السعودية تفتح أبواب المعركة الطائفية على مصراعيها
محمد قستي
الصراع السنّي الشيعي أصبح طاغياً على غيره من القضايا،
بما فيها قضية التغيير الديمقراطي، والصراع مع اسرائيل،
والتنمية الوطنية. الصراع كان الى وقت قريب مفتوحاً تكتيكياً
لمواجهة ما أُسمي بالتمدد الإيراني، ولمنع تأثيرات الربيع
العربي من الوصول الى السعودية نفسها التي تعتبر اليوم
قلعة تصدير الحروب الطائفية. الأمر توسّع أخيراً، داخل
المملكة السعودية وخارجها. في الداخل هناك دعوات من قبل
أتباع النظام السعودي لاستئصال المخالف المذهبي قتلاً
وطرداً، رغم أن الوهابيين لا يمثلون سوى أقليّة محصورة
في نجد. وفي الخارج تبدو المعركة واضحة المعالم وكأن لا
علاقة لها بالديمقراطية بقدر ما لها بتصفيات حسابات سياسية
أُلبست لبوساً طائفياً، من أجل أن تستعيد الرياض بعضاً
من مكانتها الضائعة ولتعوض شيئاً من خسائرها الكثيرة خلال
العقدين الماضيين.
الوضع على الأرض اليوم يبدو كالتالي:
هناك عدّة بؤر سياسية راكمت الخلاف السني الشيعي وفجّرت
الصراع الطائفي، وهي في أهميتها حسب الترتيب التالي:
أ/ سوريا: حيث الصراع يأخذ
منحى طائفياً/ سياسياً أكثر من كونه صراع من أجل الحرية
والديمقراطية. وكان لاصطفاف ايران وحزب الله ـ حسب المصلحة
السياسية ـ مع نظام الأسد دور في تحويل وجهة الصراع السياسي
الثوري الى صراع طائفي رديف.
ب/ العراق: حيث نظر بعض السنّة
الى سقوط نظام حزب البعث وصدام حسين على أنه نجاح للشيعة
وداعميهم الغربيين. إسقاط الحكم السنّي في العراق، ولّد
محفّزات لاستعادة العاصمة الإسلامية الثانية في دمشق،
كنوع من التعويض. وحسب الملك عبدالله، فإنه قال: (لا يمكن
أن نسمح بأن تكون عاصمة العباسيين وعاصمة الأمويين بيد
الشيعة). هذا الكلام نقله نصاً سعد الحريري في زيارة سابقة
الى بغداد الى رئيس الوزراء نوري المالكي.
ج/ البحرين: فثورة الأكثرية
الشيعية هناك، نُظر اليها على أنها اعتداء شيعي على ممتلكات
سنيّة. انه اختراق لدوائر مصالح بقيت مغلقة لقرون على
يد فئة أقليّة. لذا لم ينظر معظم السنّة الى الثورة البحرينية
إلا على انها ثورة طائفية محرّكة من الخارج، ورفضوا ربطها
بالربيع العربي، بل بمؤامرة تستهدف السنّة.
د/ لبنان: حيث صراع المذاهب
والطوائف. صعود نجم حزب الله، سبّب مشكلة إن من جهة النموذج،
أو من جهة تخفيض مكانة سنّة لبنان في النظام السياسي القائم.
مازاد المشكلة هو أحداث أيار 2007 حين هاجم حزب الله بيروت،
حيث جرى تضخيم المشكلة، واعتبر الأمر إهانة للسنّة، جميع
السنّة.
هـ/ اليمن: فمع أن الزيدية
حكموا اليمن نحو 12 قرناً متواصلاً، ولم ينته حكم الإمامة
الزيدية إلا بعد ثورة/ انقلاب عام 1962.. إلا أن ظهور
العامل الزيدي من جديد مطلع القرن الواحد والعشرين، عبر
الحوثيين في صعدة، دقّ جرس الإنذار، بأن هناك من يريد
أن يحيي حكم الإمامة، ومازاد الأمر سوءً أنه حدث بالفعل
ما يمكن تسميته بالإحيائية او النهوض الزيدي على المستوى
الثقافي والفقهي. هذا الأمر، رأته السعودية مشكلة، لأنها
ـ وفي كل مكان في العالم العربي والإسلامي ـ ترى أن نفوذها
السياسي لا يحفظه بشكل مستدام إلا نفوذ مذهبي/ وهابي مواز
للنفوذ السياسي. والسعودية تخشى من أية تجربة اسلامية
تنافس مرجعيتها شيعية جعفرية أو زيدية شيعية أو حتى سنيّة
طالبانية أو إخوانية. الأهم ان السعودية وجدت أن توسع
نفوذ الحوثيين في شمال اليمن، يعني تطويق نفوذها السياسي
في الداخل اليمني عامّة، حيث الزيدية منتشرون في كل اليمن.
كما أنها رأت في نهضتهم تطويقاً (شيعياً) سياسيا للسعودية
من الجنوب. بمعنى آخر: إن النهوض الثقافي والسياسي الزيدي
المتمثل في الحوثيين، اعتبر جزءً من الصراع، وتفجيراً
له.
و/ الشيعة في السعودية: فطالما
اعتبر تمردهم على سياسة التمييز الطائفي عملاً عدوانياً
على الحكم الوهابي. وصار من المعتاد اتهامهم بأنهم يحركون
من الخارج الإيراني، وأن أجندتهم غير وطنية، وأن الغرض
هو إضعاف نموذج الحكم السنّي الإسلامي الوحيد والصحيح
في العالم!
من هنا نلاحظ أن الأزمة الطائفية منحصرة فيما يسمى
بالمشرق العربي، وليست في الجزء الأفريقي العربي. كل بؤر
التفجر هي في المشرق، ومعظم الأدوات الفاعلة في الصراع
الطائفي موجودة في المشرق العربي لا مغربه (من مصر الى
طنجة). العرب في افريقيا ليست من أولوياتهم الصراع المذهبي
الطائفي، وإن كانوا قد تأثروا بشكل عام بالمعركة على نحو
قليل. لا ننس هنا أن هذا القليل الذي نتحدث عنه، هو في
معظمه مرتبط بالفكر الوهابي، وبالتالي فهو يستورد صراعاً
لا توجد بيئة له لدى الأفريقيين العرب. ربما يكون أحد
أهم الأسباب هو أنه لا يوجد كثافة شيعية في تلك الدول،
وبالتالي ينتفي الصراع من أساسه لعدم وجود طرف مقابل.
لكن الصراع الطائفي عابر للحدود، اعتماداً على الأيديولوجية
الوهابية، فمن هو وهابي يعيش في الغالب هذا الصراع الطائفي،
ولديه الحماسة للإنتقال الى أي مكان آخر حيث يوجد الصراع
للمشاركة فيه.
في البحرين لازال الإنشقاق الشيعي السنّي حادّاً، لم
يشهد له تاريخ البلد مثيلاً من قبل. حتى ما حدث عام 1923
يتضاءل أمام ما يجري اليوم. العائلة الخليفية الحاكمة
وجدت أن حكمها يتبدد امام احتجاج الأكثرية، فعمدت الى
خطاب طائفي غير مسبوق عبر الوسائل الاعلامية الرسمية،
وعبر أساليب طائفية واضحة كشف عنها جميعاً تقرير بسيوني.
التفت الأقلية حول آل خليفة، وانقذت نظام الحكم؛ واستورد
السلفيون البحرينيون وسائل الحكم السعودي وتكتيكاته، فحولوا
المعركة من دعوة اصلاح وتغيير لنظام الحكم لصالح الجميع
سنة وشيعة. الى صراع شعبوي شيعي، مقابل السنّة كجمهور
وليس حكم السنّة. التزاوج بين الطائفتين توقف. الهجوم
على ممتلكات الآخر لازالت مستمرة. الخطاب الطائفي في الصحافة
وحتى الإعلام الرسمي لازال موجوداً وإن خفّ. تمييز المناطق
والممتلكات ومقاطعة الآخر تجارياً وغير لازال مستمراً.
لقد أُنقذ النظام الأقلوي الخليفي نفسه باستخدام الخطاب
الطائفي، ولكن الثمن كان عالياً جداً، ويحتاج الى سنوات
طويلة لترقيعه، بمعنى أنه جاء على حساب تمزيق النسيج الإجتماعي
طائفياً.
في داخل اليمن لا يوجد صراع شيعي/ زيدي ـ سني/ شافعي
بمعنى الكلمة. لم يكن ذلك موجوداً في التاريخ، ولا يوجد
في الحاضر. الموجود فعلاً هو صراع وهابي ـ زيدي. حيث الجماعات
الوهابية تأتمر بالسعودية (وقبلها نظام علي صالح) لوضع
كوابح امام تمدد الحوثيين. لهذا نسمع بين يوم وآخر مناوشات
بالسلاح أو حتى تفجيرات كما في شهر يونيو الماضي. لكن
اليمن يبدو أكثر وعياً من الإنخراط في الصراع الطائفي.
وإذا ما حدث فسيكون موجهاً ضد الحوثيين، من قبل عناصر
وهابية وقاعدية أو تتبع لعناصر من حزب الإصلاح ممن لديهم
نزعة طائفية مستوردة من السعودية.
ذات الأمر ينطبق على سوريا. فالنظام وإن كان في أصله
قائم على طائفة تسيطر على السياسة العامة، إلا أنه نظام
لا علاقة له بالممارسة الدينية، هو نظام نصف علماني. كان
هناك خطأ في تطييف الثورة السورية. الأكثرية لا تحتاج
الى خطاب طائفي لتحشد قواها. الأقليات تفعل ذلك عادة.
لكن دول الخليج خاصة السعودية ومشايخ سوريا الوهابيين
المقيمين فيها (عدنان عرور، المنجد وغيرهما) حولوا الأمر
صراعاً مع العلويين، وفتحوا الملف على الشيعة عامة، والغرض
ـ حسب تصريحاتهم ـ تغيير المعادلة في العراق ولبنان وحتى
إيران.
لماذا انفجر الصراع الطائفي؟
استخدم الصراع الطائفي ابتداءً في بداية انتصار الثورة
الإيرانية، كمعوق لانتشارها وتأخير تأثيرها خاصة على الإسلاميين
السنّة. الثورات لا تحتاج الى تصدير، بل هي تخلق تموجات
تلقائية كما تفعل الثورات العربية اليوم. اي أن الصراع
الطائفي الذي أججته السعودية استخدم كوسيلة دفاعية لحماية
الذات، وكانت هناك خشية من قيام نموذج ديني يضع النموذج
السعودي في مرتبة أدنى. لهذا سارعت السعودية الى مواجهة
المحتل الروسي لأفغانستان، وكان من أهم الأسباب، محاولة
ايجاد نظام سني ديني ثوري مقابل، ولكنه فشل.
في مرحلة لاحقة استخدم الخطاب الطائفي (كل الخطاب الطائفي
المحرض ضد الشيعة منبعه الأساس السعودية) لمنع تمدد النفوذ
الإيراني، وإيجاد اصطفاف مع الحكومات السنية. ثم استخدم
الخطاب الطائفي وتصاعد، لمنع تأثير الثورات السنيّة العربية
(الربيع العربي) من التمدد الى داخل السعودية بالذات.
السعودية أرادت أيضاً من الخطاب الطائفي استعادة بعض
نفوذها في المحيط الإقليمي الذي خسرته، كما هو الحال إن
تغير الوضع في سوريا، ومن ثم العراق. لاحظ ان السعودية
لم تقبل نظاماً توافقياً في العراق، والى اليوم لازالت
نظرتها اليه وتعاملها معه سيئاً، وهي تعتقد أن بإمكانها
إعادة عقارب الساعة بصورة أو بأخرى. استفادت السعودية
من الوضع العراقي بان أرسلت مقاتلي قاعدتها الداخليين
للخارج العراقي (افتى الوهابيون بأن الجهاد ليس في المملكة
وانما في العراق). استخدام القاعدة كان يستهدف التخريب
على الآخر، بأكثر مما يستهدف صناعة نموذج ديمقراطي أو
حكم سنّي معتدل (يتكرر الفعل اليوم في سوريا). عموماً
لم تكن العلاقة السعودية مع العراق منذ تأسيسه عام 1921
حتى اليوم حسنة، لا في العهد الملكي، ولا في العهد الجمهوري،
ولا في العهد الصدامي، ولا في العهد الشيعي!
حتى بعض الأنظمة العربية ممن لا تعاني من أزمة صراع
سني شيعي أرادت الدخول على الخط لتقوية شرعيتها ولحرف
الأنظار الشعبية عنها. تصريحات ملك الأردن مثالاً. وتصريحات
حسني مبارك مثال آخر. ولكن جرى تضخيم الخطر الشيعي لصناعة
عدو جديد تتوجه اليه الأنظار والإهتمامات.
ما هو المتوقع من نتائج الصراع الطائفي؟
في قراءة لأحد الباحثين الغربيين، حول الصراع الطائفي
في المشرق العربي، وجد أن بعض السنّة، خاصة السلفيين منهم
يبحثون عن إعادة الإعتبار لأنفسهم، وتسليط الضوء على ذواتهم،
بعد عقود سلطت فيها الأنظار على نماذج شيعية في الحكم
أو في المقاومة. السلفيون يتوقون لإيجاد نموذج حكم منافس،
ونموذج ثورة منافسة، ونموذج مقاومة ينافس به طائفياً ويعيد
الإعتبار لهم، إذ كل ما هو متوفر لديهم الان هو نظام حكم
سعودي فاشل ومرتبط بالغرب، ومقاومة قاعدية أثبتت أنها
عمياء في مواجهة خصومها.
ربما تهدأ ثورة السلفيين حين يستعيدون التوازن النفسي
إن سقط نظام الأسد، وإن لم يعن ذلك قيام حكم ديمقراطي،
أو حكم نموذجي، وبغض النظر عن كلفته الكبيرة، فالوهابية
وآل سعود لا يهمهم الديمقراطية بقدر ما يهمهم نفوذهم المذهبي
والسياسي. هناك من يتوقع بأن دماء أكثر ستسفك ليس على
يد النظام الأمني السوري، بل على يد القاعدة نفسها والتي
تتخفى الآن وراء الجيش الحر، وهناك من يخشى تكرار تجربة
القاعدة مع سنّة العراق ولكن في سوريا. لسنا بعيدين عن
تصدر القاعدة والسلفيين السعوديين المشهد السوري. هناك
الآلاف من المقاتلين الوهابيين تدفقوا على سوريا، وهدفهم
ـ كما في تصريحات عديدة لمشايخ ومقاتلين ـ ليس التوقف
عند سقوط نظام الأسد، بل ثم الزحف على لبنان والمواصلة
الى العراق (هذا ما يفسر مخاوف الحكومة العراقية ومواقفها
من الأزمة السورية).
على الأرجح سينتقل طوفان المعركة الطائفية الى العراق
ولبنان ودول الخليج (يستثنى اليمن من ذلك). وقد تكون هناك
اضطرابات وحروب، تؤثر على الحياة العامة، وعلى إمدادات
النفط، اللهم إلا إذا كان هناك وعي مسبق بالنتائج واتخذت
الخطوات المحبطة له.
السعودية وقطر والإمارات تريد مواصلة الخطاب الطائفي
والتحريض والتمويل ليغير المعادلة في العراق ولبنان ربما،
ما يشعل حروباً عديدة في وقت واحد. السعودية تعمل على
إشغال شعبها ولأطول فترة من الزمن بحروب خارجية تلهيهم
عن المطالبة بالإصلاح السياسي. المعركة الطائفية هي الكنز
بالنسبة للسعودية، وقد تشتعل الأرض في السعودية نفسها،
إذ لا يمكن التحكم في مواقع الصراع الطائفي، وحينها قد
تشتعل آبار النفط في المنطقة الشرقية، لا قدر الله.
تبدو المنطقة وكأنها قد اختطفت طائفياً بيد الوهابية
وآل سعود. لقد غاب العقل في حمّى الصراع السياسي، والإثارة
الطائفية. المثقفون في أكثرهم غائبون أو منخرطون في معركة
الأنظمة، وهم جزء من حطب المعركة الطائفية التي قد لا
تبقي ولا تذر أحداً بدون أن يدفع فاتورة خسائر ضخمة.
|