الدولة الطاردة
حين نضطر الى تعريف الاشياء بأضدادها تصبح الدولة الطاردة نقيضاً
للدولة الحاشدة، أي تلك التي تملك من أدوات تعبئة وحشد الجمهور بما
يمنحها قدرة على تحقيق أغراضها، ومشروعيتها، وسياساتها. إن القدرة
على حشد الجمهور ليست متوقفة على شكل النظام السياسي السائد في هذا
البلد أو ذاك، ففي أعتى الانظمة الديكتاتورية هناك آليات حشد قد تكون
قهرية وأحياناً طوعية، نظراً الى سطوة الشحن الايديولوجي الكثيف،
والثقافة الحزبية، وأيضاً القنوات الحكومية النشطة المكلّفة بممارسة
دور حشدوي. بيد أن الفارق الجوهري بين الأنظمة الديكتاتورية
والديمقراطية يكمن في أن الأولى تستطيع إخراج الجمهور الى الشوارع
تأييداً للزعيم، وتسوق العناصر الى الدخول في حروب الدولة ضد خصومها
في الداخل والخارج، ولذلك تتجسد قدرة الدولة على الحشد في خروج
الاعداد الكثيفة من الناس في المظاهرات، ولكن الحال بالنسبة للدول
الديمقراطية مختلف حيث أن الحشد يعكس نفسه في الحملات الانتخابية وفي
برامج المتنافسين على الرئاسة، فيما تلعب الديمقراطية والمؤسسات
التعليمية والاعلامية والثقافية دوراً كبيراً في الحشد.
بالنسبة للسعودية فإن قصة الحشد مختلفة، فقبل نشأتها بقليل كانت
جهود الحشد لدى القائد السياسي مكرّسة لبناء مقاتلين مسلّحين برؤى
دينية خاصة، ذات صلة وثيقة بمشروع الدولة، أي بغزو المناطق واحتلالها
وربطها بمركز السلطة، ولذلك كان الضخ الايديولوجي منصبّاً على حشد
الاتباع لانجاز مهمة إنشاء الدولة، وإضفاء المشروعية الدينية عليها.
وبعد نشأة الدولة لم يتم استبدال خطاب الحشد القديم بل أبقي على
فورانيته كما هو (إقليمياً ومذهبياً)، هكذا كان في التعليم،
والاعلام، والسياسة والدين، ولذلك عجز هذا الخطاب عن أن يصنع أنصاراً
(أو موالين وهو الوصف المفضّل لدى العائلة المالكة)، لأنه يفتقر الى
متطلبات الحشد، كمن يطالب الضحايا بالاصطفاف خلف الجلاد. فالثقافة
التي أريد إشاعتها منذ بداية نشأة الدولة كانت نابذة وطاردة ومقسّمه
للمجتمع، وبهذا فإن الدولة نفسها قررت ضمنياً المساحة الجغرافية
والاجتماعية التي يجب لهذه الثقافة أن تمارس فيها دور الحشد.
ولأنها نموذج بارز لدولة الفرص الضائعة فإن التحديث الاقتصادي،
وما وفّره من فرص تاريخية لبناء خطاب وطني يسمو على الثقافات
الفرعية، أسيء استغلاله بدرجة مثيرة، وبدلاً من أن يزوّد الدولة
بطاقة حشد مختلفة وفاعلة، أصبح التحديث عنصراً طارداً جديداً، من
خلال التوزيع غير المتكافىء للثروة والعمران والخدمات والوظائف. لقد
بات معروفاً بأن إنجازات الدولة في المجالات المتصلة برفاهية الرعايا
كفيلة بمزوالة مهمة حشد الانصار، فهي ـ الانجازات تعكس شعار الدولة
لحظة تجسيده، أي تحويل الأقوال الى أفعال، وبالتالي فإن الفعل يكون
في تأثيره وقوته الحشدية أقوى من القول، وخصوصاً تلك الاقوال المتصلة
بوعود مؤجّلة وممجوجة، كما هو الحال في موضوع الاصلاح السياسي هذه
الأيام.
إن إعادة حشد المجتمع تبدو لكثيرين وكأنها مجرد حلم الآن، وفي كل
الأحوال لا يمكن أن ترد في الوقت نفسه الى إبتكار حلول أيديولوجية إذ
لم تعد المشكلة مقتصرة على بعد واحد لأزمة الدولة، كيف وأن هذا النوع
من الحلول قد تسبب فيما مضى في فصل الغالبية العظمى من السكان عنها.
فالحشد الشعبي القائم على أساس أيديولوجية دينية وحتى سياسية يتعارض
الآن مع مسار الحل الذي تسلكه هذه الاغلبية، التي وجدت في ايديولوجية
الدولة عائقاً أمام ازالة إنسداد الأفق السياسي للبلاد.
وحتى الخطاب الوطني الذي تم تصنيعه مع بداية إنكسار الدولة أصبح
باهتاً وبلا مفعول حشدي، إذ بات ينظر اليه بوصفه محاولة مفتعلة من
قبل الطبقة الحاكمة من أجل ترميم ما تهدم في بنية الدولة. فالقوى
السياسية والاجتماعية قد دخلت حلبة المنافسة مع الدولة على حشد
الشارع، المثخن بجراح إقترافات الدولة وبالتالي فإن التعويل على خطاب
وطني لحشد الاتباع خلف الدولة أصبح من نصيب تلك القوى التي سيطرت ـ
جزئياً على الاقل ـ على أدوات الحشد التي بيد الدولة وتستعملها من
أجل إيصال بلاغها السياسي لقطاع واسع من الجمهور. لقد مارست الدولة
السعودية دوراً طارداً طيلة تاريخها المعاصر، حتى طال هذا الدور
القاعدة الشعبية في مركز السلطة، فقد تآكلت هذه القاعدة على نحو سريع
خلال أقل من عشرين عاماً، وأن مصادر تهديد إستقرار وبقاء السلطة باتت
قريبة منها ومن المصنّفين في قائمة الموالين، الذين كانوا يخضعون تحت
تأثير ثقافة حشد متواصلة.
فهناك اليوم ما يشبه المعادلة العكسية، فكلما ازداد التلاحم أو
التنافس الداخلي بين الطبقة الحاكمة، كلما ازدادت القطيعة والتنافر
مع المجتمع، وكأن تأثيرات هذا الحشد باتت محصورة في حدود العائلة
المالكة نفسها التي تشعر بالعجز الآن أكثر من أي وقت مضى عن الحفاظ
على مركز السلطة. فالتمزق المتواصل في نسيج الدولة يطيح بأدوات الحشد
التقليدية كما الحال بأدوات مفتلعة مصنّعة لأجل دفع الأجل المحتوم،
إذ تصبح خيارات الحشد مفتوحة أمام الجميع.
إن الاعتقاد بالتفوق الساحق السياسي والايديولوجي للدولة قد تبدد
في فترة قياسية، وتبعاً له تبددت آليات الحشد والتعبئة. فالذين
طردتهم الدولة في فترة تفوقها ليسوا على إستعداد للعودة اليها الآن
وهي في مرحلة الهرم والشيخوخة، وليس هناك ما يمكن وصفه بـ (إغراءات
الحشد) كيما تجتذب الدولة أنصاراً لها، فهي تطرد الآن أكثر مما تحشد،
ليس لأن عوامل الطرد في الوقت الراهن تفوق عوامل الحشد فحسب، بل لأن
الطبقة الحاكمة مصّرة على التمسك بخطاب طارد، حتى في زمن اضمحلال
تأثيرات أية خطابات حشدية أخرى. |