محنة العزلة وانفصال (القاعدة) عن القيادة
قراءة في رسائل بن لادن
فريد أيهم
ما أفسح عنه من رسائل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن
لادن من قبل الأميركيين يستحق التأمل، وإن كانت الرسائل
السبع عشرة لا تعكس الصورة أو السيرة كاملة لتنظيم شغل
الناس برهة حاسمة من تاريخ العالم، ولكن الرسائل تنطوي
على جوانب ذات أهمية بالغة..
رسائل من أبوتاباد، الباكستانية، الواقعة على بعد 116
كم الى الشمال من رواالبندي، و217 كم من مدينة بشاور،
وهي مدينة صغيرة في وادي رحب فسيح محاط بالتلال المكسوة
بالخضرة، وهي في الوقت نفسه مكاناً مناسباً لتربية الماشية،
المهنة الرئيسية لسكان القرية، كما تعتبر منتجعاً صيفياً
نموذجياً، حيث كان يقيم ابن لادن قبل مقتله على يد قوة
كوماندوز أميركية في أيار (مايو) 2011.
الوثائق السبع عشرة المفرج عنها بعد مرور عام على مقتل
إبن لادن من قبل مركز مكافحة الإرهاب، هي عبارة عن رسائل
إلكترونية أو مسوّدات رسائل تصل إلى 175 صفحة في صيغتها
العربية الأصلية و197 صفحة مترجمة الى الإنجليزية. وهي
تعود في أقدمها إلى أيلول (سبتمبر) 2006 وآخرها في نيسان
(إبريل) 2011. وهذه المراسلات الداخلية للقاعدة كتبها
عدد من القيادات، أبرزهم أسامة بن لادن. وفي مقابل تصريحاته
العلنية التي تسلّط الضوء على جور من يعتقد بأنهم أعداء
المسلمين، أي الحكام المسلمين المرتدّين الفاسدين ورعاتهم
الغربيين، فإن التركيز في الرسائل الخاصة لابن لادن كان
منصباً على معاناة المسلمين على أيدي الاخوة المجاهدين.
فهو يسدي بألم نصائح اليهم بوقف الهجمات المحلية التي
تتسبب في ضحايا مدنيين من المسلمين والتركيز على الولايات
المتحدة (هدفنا المفضّل). الإحباط الذي أصاب بن لادن من
المجاميع الجهادية المحلية وعجزه الواضح عن السيطرة على
أعمالها وعلى تصريحات قياداتها العلنية هي القصة الأكثر
إثارة والتي يجب أن تروى في ضوء الوثائق السبع عشرة المفرج
عنها، وهو الجانب المغفول عنه في حياة زعيم التنظيم.
تبدي الرسائل جانباً من المحنة التي عاشها بن لادن
في السنوات الأخيرة، فكان يشعر وكأنه بات وحيداً فلا سمع
ولا طاعة لأوامره ونواهيه. وفي الواقع، إن هذه المحنة
بدأت ملامحها تتبدّى منذ أن سعى أبو مصعب الزرقاوي لأن
يرث القيادة من إبن لادن وهو على قيد الحياة، فصار يمارس
دور القائد العام للتنظيم، فيما بقي بن لادن ورفيقه أيمن
الظواهري في عزلة شبه تامة عن الأغلبية الساحقة من الكوادر
القيادية في التنظيم باستثناء قلة محدودة جداً جرى التواصل
معها عن طريق قنوات وترتيبات معقّدة للغاية، واشتدّ الخناق
على حركة بن لادن في السنوات الأخيرة، بعد أن بدأت تمارس
التنظيمات القاعدية الفرعية ما يشبه دور الإمارات المستقلة،
فكل تنظيم يقوده أمير ويتصرف باعتباره المرجعية النهائية،
فصادرت دور القيادات العليا للتنظيم.
أحد الأسباب التي يمكن أن نعزوها الى هذه الفجوة هو
بروز قيادات فرعية لم ترتبط بالقيادة العليا للتنظيم في
أفغانستان، وبعضها لم يزر هذا البلد الا لبرهة من الزمن،
ولذلك لم يكن يسجّل إسمه بين (قدامى المجاهدين)، الذين
إمّا قرّروا الإنسحاب من العمل القتالي كرد فعل على تبدّل
إستراتيجية العمل لدى (القاعدة) أو أن القيادات الشابة
فرضت نفسها على التنظيمات الفرعية في غفلة من الجيل الأول
أو انهماكه في مهمات أخرى قتالية أو لوجستية..
قد لا يعنينا بعض الرسائل التي تتحدث عن موضوعات لا
صلة لها بالحدود المرسومة لمجلتنا، وقد تصلح لقراءة أخرى
موسّعة في وقت ما، ولكن التركيز هنا سيقتصر على جوانب
محددة وردت في هذه الرسائل.
|
بن لادن، الإنفصال عن (القاعدة)!
|
بن لادن والربيع العربي
لابد أن تنظيم القاعدة تفاجأ بانفجار الثورات العربية
وانتقالها من بلد الى آخر على شكل لعبة الدومينو، ولابد
أنه شعر بأن الشارع العربي قد تجاوز مشروع القاعدة ورموزها،
وأنها لم تعد تتصدر الشاشة، فقد جاء وقت الشعوب العربية
التي فرضت نفسها على الشاشة، واختار طريقاً لا يلتقي مع
القاعدة من حيث المطالبة بالديمقراطية والحرية ودولة تعددية.
ولكن مع ذلك لم يرد زعيم التنظيم أن لا يسجّل موقفاً في
الربيع العربي المفتوح على الزمان والمكان.
في الرسالة العاشرة بتاريخ 22 جمادى الأولى 1432هـ
الموافق 26 إبريل 2011 ، يقول ابن لادن:
(أن من أهم خطوات المرحلة القادمة
حث الشعوب التي لم تثر بعد وتشجيعها للخروج على الحكام
والطرق على أنه واجب شرعي وضرورة عقلية فيتم تركيز السهام
على إسقاط الحكام دون الحديث عن المسائل الخلافية مع الاهتمام
الأقصى بنشر الوعي وتصحيح المفاهيم ونرسل الى الاخوة في
كل الأقاليم بأن يهتموا بنشر كتاب: مفاهيم ينبغي أن تصحح
ـ للشيخ محمد قطب).
ولاشك أن فكرة (إسقاط الحكام) لم تكن واردة في استراتيجية
التنظيم، لا سيما بعد أن التزم بن لادن بنصيحة أحد المشايخ
ـ قدامى المجاهدين في المملكة بعدم الانخراط في عمليات
مسلّحة في البلاد الاسلامية وتركيز العمليات على ما أسماها
(رأس الأفعى)، أي الولايات المتحدة حسب قوله.
في ضوء التحوّل السياسي الجديد في الشرق الأوسط، أجرى
بن لادن تعديلاً تكتيكياً على طريقة تعاطي التنظيم مع
الأحزاب والقوى السياسية الدينية في الدول العربية لا
سيما الاخوان المسلمين بتفريعاتهم، ولذلك نجده يذكّر إخوانه
(في الأقاليم بأهمية التحلي بالمكث والأناة ونحذرهم من
الدخول في أي مصادمات مع الأحزاب المنتسبة للإسلام..).
والهدف من ذلك هو امتطاء موجة الثورات العربية وتثميرها
لصالح التنظيم: (وواجبنا في هذه الفترة أن نهتم بالدعوة
بين المسلمين وكسب الأنصار ونشر الفهم الصحيح فالأوضاع
الحالية أتاحت الفرص بشكل لم يتح من قبل..).
بن لادن المختلف
في الرسائل التي بعث بها ابن لادن الى أمراء الأقاليم
أو بعض الشخصيات النافذة والقيادية في الجماعات القاعدية
في عدد من البلدان ما يكشف عن ألم من نوع خاص كان يعيشه
بن لادن بعيداً عن الأضواء والانسجام الظاهري. في الرسالة
نصائح كثيرة لعناصر القاعدة في اليمن والعراق والصومال
وبلاد المغرب، بما تكشف عن تباينات في التوجهات حيث أن
التشدد واضح على تلك المجموعات فيما يحاول هو الحد من
تلك النزعة المتطرفة لديها، وبلغة لا تخلو من حسرة وحرقة
حتى وكأن لهجته توحي بأنه شديد الاحباط من أولئك الذين
ينتسبون للتنظيم ويحملون إسمه ويخالفون توجيهاته..
من بين الموضوعات الخلافية بين بن لادن والتنظيمات
الفرعية العمليات القتالية داخل حدود الدول العربية والاسلامية
التي لم تقع تحت الاحتلال الاميركي. فمثلاً، في الرسالة
السابعة عشرة، بدا واضحاً أن بن لادن لا يميل الى أن يزج
نفسه وأهله في اليمن في هذا الوقت قبل (أن تتهيأ الأوضاع..)،
ورأى بأن (تبقى اليمن هادئة، وإنا ندخرها كجيش احتياطي
للأمة.. مع استمرار استنزاف العدو في الجبهات المفتوحة،
الى أن يصل العدو الى مرحلة الضعف التي تمكننا من إقامة
دولة الإسلام..). وبناء على ذلك، كان بن لادن يميل الى
الهدنة بين النظام والتنظيم:
(فالرأي عندنا أن توسطوا كبار
العلماء وشيوخ القبائل في السعي للاتفاق على هدنة منصفة
تساعد على استقرار اليمن، رغم علمنا بأن علي عبد الله
صالح قد لايستطيع الموافقة على الهدنة، فإن رفضت الحكومة
الهدنة فسيظهر أنها هي المصرّة على تصعيد الأمور المؤديّة
للقتال، وأن أمرها ليس بيدها، وبذلك يكون تعاطف الشعب
مع المجاهدين مستمراً وبشكل أكبر، ويتحمل الخصم مسؤولية
تبعات الحرب وليس نحن ويظهر للناس أننا حريصون على وحدة
الامة الاسلامية وسلامة المسلمين بأسس سليمة).
هنا يبدو التباين بين توجيهات بن لادن وما يجري على
الأرض، حيث يواصل تنظيم القاعدة في جزيرة العرب عملياته
القتالية ضد النظام اليمني وضد القوى السياسية والاجتماعية
التي تختلف معه سواء في الشمال أو الجنوب:
(وبما أننا لا نرى التصعيد لأننا
مازلنا في مرحلة إعداد فليس من المصلحة التسرّع في العمل
على إسقاط النظام فهو رغم ردّته وسوء إدارته إلا أنه أخف
ضرراً ممن تريد أمريكا استبداله بهم. فعلي عبد الله عاجز
عن قمع النشاط الاسلامي وكونه رجل غير اسلامي وموالياً
للغرب كان بمثابة مظلة للنشاطات الاسلامية طيلة السنين
الماضية، فاستفاد من ذلك الاخوان والسلفيون والسلفية الجهادية.
فيبقى الإستمرار في استنزاف أمريكا من خارج اليمن، كذهاب
بعض العناصر الى الصومال أو إلينا، ومنها ينطلق الاخوة
الى العمليات الخارجية، وفي حالة لم توافق الدولة على
الهدنة والمصالحة تركزون على الإخوة اليمنين المغتربين
القادمين في إجازات، ويمتلكون فيزة أو جنسية أمريكية للقيام
بعمليات داخل امريكا، شريطة أن لا يكونوا قد أعطوا عهداً
لأمريكا بعدم الاضرار بها، كما ينبغي توسيع دائرة العمل
وتطويره في التخطيط للعمليات وتطويرها وأن لا نحصر أنفسنا
في تفجير الطائرات هناك فقط).
من الواضح في هذا المقطع، أن بن لادن يميل الى نقل
العمليات القتالية الى الولايات المتحدة ووقف المواجهات
المسلحة مع النظام اليمني، بل وافساح المجال أمام علي
عبد الله صالح للبقاء لأن في ذلك تقوية للجماعات الإسلامية.
وينظّر بن لادن لموضوع تركيز وحصر القتال ضد الولايات
المتحدة، لأن (القاعدة) إنما نشأت لهذا الغرض، يقول بأن
القاعدة (تميزت في تركيزها على العدو الأكبر الخارجي قبل
الداخلي وإن كان الأخير أغلظ كفراً إلا أن الأول أوضح
كفراً كما أنه أعظم ضرراً في هذه المرحلة، فأمريكا هي
رأس الكفر فإذا قطعه الله لم يعص الجناحان..)، ويعلّق:
(ورغم أن هذه السياسة واضحة في
أذهان الإخوة الكبار إلا أنه ينبغي التذكير بها مكتوبة
لجميع الاخوة مع ملاحظة أن هناك أجيال جديدة من الشباب
انضموا الى مسيرة الجهاد ولم تتم توعيتهم بهذا الأمر مما
يؤدي الى القيام بعمليات فرعية بدلاً من التركيز على الأصل،
كما سمعنا في الأخبار من بعض العمليات على قوى الدولة
في مأرب وعتق، فعسى أن تكون هناك ضرورة دفعت إليها كالدفاع
عن النفس).
وهنا يكشف بن لادن عن سر استقلال التنظيمات الفرعية
بالقرار، والمؤلّفة من عناصر التحقت بالتنظيم في مرحلة
متأخرة، ولم تتشرّب مبادىء القاعدة في وجوب حصر القتال
ضد الولايات المتحدة، الى درجة أن اخبار العمليات الفرعية
تصله عن طريق وسائل الاعلام الخارجية، ما يعني أنه لم
يعد مرجعية عليا للتنظيم ولم يتم الرجوع اليه قبل تنفيذ
العمليات. فكرة بن لادن في الدعوة الى التركيز على امريكا
(ساق الشجرة) حسب قوله، يتلخص في الهدف التالي (أن نشر
الساق سيؤدي الى تساقط الفروع الواحد تلو الآخر..).
هذه الاستراتيجية التي يلخّصها بن لادن تؤسس لتطلع
نهائي: (فيجب أن نضع نصب أعيننا في هذا الوقت أن ترتيب
العمل في قيام الدولة المسلمة يبدأ بإنهاك الكفر العالمي
فإن لديه حساسية قصوى من قيام أي إمارة اسلامية..). ولذلك
يذكّر المقاتلين في القاعدة:
(وتعلمون أن كثيراً من الجماعات
المجاهدة التي أصرّت على البدء بالعدو الداخلي قد تعثرت
مسيرتها ولم تحقق أهدافها كالإخوان المسلمين في سوريا..وكذلك
في محاولة الجماعة الاسلامية في مصر وجماعة الجهاد وكذلك
الإخوة في ليبيا وفي الجزائر ومثل ذلك في جزيرة العرب
رغم أن العمل كان على بعض المراكز الأمريكية وليس لإسقاط
الدولة وقد حقق فوائد من أهمها إخراج قواعدهم الكبرى من
بلاد الحرمين، وكذلك توعية الناس بعقيدة الولاء والبراء
وانتشار روح الجهاد بين الشباب ثم ما لبث العمل العسكري
أن تعثر للأسباب السابق ذكرها).
ونبّه الى خطورة المواجهة مع المجتمع المحلي، وكيف
تحوّل التعاطف مع عناصر القاعدة الى كره بعد أن حصلت بعض
الأخطاء وكان من أكبرها وأخطرها ضرب بعض أبناء قبائل الأنبار
في غير حالة الدفاع المباشر عن النفس (كأن يكونوا متوجهين
الى الإخوة لقتالهم) وإنما كانوا في تجمع للإكتتاب في
قوى الأمن مما ألهب مشاعر القبائل ضد المجاهدين وانتفضوا
عليهم..). وكما يظهر من هذه الفقرات أن بن لادن يوجّه
نقداً لأداء الزرقاوي في العراق، والذي كان مسؤولاً بصورة
مباشرة عن مقتل كثيرين من أفراد قبائل الأنبار، وهو من
أسس لفكرة (الصحوات) التي نشأت حصرياً لمواجهة القاعدة
وعناصرها.
بصورة عامة، شعر ابن لادن في لحظة تأمل ما بأنه فقد
الكثير من شعبيته، وكان ينوي إصدار بيان يتحدث فيه عن
أن القاعدة بدأت (مرحلة جديدة لتصحيح بعض ما بدر منا،
وبذلك نستعيد بإذن الله ثقة جزء كبير ممن فقد ثقته بالمجاهدين،
ونزيد خطوط التواصل بين المجاهدين وامتهم).
|
الزرقاوي: سرقة القيادة لتنظيم
القاعدة! |
سلفية بن لادن
لا شك في الخلفية السلفية لابن لادن، فهي تبدو حاضرة
في رسائله الخاصة، كقوله: (ويجب أن يكون العمود الرئيسي
في خطاباتنا الاهتمام بتوضيح معنى لا اله الا الله وتحذير
الناس من الشرك بأساليب ومداخل مختلفة). وقد كرر هذه النزعة
في رسالة أخرى بقوله: (فالأولويات في العمل الدعوي هي
توضيح معنى كلمة التوحيد ومقتضياتها وتحذير الناس من الوقوع
في نواقضها، وكذلك تحريض الأمة على الجهاد ضد التحالف
الصليبي الصهيوني).
ولكن في المقابل، هو ضد الإسراف في استخدام لغة التكفير
من قبل قيادات التنظيم، وكان يحذر من مغبة (مزلق التشدد
والتكفير بلا ضوابط شرعية) وقال:
(بدأ ينتشر في الشبكة العنكبوتية
مصطلح: منهج السلفية الجهادية، فيقال فلان ليس على منهج
السلفية الجهادية ونحوه، وهذا أمر في غاية الخطورة، وخصوصاً
مع بداية ظهور رموز من هذا التيار المنسوب الينا يتبني
أقولاً في غاية التشدد والقطعية في مسائل اجتهادية ظنية،
وأصبح على ضوء ذلك يميز الناس ويصنفون بطريقة لا يظهر
أنها بريئة من أيدي أجهزة الأمن والمندسين..).
وفي لحظة بدا فيها بن لادن ناقداً بشدّه لأولئك الذين
يفرطون في الشعور بالتميّز السلفي ونفي الآخر، يقول لهم:
(فلسنا حكراً على السلفيين ولا
على مقلدة المذاهب بل ننتسب لكل الأمة ونستشهد بكل علمائها
وفق إصابتهم للحق بدليله وليس عندنا في ذلك أدنى غضاضة،
ولسنا في منأى عن أتباع المذاهب المسلوكة وإن تسنموا التقليد
ولا السلفيين وإن امتطوا صهوة الاجتهاد، والكل من الأمة،
والكل يؤخذ من قوله ويترك..).
وفي الوقت نفسه دعا الى تطوير خطاب القاعدة على (أن
يكون هادئاً رصيناً مقنعاً سهلاً واضحاً ملامساً لقضايا
الجماهير ومعاناتهم لا ينفر جماهير الامة والرأي العام..).
وكان بن لادن يسعى الى إقناع عناصر التنظيمات الفرعية
بأن ينأوا عن مصادمة الحركات والجماعات السياسية الإسلامية.
على سبيل المثال، بخصوص حركة حماس يرى بن لادن بأن للحركة
أنصاراً كثر (نحسبهم أنهم حريصون على نصرة الحق والدين،
وقد تغيب عليهم بعض المعاني الشرعي المهمة، ولا نريد ان
نعين الشيطان عليهم، ومرور الوقت مع توضيح أخطاء قادتهم
بلطف يساعدهم في انتباههم لتلك الأخطاء وتجنبها).
الرسالة الحاسمة
في رسالة لأحد رفاق الدرب لابن لادن من الرياض، يبدو
من كاتبها أنه رجل دين، وعلى اطلاّع وثيق وواسع باستراتجيات
عمل تنظيم القاعدة، كما يبدو عليه عمق الرؤية، والتحليل،
والتوجيه. يقول في مقدّمة الرسالة:
(هذه رسالة أخ محب لك تعرفه ويعرفك،
صحبك في بعض الأعمال والبرامج وحالت الظروف دون التواصل
والاستمرار، ولا يزال حبكم وتقديركم محلة سويداء القلب،
يفرح لفرحكم، ويتوجع لمصابكم، ويشتاق إلى لقائكم، ومايزال
على الحب في الله لكم، وإن اختلفنا في بعض الاجتهادات
حول بعض المسائل، فإن هذا الخلاف لا يمنع من التواصل بل
يؤكده ولا يحول دون التناصح بل يوجبه).
إذاً هو شخص على صلة وثيقة بابن لادن، وخاض معه تجارب
سابقة، ومطلّع على بعض تفاصيل وخبايا التنظيم.
بيد أن ثمة خطأ واضحاً في الرسالة، وهو تاريخها الذي
يأتي في نهاية الرسالة، وهو (22/8/1421هـ) أي ما يوافق
20 نوفمبر 2000، وهذا من غير المعقول، لأن محتويات الرسالة
تكشف عن أن صاحبها يتناول حوادث الحادي عشر من سبتمبر
2001، واحتلال العراق 2003، وهجمات القاعدة في المملكة
في الفترة ما بين 2003 ـ 2004.
مهما يكن، فإن الرسالة قد تركت تأثيرات واضحة على مواقف
بن لادن، ما يكشف عن أن صاحبها لم يكن شخصاً عادياً بل
كما يبدو يحتل موقعاً متقدماً في الهرم الديني السلفي،
إن لم يكن من رموز الصحوة. يلفت صاحب الرسالة إنتباه بن
لادن الى ما يحاول بعض المقرّبين منه تصوير الواقع على
خلاف حقيقته مستغلّين أوضاعه الأمنية الخاصة: (ولا شك
أن بعد الإنسان ـ بسبب الأوضاع الأمنية وغيرها ـ عن الواقع
يضعف تصوّره له بشكل دقيق ويجعل من الصعب رصد ذلك الواقع
بشكل موضوعي مما قد يجعل رأيه ـ أحياناً ـ مجانباً للصواب،
لأنه اعتمد على معلومات عامة وردت إليه من بعض المحبين
والمتعاطفين الذين يخلطون عند النقل بين الأمنيات وما
يحبّون وقوعه، وبين ما هو واقع فعلاً). ويمضي (وذلك مثل
رصد مواقف الناس من حدث معين، فقد يعطون أعداد ونوعيات
الموافقين ويهونون ويقللون من شأن المخالفين، خلافاً للواقع!،
وقد رأينا شيئاً من ذلك لدى إخواننا الموافقين لكم والذين
ينقلون إليكم الأوضاع). وهذا ينم عن ذكاء وبعد نظر لدى
صاحب الرسالة لا يصدر الا عن شخص مطلّع على خبايا الأمور،
وقريب من عقل الأنصار ما يدور في دوائر التنظيم.
من بين ما ذكره صاحب الرسالة في سياق استعراض تطوّر
المواقف منذ الانتهاء من جهاد السوفييت واخراجهم من أفغانستان،
ووقوع أزمة الخليج الثانية وغزو العراق للكويت: (فعرضتم
خدماتكم على السعودية للدفاع عنها في مواجهة النظام العراقي
حتى لا تستعين بالقوات الأجنية، وطلبتم من شباب الجزيرة
ـ اليمن والسعودية وبقية دول الخليج ـ الرجوع الى بلادهم
للمشاركة في مقاومة الاجتياح العراقي). ثم ينتقل للحديث
عن الضغوطات التي تعرض لها بن لادن حين كان في السودان،
فاضطر للعودة الى أفغانستان: (ولم تكن القناعة متوفرة
بالقتال مع طالبان أو دعمهم حتى سيطر الطلبة على جلال
آباد وكابل، واستتب لهم الأمر في عامة البلاد وتعرفتم
عليهم عن قرب، وتكوّنت القناعة بهم، والإطمئنان الى توجههم،
وتمّت مبايعة الملا محمد عمر، وكانت المرحلة هي السعي
في استكمال السيطرة على الشمال المتمرّد وترسيخ جذور الإمارة
الإسلامية الناشئة التي استنفذت الطموح الكبير الذي أوشك
على الانهيار).
هنا يلفت صاحب الرسالة الى الخطأ الاستراتيجي القاتل
الذي ارتكبه بن لادن بعد ذلك:
(وقبل أن تقوم الدولة على قدميها
وتستكمل سيطرتها على البلاد، بدأتم العمل في الخارج مستهدفين
بذلك رأس الأفعى، متأثرين بمشاهدة جموع الشباب المتوقد
المستعد للتضحية الذين تزايدت أعدادهم في التوافد على
مراكز التدريب، فكانت عمليات نيروبي، كول، ثم 11 سبتمبر،
والتي كانت نهاية لحكومة طالبان ـ الإمارة الإسلامية ـ
التي علقت عليها آمال كبيرة).
وتساءل صاحب الرسالة عن السبب الذي يجعل عنوان (العمل
في البلاد الاسلامية عموماً وفي أرض الجزيرة خصوصاً) موضوعاً
لرسالته. وتساءل: لماذا أرض الجزيرة فقط؟ هل يهمكم فقط
حماية أنفسكم وتحقيق أمنكم وبقية العالم يحترق؟
وعلّق قائلاً بذكر عدة نقاط:
أولاً: أنه لايرى العمل داخل البلاد الاسلامية بشكل
عام، حتى ولو كان ذلك ضد رأس الأفعى، لأن في ذلك مفاسد
كبيرة على تلك الشعوب المسلمة، وأضرار بالغة على كافة
ميادين الدعوة والعمل الخيري والاحتسابي وغيرها، ويعطي
فرصة لتغلغل رأس الأفعى ونفث سمومها بشكل أكبر.
ثانياً: يرى بأن أهم المواطن وأنجحها لضرب رأس الأفعى
هي المواقع التي تدخّلت فيها بشكل عسكري سافر كما يجري
في أفغانستان والعراق وتركيز العمل في تلك المناطق أولى
من تشتيت الجهود وبعثرتها، مع ما يصاحب ذلك من مفاسد.
ثالثاً: يعتقد بأن أرض الجزيرة لها خصوصيتها وتميزها،
وبخاصة في دعم الجهاد بالكوادر وتمويله المادي والمعنوي،
وتعتبر أرض الجزيرة القاعدة الخلفية لكل الأعمال الجهادية
في العالم من أفغانستان والشيشان الى العراق وفلسطين،
وضرب هذه القاعدة مؤثر بشكل واضح وجلي على كافة تلك الاعمال
الجهادية.
رابعاً: يشدّد على استراتجية في العمل تستثني العالم
الاسلامي برمّته وتقصر المواجهة المسلّحة على الولايات
المتحدة، ويرى بأن الأسلم للذمة، والأبرأ لحفظ الدماء
المعصومة، والأنفس المؤمنة، هو البعد عن العمل داخل البلاد
الاسلامية لعدم تمايز الصفوف، ولا يخفى على فضيلتكم قول
الله تعالى: (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم
أن تطأوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته
من يشاء، لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً)..
خامساً: يلفت صاحب الرسالة بن لادن الى موقف رفاق دربه
السابقين من الاهداف الكامنة وراء استهداف المملكة السعودية،
ويقول بأنه يخشى بعض الاخوة من قدامى المجاهدين الذين
تعاملوا مع بعض قيادات التنظيم ممن قد يكون وراء هذه الاحداث
في الجزيرة، أن السبب في استهداف الجزيرة هو الحقد والحسد
والكراهية لأبناء الجزيرة بسبب بعض المواقف، وقد عرف عنه
الأخوة ذلك من قبل.
في هذه النقطة إشارة واضحة الى المشاعر المتنافرة التي
تسود التنظيم وفق جنسيات العناصر، ولذلك فإن صاحب الرسالة
يرى بأن من يشجّع على العمليات المسلّحة في السعودية هم
من جنسيات عربية أخرى يضمرون الكراهية والحسد والحقد على
أبناء الجزيرة العربية، ما يلمح الى بعد الثراء.
تساءل كاتب الرسالة عن مبررات عدم القيام بأعمال قتالية
في الباكستان: (مع أنها الأقرب جغرافياً، والأسهل، وبخاصة
مع موقفها المتشدّد من المجاهدين، وقد سلّمت عدداً من
القيادات وغيرهم الى أمريكا وساندت الاحتلال الأمريكي
بشكل سافر، وشاركت بفعالية في إسقاط الإمارة الاسلامية)،
وتساءل أيضاً: (ولماذا لم يحدث ذلك في الكويت وقطر وهما
الأكثر عمالة وانبطاحاً ومجاراة للأمريكان؟).
وتحت عنوان مرحلة العمل في أرض الجزيرة العربية، يقول
كاتب الرسالة: (الذي يظهر أنكم لا تؤيّدون أعمال الداخل
فيما يعرفه عنكم القريبون الى وقت قريب، ولعل البدء كان
عن اجتهادات فرديّة ومبادرات لم تعرض عليكم، وبخاصة وأنه
سبق مكاتبتكم حول هذا الموضوع وأظهرتم القناعة بعدم مناسبة
العمل في تلك البلاد وأضراره الكثيرة).
وهنا كما لو أن صاحب الرسالة قد كشف سرّاً، وفي الوقت
نفسه أثار شجون وآلام لدى بن لادن الذي شعر بأن هناك من
بات يعلم بأن التنظيمات الفرعية لم تعد تمتثل لأوامر القيادة
العليا، وأنها تسير على خلاف قناعاته. يقول صاحب الرسالة
بأن الاحداث أثبتت بأن الاعمال العسكرية في الداخل إجتهاد
خاطىء ولها آثار سلبية كبيرة منها:
ـ الإضرار بالجهاد والمجاهدين في جميع الساحات.
ـ مقتل كثير من القيادات والكوادر التي قتلت أو اعتقلت
بسبب هذه العمليات.
ـ التضييق على الداعمين للساحات الجهادية في الشيشان
والعراق وأفغانستان وفلسطين وغيرها وقطع تمويلها بشكل
حاسم.
ـ منع الشباب من الإلتحاق بساحات الجهاد وتشديد الرقابة
على جميع المنافذ المؤدية إليها واعتقال الذاهبين اليها
والعائدين منها.
ـ اعتقال أعداد كبيرة من الشباب المجاهدين ومن حولهم
ومن المتعاطفين.
ـ تعقّب كل من له صلة بالأعمال الجهادية ومطاردته.
ـ تضرر الكثير من أسر المقتولين والمعتقلين والمطاردين.
ـ منع الحديث عن الجهاد والترغيب فيه في المحاضرات
والخطب والمنتديات.
ـ نفرة الناس من مصطلح الجهاد وتشويهه من قبل الاعداء.
ـ خسارة التيار الجهادي لكثير من العلماء والدعاة من
المؤيدن والمدافعين عن الجهاد وقضاياه.
ـ الإضرار بالعمل الخيري مثل إغلاق مؤسسة الحرمين..
ومنع التبرعات وتجميد الحسابات البنكية واعتقال المشتبه
بضلوعه في أعمال التبرّعات، وتوقّف الكثير من الأعامال
الخيرية والإغاثية.
ـ الاضرار بالدعوة والاحتساب وجميع ميادين العمل الاسلامي.
ـ اعطاء ذريعة للإتجاهات المنحرفة للنيل من الاسلام
عموماً والجهاد خصوصاً ودفع مشاريع التغريب والعلمنة الى
الامام.
ـ اعطاء العدو المتربص فرصة للتدخل أكثر من ذي قبل
ودفع الدولة للإرتماء في أحضانه.
ـ تحفيز الجهات الرسمية ودفعها للتفاعل بشكل أكبر في
مشروع مكافحة الارهاب، وتغيير المناهج، وفرض الرقابة على
وسائل الاعلام بما يتوافق مع الحملة الاميركية ضد ما تسميه
بالإرهاب.
ـ الأضرار الكبيرة التي حصلت لعموم المسلمين في الأرواح
والممتلكات والحريات.
ثم يذكر صاحب الرسالة زعيم القاعددة بأنه كان يستهدف
فيما مضى (رأس الأفعى) أي أمريكا، ولكن جرى تحوّل في استراتيجية
التنظيم بحيث انتقل التركيز من الرأس الى الذيل (هو خطأ
استراتيجي فادح) حسب قوله. ولفت ايضاً الى (عدم الدقة
في تقدير مواقف العلماء وعموم الناس من أحداث الداخل)،
ونفى وجود عالم واحد يؤيد العمل المسلح في الداخل، بل
قال: (إن كثيراً من قدامى المجاهدين وعموم الناس تقف ضد
هذه الاعمال).
وزاد كاتب الرسالة في تحريك الجانب الشعوري لدى بن
لادن، حين اعتبر ان كل ما يقوم به يتعارض مع توجهات الناس
وحتى قدامى المجاهدين، وقال:
(إن كثيراً من صور العمل التي
يقوم بها الشباب، وبعض تصريحاتكم ـ كما في الدعوة الى
استهداف النفط ـ مما يستثير الناس ضدكم، وبخاصة العلماء
والمفكرين، ولولا أن نقدكم قد يفهم منه إعانة عدوكم الصليبي
لرأيتم مواقف متشددة ضدكم، وبشكل علني).
ولم يترك كاتب الرسالة الباب مفتوحاً، بل حاول أن يغلقه
بأن اقترح عليه حلاً بمبرراته الواضحة يتلخص في التالي:
(أن تعودوا إلى الأصل الذي انطلقتم
منه، وهو التركيز على رأس الأفعى، واستهداف العدو الأكبر
للمسلمين وعدم تشتيت الجهود والقوى خارج الهدف مع ضبط
الإستهداف بحيث لا يقع في البلاد الاسلامية المستقرة مما
يترتب عليه الآثار السلبية... فإن الانظمة لا تتضرر باستهداف
الأمريكان في بلادها بل هي شهادة تزكية بأنها مع أمريكا
وأنها تعمل ضد أعداء أمريكا، وأنها ـ أي الأنظمة ـ مستهدفة
كما أن أمريكا مستهدفة).
وتوقف عند ايران التي قال بأنها تحولت من دولة راعية
للإرهاب الى دولة تكافح الإرهاب (والفقه السياسي الذي
اتسع للتعامل وتقاطع المصالح مع الصفويين الذي يحملون
مشروعاً فارسياً خطيراً على حاضر الأمة الإسلامية ومستقبلها،
لن يضيق عن تحييد أو تأجيل أو تهميش الأنظمة العميلة التي
لا تملك من أمرها شيئاً..).
وعلق صاحب الرسالة على تصريح لابن لادن حول النفط (لأن
المستفيد منه هم الأعداء وعملاؤهم) فقال بأنه تصريح غير
موافق وليس مقبولاً، لأن استهداف النفط يؤدي الى مفاسد
كبيرة: انه ملك للأمة وليس لفئة معينة ولا حتى للنظام
الحاكم (واستفادة الأعداء منه واستحواذ النظام على كثير
من الدخل ليس مبرراً ولا دافعاً لقبول الناس ورضاهم باستهدافه).
وأن الاستهداف يسوّغ التدخل الأجنبي وفرض الهيمنة على
مصادر الطاقة (ثم يتعدى ذلك الى الجوانب الفكرية والثقافية
والأقليات والطوائف)، في إشارة على ما يبدو الى وجود الشيعة
في مناطق النفط.
وعاد في الاخير وشدّد على ضرور التركيز على ضرب المصالح
الأميركية (رأس الأفعى) ولكن خارج البلاد الاسلامية.
بدا واضحاً أن الرسالة تركت أثراً عميقاً في بن لادن،
وانعكس ذلك في رسائله اللاحقة التي كان يشدّد فيها على
ذات النقاط الواردة في الرسالة السابقة. ففي الرسالة التاسعة
عشرة ـ وهي رسالة مطولة وضع فيها بن لادن تصوراته للعمل
العسكري والإعلامي في المرحلة القادمة ـ نجد أثراً لتلك
الرسالة: يقول:
(بعد أن اتسعت الحرب وانتشر المجاهدون
في أقاليم عديدة إنهمك بعض الاخوة في القتال ضد الأعداء
المحليين وازدادت الاخطاء التي تقع نتيجة خلل في حسابات
الاخوة المخططين للعمليات أو نتيجة لأمر يجد قبل التنفيذ،
إضافة الى توسع البعض في مسألة التترس مما أدى الى سقوط
بعض القتلى من المسلمين..).
ولفت الى ضرور اعادة البحث في مسألة التترس حتى (لا
يقع ضحايا من المسلمين إلا في ضرورة قصوى).
وذكر من الأخطاء أيضاً: (قتل بعض من لا يفقه عامة المسلمين
إباحة قتلهم.. فهذه المسائل أدّت الى خسارة المجاهدين
لجزء لا يستهان به من تعاطف المسلمين معهم..). وقال: (أن
قيامنا ببعض العمليات التي لا تتوخى الحذر فيما يؤثر على
تعاطف جماهير الأمة مع المجاهدين سيؤدّي الى كسبنا لبعض
المعارك وخسارتنا للحرب في نهاية المطاف).
ومن الأخطاء استهداف من وصفهم (بعض المرتدين) في المساجد
أو قريباً منها، مثل محاولة اغتيال رشيد دستم في مصلى
العقيد، وعملية اغتيال الجنرال محمد يوسف في أحد المساجد
بباكستان، ويعلق قائلاً: (ومن المؤلم جداً أن يقع الإنسان
في الخطأ أكثر من مرة).
ويبدو أنه التزم حرفياً بمشورة رفيق دربه من الرياض،
وقال بضرورة تركيز العمليات داخل امريكا، وكذلك على الجهاد
في الجبهات المفتوحة وما يفيض منه يتم صرفه في استهداف
المصالح الاميركية في غير الدول الاسلامية بالدرجة الاولى
مثل كوريا الجنوبية: (ونتجنب القيام بعمليات في الدول
الاسلامية باستثناء الدول التي وقعت تحت الغزو والاحتلال
المباشر).
وذكر بن لادن موضوع التترس مرة أخرى، ونبّه إلى ضرورة
تجنّب القيام بعمليات في الدول الاسلامية من أجل تجنّب
سقوط ضحايا من المسلمين، مع أن هناك توسّعاً في مسألة
التترس (مما يحملنا المسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى
أولاً ثم يحمّلنا في الواقع العملي خسارة واضرار بالدعوة
الجهادية). وكذلك (الضررالكبير الذي يلحق بالأخوة في القطر
الذي يبدأ فيه العمل تبعاً لاستنفار الدولة على الشباب
المنخرط في العامل الجهادي). يقول: (وعندما يصل الكفر
العالمي لدرجة من الاستنزاف تؤدي لانهياره عندها ندخل
في صراع مع الحكام بعد أن يكونوا قد ضعفوا تبعاً لضعفه
ونجد إخواننا هناك بكامل قوتهم وطاقتهم).
وفي العمل الاعلامي، يلفت بن لادن الى أحد التوجيهات
منها: (التركيز على القواعد والآداب الشرعية كحرمة دماء
المسلمين وأعراضهم وأهمية الالتزام بحديث رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش
ولا البذيّ).
وثمة لفتة هامة في رسالة بن لادن أنه سعى الى مركزة
القضية الفلسطينية من أجل كسب تعاطف الامة، وكما يبدو
فإنها كانت غائبة في عمليات عديدة وقعت من قبل عناصر القاعدة
وأضرّت بالتنظيم، منها عملية عمر الفاروق النيجيري في
ديسمبر 2009، والتي اعتبرها (رد فعل على القصف الأمريكي
للمحفد فربط مثل هذه العملية الكبيرة بغير قضية فلسطين..)،
وقال بأن هذه العملية لفتت (إنتباه الناس بأن العدو الاول
والأكبر للمجاهدين في جزيرة العرب هو حكام اليمن وبلاد
الحرمين). وكذلك عملية همام البلوي، الطبيب الاردني الذي
تحول الى عميل مزدوج وقام بقتل سبعة جنود أميركيين في
أفغانستان ثم قتل في 30 ديسمبر 2009، حيث قيل بأنها (انتقام
لمقتل محسود) (فكان ينبغي أن يتم الحديث عن فلسطين أولاً).
الرسائل السبع عشرة حوت جانباً هاماً غير مرئي في حياة
بن لادن، ولكن ألمحنا إليه في أعداد سابقة حين بدا التباين
بين التكوين الفكري والذهني والنفسي لدى بن لادن والجيل
الجديد من المقاتلين الذين نشأوا بعد حوادث الحادي عشر
من سبتمر، أو ربما بعد الاحتلال الأميركي للعراق وتشربوا
العقيدة السلفية في بعدها الطائفي، كما قرروا الإنخراط
في القتال الداخلي في أكثر من قطر عربي ما أضرّ بالمشروع
الكوني للقاعدة في محاربة (رأس الأفعى) أي الولايات المتحدة،
على حد توصيفه.
|