بعد مظاهرات رفع أعلام القاعدة
متى يحين إغلاق مصنع التكفير السعودي؟
صراع مرجّح بعد أن كان مؤجلاً بين (السنّة المعتدلين)
و(التكفيريين العنفيين الوهابيين)
يحي مفتي
قد يكون أمراً مفاجئاً لكثيرين، أن تظهر القاعدة برجالها
وأعلامها في واجهة مشهد التظاهرات المنتشرة المنددة بالفيلم
الأخير المسيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
في البحرين والكويت، كما في اليمن والأردن ومصر وتونس،
وحتى في بلدان مثل استراليا، رُفعت أعلام القاعدة جهاراً
نهاراً في سابقة مدهشة. إذ ـ وحتى الأمس القريب ـ كان
الجميع يعلن براءته من القاعدة، ويخشى أن يتهم بالتعاطف
معها، أو حتى الدخول على مواقعها الإلكترونية المتعددة،
ويحتجز الآلاف من المتعاطفين معها في سجون العالم كلّه.
فمالذي تغيّر، وهل نشهد انعطافة حقيقة في المشهد السياسي
لدول الشرق الأوسط، وما تأثير ذلك على البلد (المُنتج)
أو (المصدّر) للقاعدة ورجالها وفكرها والمموّل الأساس
لها، وأقصد بذلك المملكة السعودية؟
لقد نجحت القاعدة، ربما بدون تخطيط مسبق، في استثمار
قضية الفيلم المسيء لرسول الإسلام عليه أفضل وأزكى السلام،
لتتصدّر مشهد الأحداث، وليظهر المتعاطفون معها في مقدمة
التظاهرات، يهاجمون السفارات الغربية في أكثر من بلد عربي
وإسلامي، ويستثمرون المشاعر الفيّاضة بين المسلمين لصالح
اطروحاتهم السياسية، ما دفع بحركات وتوجهات اسلامية الى
النزول الى الشارع خشية أن تخسر الجمهور أو أن تختطفه
القاعدة.
هو تحوّل بكل معنى الكلمة، هذا الذي يجري ـ وسيجري
في المستقبل. فمنذ الآن، ستصبح القاعدة، بشتى تسمياتها،
رقماً سياساً حاضراً ومشخّصاً في أكثر من بلد عربي وإسلامي،
بعد أن كان رقماً متوارياً عن الأنظار.
سببان أساسيان مترابطان لخروج القاعدة من مخدعها، وهما
ذاتهما سيبقيانها في واجهة المشهد السياسي والأمني لسنوات
قادمة.
الأول، هو توسّع مساحة الحريّة
في منطقة الشرق الأوسط، بسبب ثورات الربيع العربي، الأمر
الذي سمح بتوفير غطاء سياسي وأمني ضمن نطاق (حرية التعبير)
والعمل السلمي لتجنيد الأتباع الجدد، والحصول على الموارد
المالية في بلدان كانت القاعدة ـ كما التيارات الإسلامية
الأخرى ـ محاصرة فيها كما هو الحال في تونس وليبيا. لقد
قيل بأن ثورات الربيع العربي أثبتت للعرب والمسلمين بأن
هناك طريقاً أفضل للتغير، يختلف عن الطريقة القاعدية القائمة
على العنف والسلاح والقتل. لكن هذا لا يعني أن القاعدة
لم تستثمر أجواء الإنفتاح والتواصل لإعادة بناء نفسها
بشرياً وتسليحياً وماليا أثناء وبعد تلك الثورات؛ كما
لا يعني أنها قبلت بالمنتج السياسي لتلك الثورات.
السبب الآخر، هو أن الثورات
العربية، وبقدر ما وسعت هامش الحرية ليس في بلدانها فقط،
بل في عموم المنطقة، فإنها أضعفت أنظمة الإستبداد التي
لم تسقط حتى الآن، وهذا الضعف في بنية تلك الأنظمة، كما
في الأنظمة الجديدة التي تولّدت بعد سقوط الديكتاتوريات
في مصر وتونس وليبيا والتي لم تترسخ بعد، أمرٌ ملموس وواضح
للعيان وجرى اختبار ذلك الضعف في أكثر من بلد عربي. ولهذا
وجدت القاعدة ـ كما غيرها من القوى السياسية ـ الفرصة
لإزاحة القناع عن وجهها والنزول الى الشارع بشكل علني
ولأول مرّة منذ سنوات طويلة أُجبر خلالها أتباعها على
النزول الى الأرض والتواري.
ما كان ممكناً أن تحمل أعلام القاعدة في الكويت، وتصرخ
الحناجر (أوباما أوباما، كلّنا أسامة)، لولا حقيقة أن
النظام العائلي في الكويت قد أصابه الضعف الشديد خاصة
في السنتين الأخيرتين. ومثل ذلك التظاهرة في البحرين المنددة
بفيلم الإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وما كانت
التيارات والشخصيات المتشددة لتظهر علناً أمام الكاميرات
في الأردن وتزينها أعلام القاعدة لولا أن الجميع يعلم
ويشعر بحقيقة ضعف النظام الملكي في الأردن وفقدانه الكثير
من قواعده الشعبية ومن شرعيته.
تغيير وجهة الصراع
لا يمكن إلا قراءة الموضوع سياسياً في مسألة ردّة الفعل
على الفيلم المسيء. فقاعدة ليبيا (أنصار الشريعة) كانت
موجودة منذ عهد القذافي، وقد توسّط مشايخ السعودية لإطلاق
سراحهم، وسافروا الى هناك وحققوا ما يشبه الهدنة، أدت
الى اطلاق سراح الكثيرين منهم. لكن أحداً لم يرد أن يشير
الى وجود القاعدة لا في ليبيا ولا في سوريا ولا حتى في
سيناء! عدد من انظمة ما قبل وما بعد الثورات العربية أرادوا
أن يظهروا بأنهم قد تخلّصوا من (الفيروس الإرهابي)؛ وكان
الأميركيون والسعوديون والقطريون قد استهوتهم لعبة الإستمرار
في ركوب ظهر القاعدة ضد أعدائهم كما في ليبيا وسوريا،
الى حد أن وزارة الداخلية السعودية أطلقت سراح عدد من
القاعديين وبعثت بهم لقتال (الكافر في دمشق).. ليرتدّ
الأمر على الجميع الأمر كما في مرات عديدة سابقة في مناطق
أخرى، كأفغانستان والباكستان واليمن والعراق وحتى السعودية
نفسها.
التيار السلفي جزء أصيل من المجتمعات العربية والإسلامية،
والقاعدة مكوّن أساس لذلك التيار، بل هو ثمرته ورأس حربته؛
وفي أي مكان وجدت فيه السلفية، وجدت الوهابية، ووجد تنظيم
القاعدة (كل وهابي سلفي، وليس كل سلفي وهابي قاعدي). هذا
المكوّن القاعدي لا يمكن القضاء عليه، وهو موجود في كل
بلد عربي واسلامي، بل يمكن القول انه موجود بصورة من الصور
في كل بلدان العالم.
ما جرى مؤخراً مجرد تمظهر مختلف للقاعدة (لا يعني ان
المتظاهرين دفاعاً عن رسول الله هم قاعدة، فمعظمهم ليسوا
كذلك) التي عوّدت المراقبين على التفجيرات والقتل والذبح
بالسيوف، وتدمير الأضرحة والمقامات الدينية، والآن تقدّم
نفسها في مشهد آخر عبر مهاجمة السفارات وتصدّر بعض المظاهرات
ضد الفيلم المسيء.
إنه ظهور يعبّر عن تحدّي، وعن ثقة بالنفس، وعن استعداد
للمواجهة. مع من؟
ليس مع الأميركيين والغربيين، ولا مع النظم السياسية
العربية المستبدّة فحسب، بل ايضاً الإستعداد ـ وربما الرغبة
ـ في مواجهة الأنظمة التي أفرزتها الثورات العربية وديمقراطيتها
(الكافرة)!
القاعدة الشعبية السلفية في أكثر من بلد عربي ظهر أنه
يمكن استيعابها ضمن العملية السياسية الديمقراطية، أو
شبه الديمقراطية، بعد أن جاءتهم الفتاوى من الرياض، كما
في الكويت والبحرين. هنا تجوز الديمقراطية والإنتخابات،
الى حين على الأقل. أما في السعودية فهي كفر. لكن يظهر
اليوم، ومن خلال التجربة، أن عملية استيعاب السلفيين ضمن
أنظمة ما بعد الثورات العربية مسألة صعبة وإن لم تنجح
في مصر فهي لن تنجح على الأرجح في بلدان أخرى، خاصة في
ليبيا التي يشبه نسيجها الاجتماعي السعودية نفسها. ولهذا
ظهرت المعاناة فور سقوط القذافي، ولاتزال، وفي تونس هناك
مشاكل تتكاثر يوماً بعد آخر، الى حد أن عبدالفتاح مورو
من النهضة بل وراشد الغنوشي حذّرا التونسيين من الوهابية
بصريح القول.
ثقافة المشاركة والعمل السياسي السلمي ضمن مظلّة الديمقراطي
لا تدخل ضمن النظام المعرفي السلفي ولا يوجد له تأصيل
في الثقافة السلفية والقاعدية. كل ما وُجد إجازة استثنائية
في دول محددة. والقاعدة التي تتغذّى على التوسّع السلفي
لا تجد نفسها معنيّة بالإنتخابات كثيراً، وربما يكون لبعضها
استعداداً كبيراً لمحاربتها ومحاربة منتجها الكفري. لا
ننس هنا، أن القاعدة ورجالها أكثر أمانة على النص والتراث
السلفيين وأكثر التصاقاً بهما من مشايخ المؤسسة الدينية
الوهابية السعودية.
ماذا يعني هذا؟
إنه يعني أن هناك (معركة مؤجلة) حول من يمثّل الجمهور
في مرحلة ما بعد الربيع العربي بتداعياته المختلفة في
كل البلدان العربية: هل من يمثله من جاء بالإنتخاب والديمقراطية
من الإسلاميين بالذات؟ أم من يمثله هم القاعدة بأسمائها
المختلفة ممن لم يشارك أتباعها في أكثر الحالات في الربيع
العربي، والذين لا يؤمنون بالديمقراطية ولا بمنتجها؟
بمعنى آخر، فإن المعركة القادمة ستكون (بينية)، فهناك
القاعدة ومن ورائها التيارات السلفية عامّة؛ وهناك في
الطرف الآخر الإسلاميون الحاكمون أو المشاركون في الحكم،
ومن ورائهم معظم المسلمين، وربما حتى الحكومات الغربية!
أدوات المعركة التي تفهمها الأكثرية الساحقة من الشعوب
وتقبل بها هي الإنتخابات، لكن القاعدة لا تحتكم اليها،
بل ستحتكم الى (السلاح) والمواجهة مع النظم الجديدة والعتيقة
القائمة، فهذه هي اداة القاعدة الأساسية، وهذا تخصصها،
ولا يبدو أنها ستتخلى عنه.
واضح ان الحكومات في ليبيا وتونس ومصر لا تريد أن تتصادم
مع التيار السلفي، ولا مع تفريعات القاعدة. فهذه الأنظمة
لما تتمكن بعد من السيطرة على مقاليد الأمور، والأوضاع
السياسية في مرحلة انتقالية، وهناك أولويات كثيرة، فضلاً
عن أن مواجهة السلفية التكفيرية العنفية ماتزال في بداية
تمظهرها، ويمكن للآخرين محاولة تلافيها. هذا ينطبق أيضاً
على دول أخرى، كالبحرين التي لا تريد عائلتها فتح معركة
في بنائها الداخلية وشقّ صفّها في مواجهة المعارضة المتوحدة
من أجل التغيير. والكويت لها وضع مضطرب مشابه، في حين
أن الصراع في اليمن واضح المعالم مع القاعدة.
يخلص من هذا أن القاعدة ومن ورائها التيار السلفي هم
من يريد المعركة، وهم من يتقصدها، وفي النهاية هم الطرف
المهاجم ومن سيفرضها على الآخر بصورة أو بأخرى. نقول هذا
وأمامنا حقيقتان تدعمان فرضية تصاعد المواجهة:
ـ الأولى، ان التيارات القاعدية والسلفية تشعر بحالة
من الإنتشاء، ولديها مساحة من الحرية وحماية القانون لتتحرك
وتنشط في التبليغ والتجنيد، وهناك أموال تصبّ عليها من
المركز المصدّر للفكر، أي من السعودية. فلا يخفى أن سلفيي
السعودية وجدوا فرصتهم في بلدان كانت مقفلة، ولهذا اهتموا
باستغلال الوضع السياسي المنفتح، وسافر عدد من كبار وعاظ
الوهابية الى تونس وليبيا ومصر وغيرها لتحقيق المكسب المذهبي.
حالة الإنتشاء هذه، خاصة بعد المظاهرات الأخيرة أمام السفارات،
مع رفع أعلام القاعدة، أعطت التيار السلفي زخماً جديداً،
يحفّزه على المواصلة وانتهاز المناسبات لتأكيد حضوره الميداني.
ـ الثانية، هناك تداعيات للأحداث التي وقعت، فما عسى
الأنظمة القائمة أن تفعل إزاء عناصر القاعدة ومن رفع أعلامها؟
وماذا ترى واشنطن أو تمارس من ضغوط على تلك الحكومات لمعاقبة
من هاجم سفاراتها؟ ان التداعيات التي بدأت بالإعتقالات
(حتى الآن نحو 400 في مصر، و50 في ليبيا، وأعداد في تونس)؟
قد يكون لردود أفعال الحكومات تداعيات في استمرار حضور
القاعدة، وقد يؤدي ذلك الى تشكيل حوافز جديدة اليها للمواجهة.
إن حدثت المواجهة ـ وهو ما لا نتمناه ـ فهذا يعني أن
دولاً عديدة بما فيها دول الربيع العربي وغيرها ستعاني
كثيراً من الصراع وربما الإحتراب الداخلي، وسيشعر الكثيرون
بوطأة القاعدة ودمويتها وخطورة الفكر الوهابي الذي سيقف
وراءها. ستكون القاعدة أداة إفشال لبرامج هذه الأنظمة
اقتصادياً واجتماعياً، كما ستتأخر مصر في لعب الدور الاقليمي
الذي تتمناه وستنكفيء على نفسها لفترة غير قصيرة.
وفي الجانب السعودي، فإن الرياض الداعمة والممولة لفكر
التكفير، ستواجه شعوراً متصاعداً ضد أيديولوجيتها، وسينظر
اليها كمصدر للخطر الحقيقي على أمن بلدان عديدة، وهو شعور
موجود أصلاً، ولكنه سيزداد، وستشعر بالعزلة الإقليمية
وحتى الدولية، كما أن نفوذها سيتصاغر، بمعنى أن غياب دور
مصر لن تستطيع السعودية إشغاره، وإن مثل ذلك فرصة لها
على المستوى النظري.
على الصعيد الإقليمي، فإن أي صراع بين التكفيريين القاعديين
الوهابيين مع الإسلام السنّي المعتدل، فإن وجهة الصراع
ستتغير، فالسعودية التي أرادت ان تكون المعركة مع ايران
بدلاً من اسرائيل، ستجد نفسها ومذهبها في صراع مع العالم
الإسلامي (السنّي) قبل غيره. والغرب الذي تواطأ مع القاعدة
في أكثر من مكان، أو على الأقل غضّ النظر عنها، وتعاون
معها كما في ليبيا، سيجد نفسه مجبراً على إعادة النظر
في أولويات أجندة الخطر على مصالحه.
وعموماً، فإن ما جرى من مسيرات وتظاهرات ضد الفيلم
المسيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهور القاعدة
في واجهة تلك المظاهرات والهجوم على السفارات، قد تكون
بداية منعطف تغييري واسع في المستقبل، تمتد آثاره سلباً
أو إيجاباً على كل دول المنطقة، وستكون الولايات المتحدة
والغرب وحلفائه كما في السعودية في قائمة الخاسرين.
لا تخفي السعودية انزعاجها مما جرى، وهي نددت بالفيلم
وبالتظاهرات معاً! وعينها على وضعها الداخلي، حيث لم يخرج
سوى عشرات في بريدة يتظاهرون نصرة للنبي، في حين أن بلدة
شيعية صغيرة (الربيعية) شرق السعودية، أخرجت تظاهرة من
نحو ألف وخمسمائة شخص نساء ورجالاً. ما تخشاه السعودية
أن تعاد اليها بضاعتها المصدّرة، او ترتدّ عليها باعتبارها
حاضنة لفكر متطرف تكفيري، لا يفيد معه المناصحة ولا التثقيف،
بل وكما يطالب كثيرون: (يجب إغلاق المصنع) التكفيري بالكامل!
|