لماذا ترفض السعودية مبادرة مصر الرباعية؟
إستعادة مصر لدورها تعني انهياراً لنفوذ الرياض
محمد قستي
مبادرة الرئيس المصري محمد مرسي في اجتماع منظمة التعاون
الاسلامي رمضان الماضي والمتعلقة بتشكيل لجنة رباعية من
تركيا وايران ومصر والسعودية، لا تمثل بالضرورة (مدخلاً)
لـ (الحل السلمي) للأزمة السورية، بقدر ما تمثل (اختباراً)
لقدرة مصر (الجديدة) في استعادة دورها الإقليمي بعد طول
(تقزيم) له في عهد مبارك الطويل.
ومع أن القيادة المصرية الجديدة بدت متأرجحة بين ماضي
السياسة المصرية وحاضرها، وانعكس على المزيج الخارج عن
التوازن أحياناً بين الحفاظ على شعبوية الحكم الجديد،
وبين التطلع لدور فاعل في المحيط العربي وربما الإسلامي،
وهو ما انعكس بصورة واضحة في خطابي الرئيس المصري في مؤتمر
قمة عدم الإنحياز، حيث التشنيع بالنظام السوري، وحيث الظلال
المذهبية التي ظهرت في الخطاب؛ وكذلك خطابه في مؤتمر وزراء
الخارجية العرب الذي حدّد قواعد السياسة الخارجية المصرية،
وأتى أيضاً على النظام السوري بالنقد والهجوم؛ الأمر الذي
أضرّ بالمبادرة المصريّة وأعلن الجانب السوري فشلها قبل
أن تجتمع اللجنة نفسها.
مع هذا، فإن المبادرة المصرية الرباعية لحل الأزمة
السورية سلمياً لم تمت بعد، رغم أن الآفاق تبدو مسدودة
أمامها، وأكبر عائق لنجاحها ليس النظام السوري الذي رحّب
بها ابتداءً واعلن وفاتها انتهاءً، بل لأن السعودية ترفضها،
أو بالأصح ترفض الدور المصري الجديد الذي تريد لعبه في
شؤون المنطقة.
لا توجد حماسة كبيرة من الجانب التركي حتى الآن للمبادرة،
فهو لم يرفضها ولكنه لم يعوّل عليها كثيراً.
لأسباب بدت مدركة ومعروفة، فإن المتحمس الأكبر للمبادرة،
والذهاب الى آخر الشوط في تتبع امكانيات انجاحها، هو الجانب
الإيراني، والى حد ما الجانب المصري، مخترع المبادرة إياها.
لأسباب بدت مدركة ومعروفة، فإن المتحمس الأكبر للمبادرة،
والذهاب الى آخر الشوط في تتبع امكانيات انجاحها، هو الجانب
الإيراني، والى حد ما الجانب المصري، مخترع المبادرة إياها.
لم يكن حضور اجتماع اللجنة الرباعية الأول مشجعاً،
لا من حيث التمثيل ولا من حيث النتائج. وفي الحقيقة لم
تظهر السعودية ولا صحافتها حماسة للمبادرة المصرية، بل
ربما يمكن القول أنها تلقت نقداً مبطناً (كما في كتابات
رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط طارق الحميد، 11/9/2001)
بعد يوم من اجتماع الرباعية.
ما هي اشكالات الحكومة السعودية على المبادرة المصرية؟
لا يخفى أن حل الأزمة السورية عبر السلاح، من طرفي
النظام والمعارضة، وصل الى طريق مسدود، وأن مواصلة استخدام
السلاح أصبح بمثابة تدمير ذاتي وتوسيع للحرب الأهلية وربما
يفضي ذلك الى تقسيم سوريا نفسها. لا يوجد في الأفق فرصة
نجاح للنظام للقضاء على معارضية رغم عنف السلاح والدم،
ولا يتوقع في المدى المنظور نهاية للنظام السوري عبر الثورة
المسلحة. هذه النتيجة التي كان يتهامس بها، أصبحت رائجة
في سوق التحليل السياسي والإستراتيجي. لكن هل اقتنع الطرفان
بالحل السلمي؟ لا يبدو ذلك حتى الآن، ولكن داعمي طرفي
المعارضة والنظام يدركون جيّداً هذه الحقيقة. وربما سيمرّ
وقتٌ أكبر حتى يستقرّ الأمر على تسوية سياسية، تنتج نظاماً
سياسياً جديداً، قد تكون محصلته رحيل للأسد، وليس لأقطابه
جميعاً.
المبادرة المصرية تمثل إدراكاً لهذه الحقيقة. فبين
الإستمرار في الحرب الداخلية المسلّحة وتدمير المدن والأحياء
وإزهاق ارواح البشر، وتهجير عشرات الألوف من ديارهم، بحيث
يتم تدمير سوريا كدولة وكدور، وبين إيقاف الحرب والقبول
بتسوية سياسية، رأى الكثيرون بأن التسوية تمثل في أقل
الأحوال (أهون الشرّين).
لكن هذا ليس رأي اسرائيل، ولا رأي المملكة العربية
السعودية. أن تتفتت الدولة وتدمر أهون من أن تكون ضمن
محور سياسي إقليمي ودولي آخر. الشعار: إما أن نستعيد سوريا
لنا؛ وإما أن تدمر فلا تستطيع لا مواجهة عدو، ولا خدمة
حليف أو صديق.
في أصل القضية، فإن السعودية نفسها ليست ناضجة للقبول
بحلّ سياسي، قد تطبخه نيران الروس والصينيين والأمريكيين،
قبل ان تشارك في مائدته السعودية نفسها وقطر ومصر وإيران
وتركيا!
السعودية لاتزال تعتقد بإمكانية اسقاط نظام الأسد عبر
السلاح، وهي ـ حتى الآن ـ ماضية في هذا الطريق. لهذا كانت
هي وقطر منذ البداية ضد مهمة كوفي أنان، وكانت من بين
الأكثر حماسة لتسليح الثورة وحتى تطييفها وإرسال مقاتليها
القاعديين والأموال الى سوريا. كما انها الأكثر حماسة
لتدويل القضية السورية وإدخال حلف الأطلسي في العمليات
العسكرية، وهو الأمر الذي تمّ اسقاطه بالضربة القاضية
في مجلس الأمن من روسيا والصين. والآن أيضاً لا تبدي السعودية
حماسة لمهمة الإبراهيمي.
لماذا لا تريد السعودية حلاً سياسياً للأزمة السورية؟
ببساطة لأن هذا الحلّ لا يحقق لها المكسب الذي راهنت عليه.
السعودية أملت ولاتزال من أن يؤدي اسقاط نظام الأسد الى
إعادة صياغة الوضع الإقليمي لصالح محورها، بعد عقدين على
الأقل من الخسائر الفادحة التي تكبدها نفوذها في كل المشرق
العربي. والحلول السياسية الوسطية للأزمة السورية لا تحقق
لها امنيتها، كما أن حلّ الأزمة نفسها قد يضعف دفاعاتها
وتحصيناتها التي ابتنيت على أساس صراع طائفي ضمن المحيط
الإقليمي. بديهي ان السعودية ليست تلك الدولة الديمقراطية
التي تبدي حرصاً على نجاحها في سوريا، فقضيتها الأساسية:
مصالحها السياسية، وتصدير مشاكلها الداخلية الى الخارج،
وتحويل اهتمام المواطنين من المطالبة بالتغيير في الداخل
الى احتضان الهم الخارجي والصراع الطائفي بديلاً عنه.
لهذه الأسباب، فإن السعودية في الأساس غير متحمسة ولا
جاهزة للتعاطي والمشاركة في اية جهود لإنضاج حلول سياسية
للأزمة السورية. ربما يتغير الوضع في الأشهر القادمة،
أما في الوقت الحالي فغير مرجّح. وعلى هذا الأساس، فإن
المبادرة المصرية ـ بعين السعودية ـ تطيل أمد الأزمة وتعطي
عمراً جديداً لنظام الأسد، وتخفف الضغط عن حلفائه في طهران
وربما في روسيا والصين. زيادة على ذلك، فإن المبادرة المصرية
كما تحركات الإبراهيمي ـ من وجهة النظر السعودية ـ تضعف
الجهود والمحاولات السياسية الحثيثة من قبلها على المستوى
العربي والدولي لإقناع الدول الغربية بالمشاركة الفاعلة
والمسلحة في تغيير النظام السوري.
لكن الأهم من كل ما ذُكر أعلاه، هو أن القيادة السعودية
تنظر بعين الإرتياب والحذر من استعادة مصر لدورها.
فعلى عكس الموقف الإيراني المتحمس والذي يعبّر عنه
بصراحة في الإعلام والمواقف السياسية الرسمية بضرورة ان
تستعيد مصر لدورها، فإن السعودية تشعر بقلق كبير من ذلك؟
أولاً، لأنها ترى في استعادة مصر لدورها الإقليمي المغيّب
إضراراً بنفوذها، فكلّما صعد نفوذ مصر، تقلّص وتقزّم الدور
السعودي في المنطقة العربية لصالح القاهرة. هذا الشعور
هو نفسه الذي يجعل السعودية غير مرتاحة من تصاعد الدور
التركي نفسه، والذي لقي نقداً لاذعاً ولازال في الصحف
السعودية خاصة صحيفة الشرق الأوسط. فالدور المصري، كما
الدور التركي، لا يأكلان ويقضمان من مساحة وهامش الدور
الإيراني في المنطقة العربية والإسلامية، بقدر ما يقضمان
مما تبقّى من النفوذ السعودي، سواء اعتمد مقياس المذهبية
السياسية أو الدائرة العربية. فإذا ما تصدّت تركيا لقضية
عربية او اسلامية، ووسعت نفوذها، وظهرت بمظهر المدافع
وحتى المستقطب للعالم (السنّي) فإن الرياض تخبو وتتقلّص،
بل وتعيّر على مواقفها وتهمش في محيطها القريب الذي يمثل
إطار مصالح نفوذها السياسي. ذات الأمر يمكن أن يقال بالنسبة
للنفوذ المصري، واستعادة الدور اللائق بمصر؛ فبقدر ما
تتعافى وتبادر، يصعد دور الأزهر، والمؤسسة السياسية المصرية،
وتصبح محجّاً في المحيط العربي على الأقل للدول الأخرى.
للتذكير فقط، فإن نفوذ السعودية لم يتضخّم وتصبح هناك
(حقبة سعودية) كما سماها هيكل في منتصف السبعينيات إلا
بعد غياب عبدالناصر، وبعد إضعاف دور مصر الإقليمي بتبعيته
للدور السعودي، والذي استمر بوتيرة أسوأ حتى نهاية عصر
مبارك.
السعودية ولأكثر من 35 عاماً اعتادت أن تقود العالم
العربي من خلال مصر، واعتادت ان ترى الأخيرة أداة في جيبها
السياسي. ومع تذرّر الدور السعودي في العالم العربي بغياب
الكبار ونأيهم عن الرياض: بغداد، الجزائر، دمشق.. لم يتبق
للسعودية من حليف يبقيها ولو في الواجهة المشوّهة سوى
مصر مبارك. الآن وبعد الثورة، تخرج مصر من الدائرة السعودية
باحثة عن دورها الخاص بها، والمناسب لشخصيتها وثقافتها
ومكانتها وتاريخها وحجمها، ما يبقي السعودية وحيدة في
الميدان: تابعاً ومقاداً، وفي احسن الأحوال دولة تائهة
تبحث عن دور تلعبه بقواها الذاتية لا بقوى إقليمية كبيرة
عربية كمصر.
كيف يمكن للرياض اليوم ان تقبل بإخواني تشتمه جهاراً
نهاراً لثلاثين عاماً أن يقدم نموذج دولة اسلامية ديمقراطية
مقابل سلفية تكفيرية ديكتاتورية؟ التناظر هنا مؤذ ومزعج
للرياض.
كيف تقبل الرياض مبادرة مرسي المصرية، وهي التي اعتادت
لعقود ان تدعو مصر فتجيب، وتلوي ذراعها فلا تبدي صوتاً
رغم الألم؟ العائلة السعودية المالكة ليست في وارد حتى
التصديق بأن مصر ستتقدم بمبادرات بشأن قضايا عربية قبل
التنسيق مع الرياض وقبل أن تعطي الأخيرة الموافقة عليها؟
كانت للسعودية مشكلة مواجهة محور ايران ـ سوريا المتمدد
بنفوذه في المنطقة، في غياب الكبار عدا مصر مبارك الحليف
للرياض. الآن صار للسعودية منافسين جدد على ما تعتقده
مائدتها الخاصة بها: تركيا ومصر. هذا يعني أن دور السعودية
الإقليمي، ليس ضعف فقط، بل هو على شفا جرف هار، سيقود
على الأرجح الى الإنهيار المدوّي خلال السنوات الثلاث
القادمة.
|