السعودية: ريادة المرأة في الربيع الآتي
خالد شبكشي
نيتشة، الخصم اللدود للمرأة، وفي رد فعل
على تجربة ذاتية، يلفت إلى نقطة جوهرية في صراع الأقوياء
والضعفاء، فهو يعتبر الضعفاء أكثر نباهة، لأنهم بحاجة
إلى الحذر، والحيلة، والسيطرة على الذات. في الثقافة الشعبية
المصرية (يوضع سرّه في أضعف خلقه)، وهنا فقط يمكن أن نشهد
أن شيئاً ما يولد من ضدّه. وفق هذا التفسير فحسب ندرك
معنى فريداً لعبارة “تحويل الضعف إلى فرصة”، فالمرأة في
السعودية تصبح قوة تغيير جبّارة، إذا ما ركلت أحكام التحريم
الكنسي الصادرة عن السياسي والديني على السواء، بهدف تأبيد
حرمانها السياسي والإجتماعي والاقتصادي.
المرأة في وعي المسكونين بالوصمة الأنثوية يرون فيها
كائناً ناقصاً، قاصراً، شرّيراً. في كلمة للأمير نايف
أمام مدراء هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في
20 أيلول (سبتمبر) 2006، وفي ردّه على مطالب المرأة في
السعودية وجّه نقداً لاذعاً لمن أسماهم بـ (المتغرّبين)
وقال بأنهم (يريدون أن يدفعوا بها ـ أي بالمرأة ـ الى
المراقص والملاهي). لم يكن التصوّر الذكوري للأنثى يتجاوز
هذا المستوى من الإبتذال، كيما يقرر ما إذا كانت المرأة
لم تخلق من الضلع الأعوج للرجل، وبالتالي انعتاقها التام
من هيمنته. فما يراد من المرأة لدى المهووسين بحراسة الفضائل
المزعومة إطفاء كل محرّكات الوعي كيما تلغي كائنيتها وتصبح
«متاعاً» تكميلياً في بيت الرجل، ودولة الرجل أيضاً.
يتصعّد مستوى الحراك النسوي وفقاً لمستوى التصاعد المتسارع
في حركة الوعي بحقوق المرأة بوصفها الفاعل الأكثر حرماناً
وتغييباً عن مضمار التغيير الاجتماعي والسياسي والفكري.
في مقابل التشويه المتعمّد من قبل النظام السياسي الذي
لا يزال يتوسّل طرقاً في طلاء صورته أمام العالم عبر (إعادة
تسليع) المرأة كحاضر ثانوي في المشهد رغبة في إقناع الحلفاء
والأعداء بأن ثمة تحوّلاً في الموقف والرؤية لدى النخبة
الأشد تخلفاً وعناداً، تبرز المرأة الناشطة والفاعلة في
ساحلة الفعل الحقوقي والسياسي والانساني كقوة رفض لكل
أشكال الابتذال التي تتبعها الحكومة لجهة تشوية حركتها
ودورها ورسالتها.
في مقابل الإنتقادات الواسعة والمتواصلة التي يتعرّض
لها النظام التسلّطي السعودي في مجال حقوق الانسان واضطهاد
المرأة والاقليات، فإن الفريق الدبلوماسي المضطلع بمهمة
إعادة بناء وتعزيز العلاقات العامة في أوروبا والولايات
المتحدة كان يحاول تعتيم الرؤية السائدة في العالم حول
النظام السعودي كدولة مصنّفة في خانة الدول المثيرة للقلق
والراعية للإرهاب وأكثر الدول اضطهاداً وانتهاكاً لحقوق
الانسان، تغيب فيها أدنى التشريعات المتعلقة بحقوق المواطنين،
ويزاول فيها الحكام شكلاً متخلفاً وإستبدادياً في الحكم..
وهذا مبرر كاف لتخصيص فرق العلاقات العامة الجزء الأكبر
من المال والمجهود الدبلوماسي لتخفيف حملة الإنتقادات
الواسعة ضد العائلة المالكة..ولربما نجحت أموال البترودلار
بصورة مؤقتة في إسكات من يطمع في الحصول على نصيب من المال،
ولكن لم تفلح تلك الأموال في إقناع أحد، فقد تواترت التقارير
الحقوقية الدولية والتي تكشف عن واقع مرير في مجال حقوق
الإنسان والمرأة والحريات العامة..
من الملاحظات المثيرة للدهشة أن يلوذ الأمراء بطريقة
مفضوحة في الدفاع الذي يفتقر إلى أدنى مقوّمات الصدقية.
فليس هناك من يجادل في أن الجهاز الأمني في السعودية هو
الأكثر نشاطاً وسطوة بالقياس إلى باقي الأجهزة الدولتية،
تماماً كما ليس هناك من يجهل ممارسات التعذيب الوحشية
في المعتقلات السعودية، وبالتالي فإن إنكار هذه الحقيقة
لا يعدو أكثر من تسفيه للوعي وابتذال رخيص لإدراك أقل
الناس إطلاعاً بأحوال هذا البلد. في تصريح مثير للسخرية
لسفير السعودية السابق في لندن ورئيس الاستخبارات العامة
السابق الامير تركي الفيصل لصحيفة (الشرق الاوسط) في التاسع
عشر من مايو 2006. يقول ما نصه: (إن التعذيب محرم في السعودية
شرعاً وتطبيقاً، وانه لا يجوز لأي مسؤول أمني أو غير أمني
أن يستعمل أدوات ووسائل التعذيب في أي إجراء يتخذه مع
أي شخص مواطن أو غير مواطن).
تصريح كهذا لا يعدو أن يكون استخفافاً بعقول الناس
وبالمنظمات الحقوقية الدولية، لأن آثار التعذيب التي ظهرت
على أجساد المعتقلين السياسيين كانت واضحة وتقدّم دليلاً
دامغاً على أن الدولة التسلّطية مازالت تنفّذ سياسات مناهضة
لحقوق الانسان، والمرأة، والأقليات، والعمال الاجانب..إنها
بكلمة دولة (مثيرة للقلق)، ولا يمكن التعويل عليها في
صون حقوق المرأة وكرامتها.
فالمرأة تقترب اليوم وبمحض وعيها وإرادة الفعل المتفجرة
في مسارها نحو أهداف كانت محرّمة، ولا تعبأ كثيراً بدعوى
(التدرّج) و(العادات الاجتماعية) التي باتت أدوات النصب
السياسي لدى الطغاة..من يعيد تشغيل الاسطوانة المشروخة
هذه اليوم يثبّت وصمة الانحياز الى الاستبداد، سواء كان
من السلطة أو المجتمع أو حتى النخبة الثقافية..لأن من
غير المنطقي أن تتسع الهوّة بين حلم المرأة وواقعها الى
حد القبول بالانحباس في الحلقة المفرغة في نقاشات بقيت
ومازالت عقيمة..فلا أجهزة الدولة تدرّجت وجدّدت في هياكلها،
ولا المرأة وقفت عند مطالب متواضعة كانت تناضل من أجلها
ودفعت من سمعتها وأمنها وخبزها ثمناً باهظًاً، حين خرجت
مجموعة من النسوة في بداية التسعينيات للمطالبة بقيادة
السيارة..
|
حينذاك، كانت الفتاوى وبيانات التشهير ومواقف السلطة
لا تقل رعونة عن سياسات الاستبداد الدارجة في كل أرجاء
العالم العربي، ولم تكن سوى أداة ضبط ايقاع الفعل التسلطي
لطغاة العصر..أولئك الذين لجأوا الى تصوير الفعل الاحتجاجي
النسوي عبر قيادة السيارات في شوارع الرياض لم يفطنوا
الى المضمر لهم في قادم الأيام، فتعضيد المستبد يعني في
أحد أبعاده: إعانة الظالم على الذات، وقد فعل ذلك، عبر
اللعب في حلبة التناقضات الاجتماعية والسياسية والايديولوجية..
تجاوزت المرأة اليوم حواجز نفسية واجتماعية وأمنية
جمّة، ولم تعد تنتظر مساندة من أحد إن كانت الكلفة سوف
تكون المقايضة على حقوقها الاساسية. نعم، هي تفرض واقعاً
عبر تكسير القيود الاجتماعية المصنّعة خصيصاً لتدعيم الاستبداد
السياسي، فلا يكّف الطاغية عن البوح مرة بعد أخرى بأن
ما يمنع من منح المرأة حقوقها هو المجتمع، وكأن الأخير
حاز كل ما يأمله في السياسة حتى تنال المرأة حقها في السياقة.
تفريق مقرف، أعلم ذلك، فالفصل بين المجالين العام والخاص
على أساس الجنس بدعة سعودية بامتياز، ولماذا يدفع المجتمع
بكل مكوّناتها ضريبة توظيفها حين الاستحقاق السياسي والاجتماعي..؟
لأول مرة في تاريخ الدولة الراهنة، تستقل المرأة في
صنع نموذجها الذي تريد نقله للخارج في مقابل النموذج التسويقي
الذي تعمل السلطة عليه للمرأة، عبر إشراكها في الوفود
الرسمية كيما تكون (بوقاً) فارغاً للنظام، وللترويج الدعائي
لمنجزاته المتخيّلة في السياسة بالدرجة أساسية وفي التنمية
ثانية..صدّق البعض كذبة أن الديمقراطية الفرنسية العريقة
سوف تفيد من تجربة مجلس الشورى السعودية (إنه المال ياصاحبي
يفعل كذبه في أعرق ديمقراطيات الغرب).
الناشطات الحقوقيات اللاتي شاركن في مؤتمرات دولية
ومنتديات ثقافية وحقوقية في عواصم أوروبية أثرن إعجاب
الجمهور الآخر، الذي وقع إما تحت تأثير إمبراطورية الدعاية
السعودية وإما التعتيم الاعلامي الذي أبقى (مملكة الصمت)
مجهولة أمام شعوب العالم..لم تتغير الصورة النمطية كثيراً
قبل بزوغ فجر النشاط النسوي المستقل، فشيوخ النفط والرمل
الأصفر والجمال مكوّنات لتلك الصورة التي بقيت راسخة حتى
وقت قريب، قبل أن تخرق أصوات الناشطات حاجز الصمت، وتعيد
رسم الصورة بمكوّنات أخرى مختلفة ومتطوّرة..
حديث الملك عبد الله العام الفائت عن مشاركة مؤجلة
للمرأة في الانتخابات البلدية طوي سريعاً، وشأن أحاديث
سابقة لا يتوقف الاصلاحيون ذكوراً وإناثاً عندها طويلاً،
فلم يعد الملك ولا بقية أفراد أسرته محط آمال وتطلعات
المجتمع، فقد تشققت الساحة المحلية عن قوى اجتماعية وسياسية
ناهضة تعمل على تغيير الواقع عملياً، وبالدم أحياناً كما
يحدث في منطقة القطيف..
اليوم بات زمام المبادرة بيد المرأة أكثر منه بيد السلطة،
وبإمكانها أن تغيّر معادلات كبرى بقيت سائدة ردحاً من
الزمن، وتعبّر عن رغبة لدى المرأة في تجاوز الاحباط الموغل
في سياسات الدولة تجاهها..
دعاوى تحرير المرأة بحسب التصوير الأيديولوجي والسياسي
تفقد مفعولاتها التحريضية، لأن ثمة تهمة وتعريضاً بنساء
المجتمع، وإن قيام السلطة بالترويج لمثل هذه الدعاوى تستبطن
قطيعة مع المجتمع نفسه. بكلمات أخرى، إنها سلطة لا تنتمي
لمجتمع تحرّض عليه وتنال منه حين تتّهم المرأة المطالبة
بحقوقها بأنها داعية انحلال وسفور..
المرأة تتحول الآن الى فاعل ريادي في حركة التغيير
الاجتماعي والسياسي، وتستقل في صوغ الرؤية الحقوقية الخاصة
بها، وبالتالي تفرض النموذج الذي تريد أن تكونه، لا الذي
تفرضه القوى الظلامية والاستبداد السياسي والديني..
تراجع منسوب الحضور الاجتماعي للخطاب المناهض لحقوق
المرأة، وكان ذلك متوقعاً في ظل ثورة حقوقية شاملة تغمر
عالمنا المليء بالانتهاكات لحقوق الانسان عموماً ولحقوق
المرأة على وجه الخصوص. وفي نهاية المطاف، فإن الحقوق
تتجسد، كما هي العادة السيئة في دولة التسلط واللاقانون،
في الواقع قبل أن تصبح قانوناً مكتوباً. اعتاد النظام
التسلطي التعاطي مع حقوق الناس بطريقة سوقية، وبحسب ميزان
القوى، وبإسلوب إرخاء الحبل، فإن قدر على شدّه في لحظة
خنق الحقوق وحرم المجتمع منها فعل، وإن عجز عن ذلك سمح
بها مؤقتاً متحيّناً فرصة التراجع عنها..ولكن، ذاك كان
تاريخاً، ولن يعود للوراء..
يتحقق اليوم ما يخشى منه النظام التسلطي السعودي، لأن
مصادر قوته تتهاوى على نحو متسلسل وبوتيرة متسارعة، وإن
لجوءه الى القوة المفرطة وأشكال التهويل الباعثة على الشفقة
في أحيان كثيرة، ينمّ عن أن السلطة لم تعد هي ذاتها، وأن
الخوف المتضخم لدى الطبقة الحاكمة يدفعها لاقتراف حماقات
قاصمة..
وأكبر حماقة يمكن تخيّلها أن تقدم أجهزة الأمن السعودية
على مواجهة تظاهرة نسائية سلمية..هو يحاول، دون شك، تفادي
حادثة من هذا القبيل، ويأمل ألا تتجمع النساء في تظاهرة
بأحجام كبيرة للمطالبة بحقوق سياسية واجتماعية، ولذلك
فإنه يعمل بمثابرة غير عادية لإقناع بعض المفاصل الفاعلة
في النشاط النسوي الحقوقي بعدم الإقدام على أفعال من هذا
القبيل لأن في ذلك (إسداء خدمة) للأعداء، وقائمة الاعداء
لدى المستبد لا تنتهي!
المنظمات الأهلية التي تقودها النساء لا تزال مقتصرة
على شكلها الثقافي والاجتماعي والفني والتجاري، ولكن شأن
كل منظمات المجتمع المدني تصبح قابلة للتسييس في أوضاع
تتطلب نقلة سريعة لحظة الاستحقاق الاجتماعي والسياسي..وتسعى
السلطة مواكبة التحوّلات الاجتماعية بهدف احتواء مطالبها
وتوجيهها بما يخدم تماسك السلطة المستبدة واستمرارها.
لاشك أن متغيّرات جوهرية حصلت في حركة المرأة، ورسمت
مساراً وسمات مرحلة جديدة لا يمكن التراجع عنها، لأسباب
عديدة منها أن وعي المرأة وفعلها باتا في مكان آخر، فلا
المرأة هي المرأة التي كانت قبل عقدين دع عنك قبل عقود
خلت كانت فيها المرأة جزءً من متاع البيت وأداة طبخ وغسل،
ولا السلطة هي السلطة تهيب الناس بقمعها وجبروتها، رغم
أن آلة التخويف مازالت بيدها ولكن مفعولها لم يعد هو ذاته،
فالكرامة والحقوق باتت عناوين تستحق التضحية والفداء..
حقيقة كبرى بات من السهل رؤيتها، أن المرأة لا يمكن
أن تنكسر إرادة وفعلاً، لأن ما تجاوزته من عقبات دفعت
ثمنه مقدًماً من تضحيات بالوظيفة، وبالأمن الشخصي، وبالسمعة،
وبالمقام الاجتماعي، وبالتالي ليس هناك المزيد لتخسره،
سوى الموت، ولا أظن من خسر كل أدوات الحياة العادية يخشى
الموت.
|