياسي مضمراً،
بل مقموعاً، فقد كانت النظرة السائدة الى العودة والقرني
تقوم على أنهما يضطلعان بمهمة إعادة طلاء صورة النظام
السعودي التي تعرّضت لتشويه كبير بفعل هجمات الحادي عشر
من سبتمبر.
كانت مقالات الإطراء والتمجيد التي كتبها العودة حول
تونس في ظل زين العابدين بن علي وكذلك وساطته بين النظام
الليبي والجماعة الإسلامية المقاتلة، وكذا مقالات وأحاديث
القرني عن ليبيا واليمن في ظل النظامين السابقين بمثابة
وصمات سياسية وأيديولوجية لم يكن العودة والقرني يدركان
تداعياتها وردود الفعل المنتظرة ضدهما حيالها. وبالتأكيد،
لو كان العودة والقرني على علم ولو إجمالي حول ما يخبّئه
المستقبل، وأن المنطقة مقبلة على ربيع عربي ما أقدم العودة
على كتابة مقالته عن تونس، أو توسّط لدى النظام الليبي
في موضوع الجماعة الاسلامية المقاتلة وكذلك الحال بالنسبة
للقرني في الموضوعين الليبي واليمني.
على أية حال، كان موج الثورات العربية عاتياً وجارفاً
ولابد من الاستجابة لشروطه، فقد باتت لغة التغيير الديمقراطي،
العقيدة المشتركة لدى الشعوب العربية، وإن من الذكاء والواقعية
في آن التعامل مع المتغيّر بما يتطلبه من مواقف وأفكار.
لاشك أن العودة الذي يسعى دائماً الى تكييف أفكاره ومواقفه
مع المتغيّرات السياسية والفكرية وجد نفسه معنيّاً أكثر
من غيره بالقيام بالخطوات الضرورية كيما يجدد صلاحية دوره
واستمراريته كشخص ومشروع.
في مقالة لها عن التحوّل الفكري والسياسي لدى العودة
في صحيفة (فايننشال تايمز) البريطانية في 24 آذار (مارس)
الماضي ذكرت رولا خلف بأنه (منذ اندلاع الانتفاضات الشعبية
في الدول العربية بدت روح التمرد لدى ـ العودة ـ وكأنها
استيقظت مرة اخرى ما وضعه في موقف مناويء للسلطات ثانية).
خلف اعتبرت كتاب العودة، أسئلة الثورة، الذي نشره على
موقعه الإلكتروني، وحثّ متابعيه على تويتر على قراءته
مجاناً على الانترنت، بمثابة تحذير للنظام بأن (الاصلاح
ضروري لتفادي الانتفاضة الشعبية).
أسئلة الثورة.. العودة حداثوياً
كتاب (أسئلة الثورة) للشيخ العودة لا يمكن قراءته ثقافياً
فحسب، لأنه بالتأكيد لا يشتمل على مادة ثقافية ثرية ترتقي
الى مستوى الكتابات التي وضعها منظّرو الثورات في العالم،
بل سنجد فيه استعارات وظلال لكثير من الأفكار المتناثرة
في كتب فلاسفة الثورة الأوروبيين، بل لا يخلو الكتاب من
نكهات ماركسية مشهورة في صراع الطبقات والتفاوت الطبقي..
قرر العودة كسر الحظر المفروض على أحدث إصداراته (أسئلة
الثورة) في معرض الكتاب في الرياض قبل يوم واحد من نهاية
المعرض، ووضع رابط لتحميل الكتاب على صفحته الشخصية على
موقع التواصل الاجتماعي (تويتر). الكتاب بصفحاته الـ 208،
على ملف بي دي إف، قال العودة عنه بأنه (نسخة دقيقة وموثقة
من كتاب (أسئلة الثورة) إليكم أيها اﻷصدقاء يمكن قراءتها
وتحميلها على كل الأجهزة)، متبعاً تغريدته بوضع رابط التحميل،
وذلك في الرد على منع الكتاب، حيث كتب العودة تغريدة يوم
منع الكتاب في 16 آذار (مارس) الماضي وقال (تم اليوم منع
كتابي (أسئلة الثورة) من التداول في معرض الكتاب. ليس
هذا زمن المنع والحجب والمصادرة!). وعلق على قرار المنع
بقوله (للأمانة فإن ـ أسئلة الثورة ـ كتبته بتوازن وهدوء
وعرضته على أساتذة وشيوخ من مشارب شتى، ومن يقرؤه بتجرد
فسيوافقني فيما أظن، ولذا فإنه لا يستحق هذه المعاملة)،
ثم استطرد: (إلا إذا كان السبب اسم المؤلف). اللافت في
قرار منع كتاب العودة هو استدعاء الرقابة مسؤول الجناح
وتوقيعه على تعهد بعدم بيع نسخة واحدة من الكتاب، ما يحول
دون صفقات البيع (من تحت الطاولة).
بالنسبة لخصوم العودة في التيار السلفي المتشدّد، كانت
لهم مواقف مؤيدة، فقد كتب أحدهم تعليقاً على خبر المنع
المنشور في صفحة العودة على الشبكة بتاريخ 22 مارس، بما
نصّه: (الحمدلله أنه لم يعرض وأنهم منعوه، سبحان الله
أذكر أحد الدعاة كان في فترة غزو العراق للكويت، عمل قصة
ولا يجوز الاستعانه بالكفار، قلنا طيب؟ واليوم مؤتمر فيه
يهودي واختلاط برعايته!!) في إشارة الى انقلاب بعض المشايخ
على مواقفهم السابقة.
في المضمون، قدّم محمد وائل، المقرّب من التيار السلفي
الصحوي ومن الشيخ العودة، في 12 مارس الماضي في موقع الإسلام
اليوم الذي يشرف عليه العودة قراءة تمجيدية لكتاب (أسئلة
الثورة)، فقد اعتبره بمثابة إعادة بناء المفاهيم، وأنه
من أهم دوافع العودة (لتجديد مفهوم متوزان للثورة في ضوء
معطيات الواقع وثوابت الشريعة). وشأن القراءات المنبثقة
من داخل الدائرة، فإنها تنأى عن تقديم قراءة تفكيكية وعلمية،
وهو ما لم يقله العودة نفسه. فقد نأى وائل عن اعتناق مقاربة
تفكيكية تؤدي الى تخريب النشوة المعرفية التي يحاول المؤلّف
والقارىء أن تستمر لجهة اعتبار الكتاب فتحاً جديداً في
مجال المطارحات الثقافية داخل مجال الربيع العربي.
يقارب العودة في كتابه موضوعة الثورة بطريقة اجترارية
كالعلاقة الجدلية النمطية، بل الموغلة في القدم بين الثورة
والإصلاح، إذ إن الثورة تعتبر حالة رفض للإصلاح الذي لا
يأتي، وإذا جاء يكون أعرجاً. حاول العودة طمأنة الحكومة
السعودية بأن الكتّاب ليس موجّهاً ضدها بقوله (أتناول
الموضوع بعيداً عن مماسة محليّة لوضع خاص في هذا البلد
أو ذاك) والسبب كما أفصح عنه (أريد الحديث براحة وحرية،
وأن أنعتق من ضرورات واقع محليّ له خصوصية، ولا أريد..الخ).
إنه بكلمات أخرى يريد النأي بنفسه عن خطر تسمية الأشياء
بأسمائها.
لا شك أن الاسقاطات كثيرة في كتاب العودة على الواقع
المحلي، منها صعوبة اقدام الأنظمة المستبدة على الإصلاح
الذي تعتبره تراجعاً، وإن (الخيار الأفضل هو استثمار الوقت
ـ الضائع أحياناً ـ ليس من أجل تقديم بعض الرشى للناس
لتخفيف حدّة معاناتهم الإجتماعية والاقتصادية، بزيادة
الأجور، وإعطاء المنح والقروض الميّسرة، وتخفيف أسعار
المواد الأساسية، والإعلان عن محاربة بعض وجوه الفساد
للصوص الصغار). إذن مالحل؟: (بل المسارعة صوب مهمة مركزية
هي إجراء إصلاحات جدية وجريئة تنزع صواعق التفجير الداخلي،
بدءاً من تخفيف حضور القبضة القمعية، والتخلي عن الاستئثار
بالثروة والأنشطة السياسية والاقتصادية، وانتهاءً بضمان
حقوق الناس وبصورة خاصة حرياتهم السياسية والتعبيرية).
قد ينطبق هذا الواقع على المملكة السعودية أكثر من
غيره، أليس كذلك؟ فقد أعلن الملك عبد الله في 17 مارس
2011 عن تقديمات اجتماعية بقيمة 36 مليار دولار لاحتواء
السخط العام.
يقول العودة أن الحل للأزمات التي تعيشها الأنظمة العربية
يكمن في: (السير قدماً نحو الانفتاح على الناس، وتقديم
تنازلات جريئة على صعيد حقوق المواطنة والعدالة وسيادة
القانون، وإعادة صياغة العلاقة بين الحاكم والمواطن..).
بدأ العودة بالتاريخ، تاريخ الإمامة، ليضع مفهوماً
مخالفاً للسائد السلفي/ والوهابي حصرياً في موضوع النسب
القرشي، حيث قال عن شرط النسب بأنه (اعتبار تاريخي) بالنظر
الى أن العرب (كانت آنذاك لا تدين إلا لهذا الحي من قريش).
لاشك أن لغة الكتاب حداثوية بامتياز، ولا صلة لها بالكتابات
السلفية المعروفة سبكاً ونهجاً، فبمجرد إخفاء إسم المؤلف
والنصوص الدينية، فإن القارىء سيجد نفسه أمام نص حداثوي
خالص، تشيع فيه مفردات الحداثة السياسية، وحتى مفهوم الديقمراطية
لا يبدو جدلياً بل يتموقع بكل ثقة وصلابة وترحيب في النص.
وعلى غرار قراءة فرانسوا فوريه في تيه المثقفين بعد
الحرب العالمية الثانية، ومالك بن نبي في تيه المثقفين
الجزائريين بعد الثورة الجزائرية، يحاول العودة أن يقدّم
قراءة عمّا أسماه (تيه المثقفين بعد الثورة العربية).
يحلو للعودة تقديم قراءة بإعادة إنتاج الماضي في لغة جديدة
لمقاربة التيه المقصود: تيه في البحث عن المخرج وإعادة
بناء المفاهيم، وفي تصوّر واقع الثورة، وتيه في إعادة
ترتيب العلاقات، الحلفاء، الأصدقاء، الأعداء.. هي موضوعات
قاربها العودة بطريقة مختلفة في أزمنة سابقة قبل الربيع
العربي، ولكّنه اليوم يقدّمها بلغة مختلفة، وحداثوية وجاذبة..
يريد أن يكون من الفقهاء (ذوي نظر سديد وثقافة حديثة،
إضافة الى العدالة والانضباط الأخلاقي). إذن، ثمة عنصر
جديد دخل على صفات الفقيه: الثقافة الحديثة! هو يريد كما
قال (الفقيه الذي يتعامل مع النصوص أكثر من الواقع).
لقد اعترف العودة في بداية كتابه بما نصّه (إن غالب
دوري في هذه السطور هو الاقتباس والنقل والاختيار لما
أميل إليه مما أجده عند غيري، فقد قرأت كتباً كثيرة ومقالات
أكثر، وكان دوري كما يقال: خذ من هنا وضع هنا وقل: ألّفت
أنا)!!
إقرار صادق، ولكن هل يكفي؟ فالاستعارة هنا ليست مجرد
نقل نص، فنحن هنا أمام تحوّل فكري، ينطوي على قطيعة ايديولوجية
مع كل ما كتبه العودة سابقاً في موضوعات مشابهة، بمعنى
آخر أن القضية ليست مقتصرة على تأليف كتاب ثقافي عادي،
بل هو يشتمل على رؤية انقلابية، فما كان يعتبر العودة
غير شرعي وحرام بات اليوم شرعياً وربما واجباً، كالديمقراطية
مثلاً. إنها بكلام آخر، تمرّد على الهوية والانتماء للمدرسة
السلفية، فكتاب بهذا الإنفتاح غير المسبوق، والذي يقترب
من طريقة التنويريين الإسلاميين الذي اقتبسوا مفاهيم رئيسية
في الليبرالية السياسية والاجتماعية، لا سابقة له في المدرسة
السلفية حتى الآن.
ويمكن القول، بأن الشيخ العودة هو أول من غادر موقعه
الأيديولوجي ودخل مرحلة جديدة تقارب الى حد كبير التوفيقيين
بين الأصالة والمعاصرة والتجديد المفضي الى التنازل عن
أفكار ومسبّقات ذهنية صلبة.
واحدة من استعارات العودة الهامة قوله: (لا بد من القبول
بالتعددية والاختلاف كمقدّمة لا غنى عنها، بصياغة عقد
اجتماعي متوازن، يوفّق بين منازعات بشر تتباين همومهم
ومصالحهم، ويضمن للجميع حقوقهم على قدم المساواة في المشاركة
السياسية وإدارة شؤون الوطن) ص 26. إنه نصٌّ بكل تأكيد
بالغ الجدّة، ولا ينتمي للخطاب السلفي التنزيهي، فهو يتماهى
مع اللغة الليبرالية في بعديها الفكري والسياسي. إنها
لغة من يناصر حق الشعوب في تقرير شكل الحكم والدولة، لأنهما
يعبّران في تجسيدهما عن إرادة الشعب أولاً وأخيراً، ولذلك
يرفض العودة حصر الأمن في الطبقة الحاكمة، إذ بحجة أمنها
(يتم خرق وانتهاك أمن شعوب بأكملها، وأمن حريتها، وأمن
حقوقها، وأمن ذواتها وأفرادها) ص 26.
وعلى الضد من مفردات الفتنة والفوضى والغوغائية والفساد
التي صبغت بيانات وتصريحات المفتي وكبار علماء المؤسسة
الدينية الرسمية في المملكة، فإن العودة يقدّم رأياً متطوّراً
وغير مسبوق بقوله: (إن التغيير أيّاً كانت صوره وأدواته
مغامرة تستحق أن تخاض للخروج من هذا المستنقع الآسن، وفتح
صيرورة جديدة، لعل أهم ما فيها: تقديم دور الناس في تقرير
مصيرهم، وصياغة مستقبلهم دون إقصاء أو وصابة من أحد).
بل إن العودة يوجّه نقداً ضمنياً لمعارضي الثورات ويبرر
ذلك: (لأنهم ينتمون بشكل أو بآخر إلى الواقع المرير، أو
هم من صنّاعه والمستفيدين منه، المراهنين عليه، أو اليائسين
الذين يرونه السفح، ولكن يرون ما بعده الهاوية، وهم في
النهاية ضحاياه بتكفيرهم ويأسهم المدمّر) ص 27.
لأول مرة يشعر القارىء لكتاب شيخ صحوي مثل العودة بإمكانية
التعايش بين الحداثة والتقليدية، فحتى الثورة بما هي مفهوم
حديث يمكن قراءتها تقليدياً، ولكن أيضاً تبنيها من التقليدي،
بما هي مفهوماً حداثوياً. في حقيقة الأمر، إن ما قام به
العودة في التنظير للثورة إنما هو (مغادرة أيديولوجية)،
فالتعايش المقصود هنا، هو ما يظهر في المحاولة التوفيقية
التي يقوم بها العودة، ولكن في جوهرها هي نزعة تخلّي عن
خطاب غير قابل للتعايش مثل الخطاب السلفي الصارم، واعتناق
خطاب حداثي يراد إسباغ صفة الإسلاموية عليه، كيما يكون
مقبولاً أو مشرعناً من وجهة نظر صانعه.
لا ينبئك التباين بين الثورة والإنقلاب وحرب الاستقلال
كما يقاربه العودة سوى عن حضور كثيف للمعجم السياسي الحداثوي
وبسطوة غير معهودة. فالثورة كتغيير جذري وظاهرة اجتماعية
ذات علاقة بتغيير الأنظمة السياسية بكل المقدّمات والتراكمات
الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية المفضية
اليها كما ينقلها العودة عن أدبيات فلاسفة الثورات الأوروبية،
تنبىء عن أن العودة يتصالح مع الحداثة دون مواربة.
لفتات في الكتاب توحي بتحوّلات فكرية كبيرة كقوله:
(لا تجد في الكتاب والسنة تفصيلات كثيرة في طبيعة الحكم
وانتقاله، وتفصيل العلاقة بين الحاكم والمحكوم، كما لا
تجد فيها تفصيل مسائل الطب أو التجارة أو الإدارة، ولكن
يشمل هذه المعاني وغيرها قوله صلى الله عليه وسلم: أنتم
أعلم بأمور دنياكم). هكذا كانت بداية من سبق العودة قبل
أن يغادروا مواقعهم، إنه إقرار ضمني بأن الإسلام لا يمتلك
نظريات سياسية واقتصادية وادارية وطبية، وإن استخدام الآية
الكريمة (ما فرطنا في الكتاب من شيء) لا يمكن تطبيقها
في جدلية شمولية الإسلام، وإنه ينطوي على حلول لكل المشكلات،
ونظريات في كل الحقول.
اللافت أن العودة اعتبر دولة الخلافة (استثناء تاريخياً
لا يتكرر ص 61)، وهو رأي يعتبر صادماً في المجال السلفي،
إذ السلفية في جوهرها اتباع هدي الأولين، فإذا اعتبرت
الخلافة استثناء غير قابل للتكرار، فإن ذلك تقويضٌ لمفهوم
السلفية. في الواقع أن الكتاب يشتمل في أكثره على أفكار
متناقضة في الصميم مع النهج السلفي. ولا شك، أن رأي العودة
في دولة الخلافة يستدعي كتاب علي عبد الرازق في (الإسلام
وأصول الحكم)، الذي نفى فيه أن تكون الخلافة نموذجاً معيارياً
في مقام الاقتداء والاقتفاء والإلزام، والنظر اليها باعتبارها
تجربة بشرية فحسب.
قدّم العودة نقداً لاذعاً لكتب (الأحكام السلطانية)
والسياسة الشرعية، للماوردي وابو يعلي الحنبلي والجويني
والغزالي واعتبرها (أقرب الى توصيف الواقع وحكايته وتسويغه
من الناحية الفقهية)، ولاشك أن العودة أفاد من قراءة كثير
من الحداثيين العرب والأجانب الذين كتبوا عن هذه المرحلة
ونتاجاتها، مثل كتاب محمد جابر الانصاري (تكوين العرب
السياسي ومغزى الدولة القطرية)، ووجيه كوثراني (الفقيه
والسلطان)، ومحمد عابد الجابري (تكوين العرب السياسي)،
وبرهان غليون (نقد السياسة: الدولة والدين) وغيرهم، من
الذين توصّلوا الى حقيقة أن الكتابات السلطانية الأولى
أضفت مشروعية على الواقع التاريخي للمسلمين، فجرى تسويغه
فقهياً.
حتى القراءة التاريخية لدى العودة تبدو مختلفة في كتابه
(أسئلة الثورة)، فهي متطوّرة ومنفتحة ونقدية ضمنياً على
الأقل، فهو يقدّم رؤية جديدة وتحليلاً تاريخياً لا ينتمي
بحال الى القراءة السلفية للتاريخ، بما في ذلك تاريخ الخصومات
والنزاعات داخل المجال الإسلامي.
يرفض العودة التسليم بما جاء في التاريخ الاسلامي من
تجارب ونماذج وصيغ وقوالب، فهو مثلاً لا يعتبر مصطلح (أهل
الحل والعقد ملزماً أو حتى شرعياً)، ويرى بأن هذا المصطلح
نشأ في ظروف تاريخية (وهو بحاجة الى مراجعة ـ ص 83)، فضلاً
عن أن يكون المصطلح مرتبطاً بتجربة تاريخية، ولذلك فهو
يرى بأن (الحق هو للأمة، فهي الأصل وهي أحد طرفي العقد،
والحكم هو الوكيل أو النائب عنها، وليس الحكم تفويضاً
إلهياً، والبيعة عقد تراضٍ لا إذعان فيه باتفاق السلف
المتقدّمين) ص 84.
وحتى تطبيق الشريعة، فإن العودة يرى بأنه ليست قالباً
جامداً يجب اعتماده حرفياً وصارماً، فلكل زمن ظروفه وأوضاعه
التي تتناسب معه، ما يفرض نهجاً مختلفاً في تطبيق الأحكام،
وآليات متطورة لإقرارها.
ناقش العودة هوية الدولة ما بعد الثورة: (دينية أم
مدنية؟)، وتوصّل الى المزاوجة بين دينية الدولة (لالتزامها
بالقيم الدينية الإسلامية وأن الشريعة إطار قراراتها وخيارتها)،
والمدنية باعتبارها (التزام الأمة أو الشعب بالترتيبات
الاجتماعية الإنسانية التوافقية بين جميع فئات المجتمع
وهم المواطنون بخيارتهم وقناعاتهم) ص 127. ويقترب العودة
من هذه المزاوجة من نظرية المودودي في الحكم الإسلامي،
أو ما اصطلح عليه (ثيوديموكراسي ـ الديمقراطية الدينية).
فالحكومات حسب العودة (معبّرة عن إرادة الشعب وخياراته،
وهي وكيلة عنه وفق تعاقد مدني صرف..) ص 128.
يتبنى العودة فكرة مونتسكيو في الفصل بين السلطات كما
جاء في كتابه (روح القوانين)، ويكتب ما نصّه: (يجب إذاً
فصل السلطات الثلاث: التشريعية، القضائية، التنفيذية،
بشكل واضح لكي تبقى الحكومة المركزية متوازنة وبعيدة عن
الفساد). وبطبيعة الحال، وشأن غيره من علماء الدين الذين
قاربوا قضايا معاصرة، فإن العودة يحاول أن يوجد نصوص وتجارب
حول الفصل بين السلطات من التراث الإسلامي، ولكن هو ديدن
من يريد التحصّن بالمشروعية الدينية التاريخية كيما لا
يصيبه أذى الأتباع والمتشدّدين من التقليديين، حرّاس الفضيلة!
من المقاربات الساخنة والجدلية في كتاب العودة ما له
علاقة بالموقف الإسلامي من الديمقراطية، من وجهة نظره
بطبيعة الحال، وقد توصّل لذلك بعد عرض لجذور الديمقراطية
تاريخياً وفكرياً. فأول تأسيس للديمقراطية هو أن الأمة
لابد أن تعبّر عن نفسها بصورة واضحة إما مباشرة أو عبر
ممثليها ـ ص 135. وقد بنى على الفكرة موقفه من الديمقراطية:
(الديمقراطية ـ إذاً ـ هي ثمرة التجربة الإنسانية وهي
صيغ متعددة) ص 135. في نهاية المطاف، وجد العودة في الديمقراطية
ما يقرّبها من مفهوم الشورى، كيما تنال دمغة الشرعية الدينية.
في حديثه عن العلاقة مع الآخر في مرحلة ما بعد الثورة،
يشدّد العودة أولاً على حق الإسلاميين في التداول السلمي
للسلطة، وتطمين الآخر من أنه سيحظى بالحماية والمواطنة،
مستحضراً ما أسماه (المبادىء الأخلاقية الإسلامية العليا)
للتنوع العرقي والديني في المدينة ما بين العرب واليهود،
والأوس والخزرج، والأنصار والمهاجرين ـ ص 161. هو يرى
بأن (التشكل الجديد هو دولة المواطنين كلهم بلا استثناء،
البر والفاجر، والمؤمن وغير المؤمن..) ص 163.
في العلاقة مع الغرب، بدا العودة غامضاً وترك الباب
مفتوحاً لإمكانية رؤية وجه إنساني وحقوقي للغرب، ولكنّه
حاول أن يلمح الى التجربة التركية باعتبارها متصالحة مع
الغرب وليست متماهية معه، مع التفاتة الى التقاء الخصمين
اللدودين في ليبيا (القاعدة) ممثلاً في عبد الحكيم بلحاج،
والغرب ممثلاً في (الناتو)، هل يعني ذلك شيئاً؟ بالتأكيد.
ثمة كلام جديد عن (الثورة والفتنة الطائفية)، يتناول
فيه بإيجابية موضوع التنوع المذهبي ويعتبره الحالة الاعتيادية
والطبيعية في تاريخ المسلمين بل شدّد على تجنّب (تعميم
نموذج واحد على جميع الأقطار، وأن نؤمن بوجود مبادىء أساسية
مشتركة، وجوانب اختلاف واسعة..)، وقال بأن (المواطنة حق
للجميع، والأصل أنهم متساوون أمام القضاء وأمام الفرص
الحياتية)، وطالب بالتعامل مع قضايا (الأقليات) بيقظة
شديدة (فكثيراً ما تكون شرارة الإحتقان والشحن الطائفي
سبباً في حريق يأتي على الجميع أو ذريعة لتدخل خارجي)
ص 199 ـ 200. وخلص للقول: (حقوق الأقليات محترمة في الشريعة،
ويجب أن تقوم دساتير تحفظ حقوقها وفق إطار ديمقراطي نزيه،
ووفق حوارات وطنية موضوعية بعيدة عن الهوى والتعصّب والمصادرة)
ص 201.
ويرى العودة بأن السبيل الى إجهاض فرص تغوّل الثورة
بقيام مؤسسات مجتمع مدني فاعلة ومؤثرة، وأن (بناء الديمقراطية..
قائم على التعاقد والوفاق، لما يراعي الهوية العربية والاسلام،
ويضمن العدالة وتساوي الفرص بين الأفراد، ويتميّز بفصل
السلطات، وإطلاق الحريات العامة وتبني خيار الشعب عبر
مؤسساته الأهلية والمدنية وقنوات التعبير المستقلة) ص
205.
ما نخلص من قراءة (أسئلة الثورة) أننا أمام شخصية سلفية
زاولت عملية انتقال معرفي من السلفية المغلقة الى الليبرالية
بنكهة دينية، وقد تترك تأثيرات في مكوّن إجتماعي يستلهم
من أفكار العودة ما يجعل إمكانية اندلاع مطارحات فكرية
واسعة قائمة، وقد تستوعب جماعات عديدة داخل المجال السلفي.
|