الدولة المجنونة
يرى هيجل بأن الدولة تمثل حالة عقلانية متقدّمة، وهي
تمثل عصارة العقل البشري لحظة تكامله، ولذلك فإن تفويض
الدولة بمهمات حفظ المصالح العامة، ودرء الفساد والعدوان،
وتنظيم شؤون الأفراد والجماعات جاء على قاعدة أن الحكومة
باعتبارها الجهاز الإداري للدولة يديرها أناس يفترض توافرهم
على قدرات عقلية متميّزة، وأن هذا الجهاز يعتبر خلاصة
وحاصل جمع العقول الفردية التي تخوّل فرداً أو مجموعة
أفراد لأن يحوزوا على سلطة هي حق للعامة ولكنها تنازلت
طوعياً عنها من أجل ادارة المصالح العمومية وتنظيمها..
وليتخيل المرء لو أن دولة تدار من قبل أقل الناس دراية
بالأمور، وأبطأهم إدراكاً بالمصالح العمومية، كيف ستكون
حال هذه الدولة، بل كيف يمكن أن تستقيم أحوال المجتمع
وقد أصبح مرهوناً لإرادة من لا يحسن تقدير العواقب، ولا
يتقن فن إدارة العامة..بل والأخطر من ذلك كله، كيف يمكن
لمجنون أن يدير عقلاء، فيضع سياسات يعلم من له ذرة من
عقل أنها تفضي الى خراب الدولة وتصدّعها، ويختار أشخاصاً
لإدارة أجهزة يدرك من له بصيرة بأنهم ليسوا أكفياء لها،
وأن بقاءهم سوف يؤول الى وقوع كوارث على مصالح الناس..
في بعض الدول هناك مجانين ولكن ما يمنع من وقوع كوارث
هو وجود عقلاء يلجمون المجانين من أن يضطلعوا بأدوار قاتلة
وكارثية على شؤون العامة. هناك من يرخي الحبل للمجانين
كيما يمارسون جنونهم في بعض الحالات، دون أن يصل الى حد
تهديد مصير الدولة والمجتمع..ولكن ما بالك في فئة تحكم
بلداً فتمارس سياسات مجنونة، وأن العقلاء فيها مكفوفو
الأيدي أو يعتمدون قاعدة (العين بصيرة واليد قصيرة)، إذ
لاطاقة لهم على تعطيل تداعيات الجنون، بعد أن كثروا فصاروا
هم الأقوى في الدولة..
في السياسة، كما في كل مجالات الحياة، ثمة حسابات رياضية
ومنطقية تجعل المرء يفكّر ملياً في العواقب النهائية لكل
أمر يقدم عليه، فتحكم النتائج على المقدّمات، فحين ترى
سيارة تخرج عن الطريق المعبّد وتنزلق الى منحدر سحيق وبسرعة
جنونية تدرك بالمنطق أن ثمة حادثاً مروعاً يوشك أن يقع..
هناك اليوم مستوى للجنون غير مسبوق في منطقة الخليج
بخاصة والمشرق العربي بعامة، ونستثني المغرب العربي لأن
الثورات التي وقعت هناك دخلت مرحلة الانتقال الى النظام
الديمقراطي بخطوات متوازنة رغم العقبات التي لا تزال في
طريق هذه الدول، فيما لا تزال دول المشرق العربي تئّن
من الديكتاتوريات الحاكمة التي أخذت أشكالاً عدّة كيما
تحافظ على وجودها وبقائها على رأس السلطة، فالثورة الشعبية
في اليمن والتي تمثل واحدة من أرقى الثورات الشعبيىة في
تاريخ الثورات العالمية لأسباب عديدة ومنها الحفاظ على
سلمية الثورة رغم محاولات استدراجها نحو العنف، ورغم انتشار
ما يقرب من ثلاثين مليون قطعة سلاح لدى الشعب اليمني..وتأتي
ثورة البحرين التي ظلمت من القريب والبعيد بإلصاق تهمة
الطائفية اليها، رغم تمسك قادتها أولاً بطابعها السلمي
وثانياً بشعاراتها الوطنية وعدم الإنجرار نحو العنف والشعارات
الفئوية والطائفية، فيما دخلت الثورة السورية مرحلة بالغة
التعقيد والخطورة بفعل العامل الأجنبي سواء لصالح النظام
أو المعارضة، والاقتراب من نقطة الحرب الأهلية التي بدأت
تشهد بعض المناطق فصولاً منها..
الجنون الذي أصاب النظام السعودي هو ما ينعكس الآن
في إصراره على تشجيع النظام البحريني لاستعمال القمع بكل
قساوة ضد المتظاهرين بصورة سلميّة ورفض حتى مجرد الحوار
من أجل التوصل الى حل نهائي وحاسم يرضي جميع الأطراف،
وفي إصراره على اعتماد الخيار العسكري كحل وحيد في سوريا
ورفض خطة عنان التي بشّر بفشلها بعد يوم من الإعلان عنها،
فيما يواصل وبصورة علنية ومفتوحة التمويل والتسليح رغم
ما يؤدي ذلك الى مزيد من سقوط القتلى بأعداد كبيرة..
جنون النظام انعكس محلياً أيضاً، بحيث راح يتصرف على
أن لا قرارات رادعة ولا عقوبات يمكن أن تمنعه من تنفيذ
ما يشاء من سياسات ومخطّطات. فمهما بلغت جريمة الشيخ نمر
النمر، لا يمكن تخيّل كيف أن نظاماً عاقلاً يقوم باطلاق
الرصاص الحي على شخص أعزل يقود سيارته بمفرده ولم يكن
بصحبة أحد، على عكس ما زعم بيان وزارة الداخلية، ثم تواصل
الأخيرة جنونها بأن يقوم رجالها بحقن النمر بإبرة مخدرة
ويقوم أحدهم بتصويره وهو مخفور ومخدّر في سيارة تابعة
للأمن، وليس في سيارة إسعاف حيث كان مصاباً في رجله، في
عملية تشفّي وانتقام واضح بما ينفي عن هؤلاء صفة رجال
أمن..في قانون الحروب يعتبر عرض صور للجنود المجروحين
انتهاكاُ صارخاً لحقوق الانسان ومخالفة لقوانين شرعة الامم
المتحدة، فما بالك في حال شخص يعتبر رمزاً دينياً الأمر
الذي يعتبر إهانة ليس له فحسب وللطائفة التي ينتمي اليها،
خصوصاً وأن الكلام الذي صدر من رجال أمن وهو يجوبون شوارع
مدينة العوامية ويعلّقون على الحادثة توحي بلغة الانتقام..
لم يتوقف جنون النظام عند هذا الحد، فقد بادر لإطلاق
الرصاص الحي على مظاهرة شعبية غاضبة خرجت في محافظة القطيف
في رد فعل على حادث اطلاق النار على النمر واعتقاله، ما
تسبب في مقتل إثنين من المتظاهرين، وكان أحدهم قد كتب
مقالاً بعنوان (لذلك تظاهروا..)، وكان يشتمل على نقاط
منطقية تتعلق بالصعوبات الاقتصادية والسياسية التي تواجه
الشباب..
الداخلية على ما يبدو تخوض امتحان الجدارة عبر مرحلة
جنون مفتوحة تتمثل في اطلاق الرصاص، وفبركة قصص عن مؤامرات
واكتشاف خلايا خارج المجال الوهابي، في محاولة لخلط الأوراق
وتمييع القضية الوطنية المتمثلة في الإصلاح السياسي الشامل..
|