غياب الرؤية يقود الى نهاية الدولة
محمد قستي
سمّه ما شئت: غياب البصيرة، غياب المشروع، غياب الرؤية،
غياب المنهج، او غير ذلك.
تلك هي أزمة النظام السعودي الحقيقية، ومنها تأتي أزمة
(العجز) في كل أجهزة الدولة، من رأسها حتى قدمها، بما
في ذلك أجهزة الأمن التي ينظر اليها وكأنها (الجدار الواقي)
للنظام.
الدولة السعودية تسير على غير هدى.. هذه مقولة ليست
جديدة بالقطع، وقد كان يتردد صداها منذ عقدين من الزمان،
أي منذ عهد الملك فهد نفسه، وكان يقال دائماً عن الدولة
استسخافاً واستهجاناً وسخرية: (اتركوها فإنها مأمورة)!
لا أحد يعرف الى أين تتجه (ناقة) ال سعود، ولا هم أنفسهم
يدرون كيف تسير هذه الآلة الضخمة، التي نسميها آلة الدولة
(الأجهزة الحكومية من وزارات ومؤسسات مستقلة أو غير مستقلة)؛
كما لا يعرفون أي غرض هي تؤديه فعلاً اليوم، رغم وجود
الخطط الخمسية التي لا يطيق أكثر المواطنين سماعها، والتي
بُديء باستخدامها منذ بداية السبعينيات الميلادية الماضية.
لا أحد يلاحق تلك الخطط التي على الورق، وماذا طبّق منها،
بل لا أحد يهتم بشطبها بذاتها، وسرقة مخصصاتها، حيث عشرات
الألوف من المشاريع التي لم ترَ النور.
غياب قائد المسيرة، الماسك بزمام (الناقة) لا يغيّر
من الحالة شيئاً، سواء كان في البلاد أو خارجها، حيّاً
أو خلفه آخر. لا شيء يتغير إن غاب وزير أو أمير منطقة
لأشهر خارج الدولة، ما يؤكد أن الموجود حالياً مجرد آلة
تشتغل ضمن حدود البيروقراطية، لتوفّي الحدود الدنيا من
مصالح المواطنين لا أكثر. لا خطط تتابع، ولا مسؤولين يلاحقون
العمل ويقفون على رأسه، ولا محاسبة، ولا جمهور يعترض،
ولا صحافة تنشر وتلاحق وتسأل، ولا قضاء صالح له حضوره.
نحن بصدد دولة تسير بغير هدى من الشرع أو من العقل.
وهذا يعطينا سبباً واضحاً لماذا تراجعت السعودية خلال
العقود الثلاثة الماضية على الأقل، حتى سبقتها دول خليجية
وعربية أخرى سواء في مضمار المشاريع أو التنمية أو تلبية
حاجات المواطنين. تلك الدول كان ينظر اليها باستعلاء وكبرياء
زائف، ولكنها اليوم صارت كما النموذج البديل عن دولة فاشلة.
الخلل الذي نراه اليوم في الدولة السعودية، زرعت بذوره
فيما نظن بعد سنوات قلائل من وفاة الملك فيصل، وجاء وقت
الحصاد اليوم، في ظل ملك هو بكل المقاييس جاهل، وفي غياب
أية عقول متنورة كان يُشار اليها بالبنان يوماً بأنها
تمثل أعمدة الدولة الحقيقية، وكلّهم كانوا من خارج العائلة
المالكة!
غياب البصيرة، والرؤية، والمشروع، واضح. لا نرى مبادرة
ولا مشروعاً ولا فلسفة حكم وادارة من النظام للتغلّب على
مشاكله التي وقع فيها، فكيف به يفكر للمستقبل؟ هو أصلاً
لا يؤمن بالإستراتيجيا بل بالتكتيك وردود الأفعال. ليس
لديه مركز دراسات واحد يعينه لا في الشأن الداخلي ولا
الخارجي.
لنأخذ أية مشكلة، وليقل النظام لنا كيف سيحلّها، وما
هي المدّة الزمنية التي تستغرقه لذلك: قضية الفقر المدقع؛
قضية البطالة؛ قضية معتقلي الرأي؛ موضوع القضاء وفساده
وتخلّفه؛ التعليم العالي وتخلّفه؛ الإصلاح الإداري؛ الإصلاح
السياسي؛ التطرّف الديني؛ موضوع المرأة ومشكلاتها ودورها؛
التمييز بين المناطق والمذاهب والقبائل؛ الانفلات الأمني،
الخ.
وعلى الصعيد الخارجي (السياسة الخارجية) هناك عشرات
من الأسئلة والقضايا المشابهة ولكنها ليست بذلك الوضوح
لدى المواطن العادي: ما هي الأسباب التي أدّت الى أن تفقد
السعودية مكانتها في المنطقة؟ ماذا تريد أن تحقق السعودية
من سياستها الخارجية؟ كيف تواجه السعودية التحديات الإقليمية
(ايران واسرائيل تحديداً)؟ أين موقع السعودية من الثورات
العربية وكيف تتعامل معها؟ ماذا عن سياسة المساعدات الخارجية:
لماذا وكيف؟ الخ.
حين تغيب البصيرة والرؤية والمشروع، تضيع وتغيب مقاييس
التقدم والنجاح التي على أساسها يتم تقييم الأمور. بدون
ذلك كيف تشحذ النفوس، وتوجه الموارد، وتُبنى الخبرات،
وتوضع برامج التعليم الى غير ذلك.
اليوم لا تجد شيئاً لدى النظام يسمى حلاً او مشروعاً
أو مبادرة.
قد يعتمد تأجيل حل المشكلات وهي تتراكم منذ مدة طويلة،
ولا يسعه حلّها كلما تقدّم الزمن.
وقد يتعاطى مع المشكلات بالطريقة التقليدية القديمة:
فورة حماس تنتهي بعد أيام، وتعود حليمة لعادتها القديمة.
أو يعتمد لغة الذراع والعضلة الأمنية بدل العقل الذي وضع
منذ مدّة على الرفّ.
لم يحل مشكلة التطرف الوهابي ففرّخ له القاعدة، ولم
يصلح التعليم الديني بل رشى المشايخ. النتيجة القاعدة
موجودة وفكر التطرف موجود، والحل السياسي مؤجل. اختطف
الملحق السعودي في عدن، واتفق النظام مع اطياف القاعدة
على اطلاق سراح بعض النساء القاعديات، وفعل ذلك فعلاً
في رمضان وقبله بقليل، ولكن القاعدة غيّرت اللعبة ولم
تطلق سراح الخالدي!
في المنطقة الشرقية أزمة التمييز الطائفي والسياسي
وحلّها المعتاد رصاص واعتقالات حتى وصلت المشكلة الى تهديد
لإمدادات النفط.
التكنولوجيا التي اعتبرها آل سعود مفيدة لهم، مع حجب
عشرات الألوف من المواقع، جاءتهم بشرر كالقصر من تويتر
والفيس بوك واليوتيوب. لا يستطيعون إغلاقها، ولا يستطيعون
إغلاق فم المواطنين وتكسير أقلامهم. خرجوا من مشكلة الرقابة
على الصحافة الهزيلة الى رقابة لا يستطيع أن يقوم بها
إلا الخالق نفسه سبحانه وتعالى!
لم يريدوا الإصلاح السياسي وانشغلوا باعتقال الإصلاحيين
وأصحاب الرأي الآخر، ومعالجة الإنشقاقات المتأتية عن الإنسداد
السياسي، فتضخم ملف المعتقلين ولم يستطيعوا الخروج منه
الى اليوم، وهو ملف إن انفجر فسيحدث دويّاً واهتزازاً
كبيراً في أركان الدولة السعودية. ليس لديهم حلّ: لا يريدون
إطلاق سراح المعتقلين، ولا محاكمتهم، ولا تبرئتهم! إذن
ليبقوا في السجون (الشرعية!) الى أن يشاء جلالته!
حافز لا يحل مشكلة البطالة المتفاقمة!
مشاريع القضاء لم تغير من واقع العدالة العرجاء شيئاً.
مليار دولار يدخل خزينة الدولة يومياً لم ينجح في القضاء
على الفقر، مع ان لجنة الملك لمكافحته قالت انها تحتاج
الى 30 سنة! وقد مضت عشر منها، ولو أعطي النظام مائة سنة
أخرى فلن يحلّها!
المشاكل تتضخم في كل جانب، والأمراء يقفون إزاءها بلا
حراك ولا مبادرة ولا قدرة على الحل. لقد أصاب العطب كل
أركان التفكير، وكل عقول أهل الإستبداد، فلم يعودوا رغم
الموارد البشرية قادرين على حل مشكلة واحدة فقط من مشاكل
البلاد!
العجز هو نتيجة لغياب الرؤية. والرؤية الواضحة لا تأتي
من عقول جامدة على مقولات أن البلاد بخيراتها وشعبها ملك
لآل سعود. كما لا تأتي من عقول لم يدخلها نور العلم، ويسيطر
عليها العجرفة والصلف: ترفض النصيحة، وترى أنها الأبخص،
ولا تريد سماع كلمة (إصلاح)!
العجز هو نتيجة لغياب المشروع، فكان ان اختطفت الدولة
بكامل حمولتها من قبل الأمريكان والغربيين. لا تستطيع
اليوم ان تميّز ما هو (سعودي) وما هو (أمريكي صهيوني).
الجميع في حفلة واحدة، يدفع تكاليفها الثري الغبيّ، الذي
يوجّه لمحاربة هذا أو ذاك، فيلبّي خوفاً على نفسه، لأنه
مقتنع بان نظامه سينهار بدون حماية امريكية غربية!
كم تغيرت هذه السعودية في العقدين الماضيين؟ تغيرت
كثيراً كثيراً، في بشرها وحكامها وسياساتها وعقلها!
إن لم يكن هناك من أمر قد اتفق المواطنون بشأنه، فعلى
الأقل هم يدركون بأن غيرهم ـ ممن كانوا ينظرون اليه بدونيّة
ـ قد سبقهم بسنوات في مجالات التنمية، والحريات السياسية،
إن لم يكن في (إنتاج العلم والمعرفة) وتأصيل حقيقة الدولة
المستقلّة.
كان المواطنون فيما مضى قد صدّقوا أكذوبة أن العالم
(يحسدهم)! على ما هم فيه من نعمة، الى أن وجدوا الكثيرين
يرأفون بهم ويشعرون بالأسى لحالهم، بمجرد أن يقولوا انهم
ينتسبون لتلك (السعودية) التي تسير في انحدار منذ ثلاثين
عاماً تقريباً.
من سيخرج هذه الدولة التي تسير بلا هدى من منحدرها
ويضعها على الطريق الصحيح؟!
لا أحد قادر فيما أظن. وهذا أسوأ ما تواجهه أية دولة.
رأسها عاجز لا يعلم أنه عاجز، ولا يعلم أن غيره من مواطنيه
ومن المراقبين يعلم أنه لا يعلم أنه عاجز!
نحن في نهاية الدولة الخلدونية، فكل مواصفات النهاية
واضحة المعالم!
|