صانعة الحروب: هل تخوضها (نظيفة)؟!
محمد قستي
قد يكون مفاجئاً أن يكتب صحافي ذو توجه سعودي مقالاً
عن حروب تخوضها السعودية أو تنخرط فيها؛ فهذا وإن كان
صحيحاً في عمقه وواقعه خلاف ظاهره، فإن السعودية نفسها
لا تعترف بأنها داعية حرب، ولا دولة حرب، بل هي تروّج
عن نفسها وتبرزها كدولة (ناعمة الملمس) (محبّة للسلام)
(تائقة للإستقرار)، وتفاخر بأنها لا تخوض حروباً ولا تستفزّ
أحداً حتى اسرائيل؛ بعكس من تناصبهم العداء من صداميين
وخمينيين وناصريين وإسلاميين وغيرهم!
مفاجأة مقال جهاد الزين في النهار (11/10/2012) عن
(السعودية والحروب "النظيفة") لا تؤكد انخراط السعودية
في الحروب الإقليمية العديدة فحسب، بل الأهم بزعم الكاتب
أنها انتصرت في تلك الحروب جميعاً، دون ان تنتقل شعلة
النار الى أراضيها، أو تتورط بمهجري الحروب التي ساهمت
فيها أو صنعتها، ليطلب الكاتب دراسة وتأمل هذه التجربة
السعودية الناجحة (في خوض أخطر الحروب التي تعيد تشكيل
هوية المنطقة والبقاء في منطقة بعيدة عن رذاذ الدم وشظايا
القنابل). وهي ـ بحسب الكاتب ـ تجربة ناجحة في تفريغ شحنة
ما أسماه (العصب القتالي) ورسم أهدافه (عبر النفوذ لا
الإشتباك).
|
جهاد الزين |
لعلنا لا نحتاج الى تأكيد أن الحروب التي انخرطت فيها
السعودية كثيرة، اكثر من تلك الحروب الأربع التي ذكرها
جهاد الزين: (الحرب الأفغانية ضد السوفيات 1979؛ والحرب
العراقية الإيرانية 1980؛ والحرب على العراق بعد احتلال
الكويت 1990، والحرب الأهلية السورية الآن).. فهناك حروب
أخرى اقتصادية وسياسية واستخباراتية تتعدّى منطقة الشرق
الأوسط الى افريقيا وامريكا اللاتينية وغيرهما؛ وهناك
الحرب العسكرية بين اليمنين الشمالي والجنوبي عام 1994
حيث اصطفت مع الجنوبيين، وهناك انخراط مباشر في حرب احتلال
أفغانستان 2002، وحرب احتلال العراق 2003، والحرب السعودية
المباشرة في اليمن ضد الحوثيين 2009 وقبلها الحرب بالنيابة
في أربع حروب غير مباشرة، ولاتزال الأمور على هذا النحو.
تقييم هذه الحروب من حيث الأسباب والدوافع والنتائج
يختلف كثيراً عما توصل اليه جهاد الزين. فهذه الحروب جميعاً
تحكي قصة تحلّل الدور السعودي، وليس تناميه. انها تحكي
قصّة التخبّط السعودي فاقد الإستراتيجية، الأمر الذي كانت
له انعكاسات خطيرة على شرعية النظام وعلى الإستقرار الأمني
والسياسي في السعودية نفسها، كما على الأوضاع الإقتصادية
المحلية، ما جعل السعودية بسبب تمويل الحروب المتنوعة،
في أزمات مالية وعجز ميزانية ومديونية عامة لمدة تزيد
على العقدين.
لن نخوض في تقييم تلك الحروب، لكن هناك ملاحظات أساسية
نلفت الإنتباه اليها:
الأولى ـ السعودية: حروب محاور
وبالنيابة
تخوض السعودية حروباً بالنيابة كعضو في محور غربي محارب.
كل الحروب التي خاضتها جاءت في سياق الحروب الأمريكية
ـ الغربية؛ وكل الأعداء المفترضين للسعودية هم أعداء للولايات
المتحدة. وفي كل الحروب كان هناك تنسيق مشترك بين السعوديين
والغرب، كونهم جزءً من محور سياسي فاعل سواء كانت الحرب
ضد السوفيات، أو ضد دول بعينها ينظر الغرب اليها كعدوة،
مثل ايران وسوريا أو حتى نيكاراغوا وغيرها، أو ضد جماعات
معادية للغرب وحلفائه: كما الحوثيين في اليمن، وحزب الله.
بمعنى آخر، فإن الحروب التي تخوضها السعودية، إنما تخوضها
كجزء من محور غربي، ولصالح هذا المحور، وليس بالضرورة
لمصلحة سعودية خاصة، كتوسعة نفوذ أو ما أشبه. السعودية
تخوض هذه الحروب وتشارك فيها سواء كانت على المستوى الشرق
الأوسط أو أبعد من ذلك في سياق هذا المحور، وقد كشف تركي
الفيصل ـ رئيس الإستخبارات السعودية الأسبق ـ بأن بلاده
كانت لها مساهمات في حرب فيتنام الى جانب الأميركيين!
ولربما يصدق القول بأن مساهمة السعودية في هذه الحروب
الأميركية ـ الغربية المتنقلة إنما هي ثمن تدفعه مالاً
ومكانة لصالح المستفيد الأكبر ـ راعي المحور، مقابل بقائها
محميّة من قبله.
الثانية ـ حروب متنوعة بغير جهد
بشري
السعودية تخوض حروبها بلا جنود من جيشها؛ فكل المعارك
التي خاضتها كان المال هو العنصر الفاعل فيها، حيث تموّل
آلة الحرب، وتدعم حركات مقاتلة أو أنظمة موالية بالمال
والسلاح وتوفير الغطاء الإعلامي والسياسي. في الحرب الأفغانية
ضد السوفيات، كان هناك المال السعودي والسلاح الغربي،
وكان هناك المقاتلون السعوديون ـ غير النظاميين من العناصر
السلفية ـ الذين يتم شراء التذاكر لهم وتمويلهم. ذات المشهد
يتكرر في سوريا الآن، حيث رواتب المقاتلين تدفع سعودياً،
وصفقات أسلحة تشترى لترسل لا إلى الرياض وإنما مباشرة
الى تركيا ومنها الى المقاتلين (نشير الى ما كشف عنه تقرير
مصور للبي بي سي بشأن صفقة أسلحة سعودية مع أوكرانيا وجدت
في حلب). في الحرب العراقية الإيرانية، قدمت السعودية
ما يقرب من مائة مليار (الملك فهد اعترف علانية بخمسين
مليار دولار، والملك عبدالله قال انها سبعين مليار دولار)
فضلاً عن تقديم صور لتحركات الجيش الإيراني تلتقطها الأواكس،
وكذلك إضعاف الإيرادات الإيرانية عبر تصدير فائض نفطي
حتى وصل سعر البرميل الى 12 دولاراً.
في الحرب على العراق الأولى عام 1991 والثانية عام
2003، كانت السعودية منطلقاً للقوات الأجنبية (نصف مليون
مقاتل في الأولى) وقد شارك الجيش السعودي اسمياً في القتال،
ولكن في التمويل دفعت السعودية ما يزيد على ستين مليار
دولار لتحرير الكويت. وفي عملية اسقاط حكم الطالبان وحكم
صدام 2002-2003 كانت ادارة الحرب قد تمت من قواعد أميركية
في السعودية، بل وكانت الجبهة السعودية فاعلة في السيطرة
على قواعد عراقية.
يضاف الى هذا الجهد المالي والإعلامي والسياسي.. توفير
الغطاء الديني كجزء من مشروعية الحرب الغربية ـ السعودية
على الدول: إما باسم مكافحة الشيوعية ـ كما في افغانستان،
أو مكافحة الإرهاب كما بشأن الطالبان وصدام، أو باسم الديمقراطية
والطائفية معاً كما في سوريا الآن، وهكذا. المؤسسة الدينية
تعتبر جزءً فاعلاً في حروب السعودية.
لكن في المجمل فإن القوات السعودية نادراً ما تشارك
في حروب خارجية، فالجيش السعودي لا يعتدّ به، ولا خبرة
قتالية لديه، وليس لدى السعودية الجرأة للقتال المباشر،
حتى في المناطق القريبة. لكن السعودية تستعيض عن ذلك ليس
بالمال فقط، ولكن في العقود الأخيرة بـ (السلفيين والقاعديين)
على النحو الذي شهدناه في العراق وسوريا وحتى اليمن وقبلها
افغانستان.
نعم، المكان الوحيد الذي شاركت فيه السعودية مباشرة
في حرب حقيقية في السنوات الأخيرة، هي الحرب ضد الحوثيين،
وقد خسرت المعركة، وخرس الإعلام السعودي. كانت تجربة مرّة
للسعوديين، فقد تصوروا أنه إن لم يكن بإمكانهم مواجهة
جيش نظامي ولو صغير جداً، فإنهم سينجحون حتماً في مواجهة
جماعة مسلحة. فدخلوا الحرب بغباء، ثم لما خسروها قالوا
بأن علي صالح هو من ورّطهم فيها!
وهناك قضية أخرى تتعلق بإيران، فالرياض كما تل أبيب
تتمنيان أن تقوم امريكا باعلان الحرب على إيران بالنيابة
عنهما، وتناستا أنهما هما من تحاربان بالنيابة عن أمريكا
وليس العكس. بدت السعودية قبل نحو خمس سنوات ـ وبتحريض
وتشجيع من الأمير بندر، رئيس الإستخبارات السعودية الحالي
ـ أن لديها الإستعداد لدفع فاتورة الحرب بأكثر من المال،
أي دفعها دماً من جنودها وخراباً ودماراً في اراضيها ومنشآتها
ايضاً في حال كانت هناك حرب على إيران. لكن هذه الميول،
ومن خلال القراءات السطحية لأحداث ما بعد الربيع العربي،
قد تغيّرت، وظهر ان الرياض أقلّ اندفاعاً تجاه مثل هذه
المغامرات.
الثالثة ـ المزيد من الحروب، والمزيد
من الإنحدار
بالرغم من مشاركة السعودية في كثير من الحروب، والزعم
بأنها نجحت فيها، كما يفعل جهاد الزين، إلاّ أن أول ما
يلاحظه المراقب هو أن مكانة السعودية الإقليمية تدهورت،
مع ملاحظة أنها ـ كما يقول اصحابها انتصرت! فهي قد أنهت
النظام العراقي وتخلصت من صدام، كما أضعفت ايران بالحرب،
وأسقطت حكم الطالبان الذي كانت تعترف به مع دولتين أخريين
(الإمارات والباكستان)، وأعادت آل صباح الى الكويت، وأشعلت
النار في سوريا.
لماذا إذن لم يتجلّ النصر والنجاح السعودي المزعوم
على وضع الحكم السعودي ومكانته الإقليمية وتوسعة نفوذه؟
هل عوامل تقزّم النفوذ السعودي منفصلة عن عوامل الإنتصار
السعودي في الحروب الأميركية ـ الغربية؟ كلاّ، بل هي عوامل
مشتركة، ما يجعل المراقب يشكك في أصل حكاية النجاح السعودي
من أساسها. وبنظرنا فإن تلك الحروب التي خاضتها السعودية
تعدّ العامل الأساس في تراجع نفوذها، وهي بهذا تعتبر حروباً
خاسرة في محصلتها النهائية بمقياس المصالح السعودية وحتى
الغربية.
ترى ما هي قيمة النصر السعودي الغربي في أفغانستان،
ماذا حصل الأفغان منه، وماذا حصلت السعودية نفسها منه..
وفي الوقت الحالي: أية امتياز للسعودية في أفغانستان:
سياسة ورجالاً ومكانة؟
ما هو المكسب السعودي الذي تحقق من حرب امريكا على
العراق وزوال نظام صدام حسين؟
السؤال الذي يطرح على المكاسب السعودية قائم بشأن المكاسب
الأميركية والغربية من تلك الحروب، وإن كان الأمر ليس
متطابقاً بالضرورة. قد تتحمّل السعودية غرماً في مساهمتها
في الحروب، ويكون مكسبها منها رفع شأن المحور الأميركي
الذي تنتمي اليه، وليس الى ذاتها بالضرورة. لكن كقاعدة
عامة، فإن انحسار النفوذ الأميركي يقابله انحسار في النفوذ
السعودي نفسه، وهذا واحد من أهم أسباب انحدار مكانة السعودية
نفسها. لكن بعض الموالين للنظام في الرياض، وهم إذ يقرّون
بتراجع نفوذ أميركا في الشرق الأوسط، يضخّمون في الوقت
نفسه من قوّة ونفوذ الدور السعودي، وهذان أمران متناقضان.
الحقبة السعودية جاءت على موج انتصارات اميركية (مشاريع
وحروب) في المنطقة، ونهاية الحقبة جاءت ايضاً على أنقاض
سلسلة من الهزائم الأميركية.
الرابعة ـ حروب السعودية قذرة
ولا أخلاقية
كل الحروب قذرة ودموية وتحمل استخفافاً بآدمية الإنسان
وحرمة الدم. آل سعود نقلوا حروبهم الى مواقع الخصوم بعيداً
عنهم. عمدوا الى التحريض وصبّ النار عليها، ولم يمارسوا
دوراً وسيطاً لحلحلتها. والسبب: إنهم جزء فاعل وطرف أساس
فيها، ولذا فإن المآسي من القتلى والجرحى والأيتام والمعذبين
والمهجرين لا يلحظها الحاكم السعودي، وربما تبرّع بقليل
من المال تعبيراً عن التعاطف، وتمريراً للسياسة المتبعة.
أيّة حرب كانت (نظيفة) من حروب آل سعود؟ هل هي الحرب
الأفغانية التي حصدت ولاتزال تحصد أرواح مئات الألوف من
البشر وصلت الى ما يقرب من المليونين، ودمرت بلداً كاملاً
وهجرت نحو اربعة ملايين إنسان؟ أم هي الحرب العراقية الإيرانية
التي كانت نتيجتها البشرية أكثر من مليون قتيل ومئات الألوف
من الجرحى، فضلاً عن الخراب والدمار في البنية التحتية؟
أم هي حرب الكويت وما تلاها من حصار للعراق استمر لسنوات
وقضى على نصف مليون طفل عراقي بحسب تقارير الأمم المتحدة؟
حتى بضعة آلاف من الفارين من جحيم صدام حسين الى رفحا
السعودية لم تتحملهم، وما أكثر التقارير التي تحدثت عن
المعاملة السيئة، فيما كان الاعلام السعودي يتحدث عن أماكن
الإيواء ويصفها بأنها تشبه (فنادق خمس نجوم)!
الحروب السعودية ـ الإعلامية والسياسية والعسكرية والإقتصادية
والإستخباراتية ـ كلها قذرة: فجور في الخصومة؛ وتفجيرات
تقتل الأبرياء كتلك التي استهدفت المرجع الشيعي محمد حسين
فضل الله في بيروت والتي أدت الى مقتل ما يقرب من مائة
انسان بريء، تلك العملية مولتها السعودية ـ الأمير بندر
ـ حسب كتاب وودورد: (الحجاب). أية نظافة في الحرب السعودية
على الحوثيين، وهي بعد ان فشلت في المواجهة العسكرية،
عمدت الى استخدام الطيران لتقصف بيوت الطين والحجر وتدمرها
على رؤوس السكان في صعدة وغيرها؟ أية نظافة في حروب السعودية
في سوريا اليوم وهي تمدّ الحرب الأهلية بالتحريض الطائفي
والمال والرجال السعوديين القاعديين والسلفيين، اضافة
الى السلاح؟ أية نظافة في حروب السعودية الإقتصادية: زيادة
الإنتاج الى اقصى حد لتنخفض الأسعار، تنفيعاً للغرب وإضراراً
بالخصوم؟
لا توجد مبررات سياسية أو أخلاقية في الحروب التي انخرطت
فيها السعودية، وربما لهذا السبب ارتدّت عليها سلباً وخسائر
باهضة الثمن.
|