دور المذهبية في إضعاف السياسة الخارجية السعودية
ارتبطت السياسة الخارجية السعودية بالعنصر الديني منذ نشأتها،
فكان الملاحظ عليها مذ نشأت الدولة أنها اعتمدت على المذهبية
الوهابية في تصنيف الدول، أي على أساس القرابة الدينية فيما يتعلق
بالدول العربية والإسلامية لا على أسس الدين الجامع (الإسلام)
والمصالح المشتركة وحسن الجوار. وكان الهدف الديني السعودي عنصراً
متميزاً في تأكيد مبادئ
الدولة، ولكن هذا لا ينطبق بأية حال على الغرب، أي على العلاقات مع
الولايات المتحدة وبريطانياً مثلاً. فالدين لم يكن فاعلاً أو مؤثراً
في تلك العلاقات، وإنما استخدم الدين ضد الأقربين تصنيفاً واختراقاً!
واحدة من أهداف السياسة الخارجية السعودية كان ولايزال ـ حتى
إشعار آخر ـ مرتكزاً على نشر المذهبية الوهابية، فالسعوديون ومنذ
نشأت دولتهم الحديثة، رأوا أن من واجب (الدولة الدينية)، أن تقوم
بنشر المذهب، فهو بالنسبة لهم العربة التي تأتي بالولاء السياسي
والنفوذ الديني في الخارج، وكأنهم يحيون تجربتهم الداخلية ويعكسونها
في علاقاتهم مع الآخر، مع أنها تجربة فاشلة في جوهرها. ولهذا تم
توظيف الدين بفعالية في السياسة الخارجية، ليس من زاوية مكافحة
الشيوعية، إرضاءً للغرب وبالخصوص الولايات المتحدة في صراعها الكوني
مع الشيوعية والإتحاد السوفياتي، وإنما تم توظيف الدين في نطاقه
الضيّق ضد جيران المملكة على أسس طائفية، وخاصة في العراق وإيران، في
مختلف العصور والعهود، بغض النظر عن طبيعة النظم القائمة هناك. فهذان
البلدان هما المسرح الذي يمكن للباحث أن يقرأ الرؤية المذهبية
السعودية ودورها في السياسة الخارجية.
بالنسبة لإيران مثلاً، فإن وجود حليف للغرب كالشاه لم يغيّر من
الموقف كثيراً، ليس لأن أطماع الشاه لا تحدّ، أو أنه كان منافساً في
الإطار الإقليمي لدور السعودية في تحقيق ما كان يعرف (أمن الخليج).
ذلك أن الولايات المتحدة ـ وفي عهد نيكسون ـ ابتدعت سياسة العمودين
المتساندين (ايران والسعودية) لتحقيق الأمن في الخليج ومكافحة
النزعات اليسارية في دول الجوار.. وإنما كان السعوديون يربطون بصورة
غير منطقية هواجسهم المذهبية بالفعل السياسي، حتى في فترة مكافحة بعث
العراق، حين اشتركت الدولتان إيران الشاه والمملكة في إخماد الحركة
الكردية بعد أن دعمتاها حتى توقيع اتفاقية الجزائر 1975.
وللحق، فإن السياسة الخارجية السعودية مدينة لعنصرها الديني في
صعودها كما في هبوطها. في صعودها استطاعت حشد التيارات الدينية
وبينها شخصيات وحركات إسلامية من كل بقاع العالم العربي والإسلامي..
حشدها في البرنامج الأميركي ضد الشيوعية. وحين تحوّل الخطر مذهبياً
بعد سقوط الشاه، لم تجد السعودية صعوبة في تحويل ذلك النشاط أشخاصاً
ومؤسسات ضد إيران، فالأرضية كانت مهيأة لكل ذلك، بسبب النزعة السلفية
التي فرضت على الخطاب الديني.
وإذا كانت المؤسسة الدينية المحلية الوهابية أبدت قدرة ضعيفة في
التفاعل مع متطلبات مكافحة الشيوعية لقصور فيها، فاعتمدت السياسة
الخارجية عناصر خارجية.. فإن تلك المؤسسة المحلية الوهابية استثيرت
طائفياً في أعقاب سقوط الشاه، وهي التي قامت بالنقلة النوعيّة من
تحويل النشاط الديني السعودي العالمي الذي كان في ظاهره معتدلاً، الى
نشاط طائفي صرف وبصورة حادّة. لقد سيطر الوهابيون المحليّون على ما
بُني من مؤسسات أثناء حرب الشيوعية، ونخلوا الموجود من الحلفاء،
ووجهوا المعركة طائفياً كما أرادتها الحكومة السعودية تماماً. ومنذ
بداية الثمانينات، يمكن القول أن التحوّل في التوجه الديني السعودي
الخارجي، ذي النزعة الطائفية الضيقة، هو الذي جعل العنصر الديني يلعب
فيما بعد دوراً عكسياً في إضعاف السياسة الخارجية السعودية، وجعل
وجهها كالحاً بين العالم.
لقد تخلت العناصر الخارجية الدينية المدعومة سعودياً عن دورها، أو
أُقيلت، وحلّ محلّها العنصر السعودي المحض، أي العنصر الوهابي ـ
المناطقي في الغالب ـ وهو اللصيق جداً برموز الحكم، وبالتالي أصبحت
تصرفات هذا العنصر محسوبة وبصورة مباشرة على نظام الحكم نفسه.
لقد طرأ التحوّل على العنصر السعودي في أفغانستان، وهناك أعيد
تشكيل ذهنيته، التي ساهم فيها ممارسة العنف ـ الجهاد ـ وما أن انتهت
الحرب في أفغانستان، حتى أصبح العنصر السعودي ممثلاً لأزمة بالنسبة
للحكومة ولسياستها الخارجية. لقد اندفع العنصر الديني السعودي في
اتجاه مخالف لمراد الحكومة، وأصبح يعمل في أكثر الأحيان بشكل مستقلّ
عنها، حاولت الحكومة ترويضه بالإقتراب منه ودعمه ومن ثمّ وضع الكوابح
له لكن ذلك لم يفد في المدى القريب أو البعيد، بل
استغلت العناصر المذهبية ذلك الدعم لتؤكد استقلاليتها وتبني على
الدعم الحكومي قواعد انطلاق جهادية في كل أصقاع الأرض.
فجأة وجدت الحكومة السعودية نفسها متهمة، حتى قبل أحداث الحادي
عشر من سبتمبر. متهمة بالتآمر على دول مختلفة في دول آسيا الوسطى،
حيث اتهم سعوديون بالإعداد لإنقلابات، وبتوتير الأوضاع الإجتماعية
سواء في طاجكستان أو غيرها. وفي روسيا نفسها وجدت الحكومة السعودية
في العناصر السعودية التي تشارك في حرب الشيشان أداة توتير للعلاقات
مع الدولة الروسية لم تحلّ حتى اليوم رغم زيارة الأمير عبد الله
الأخيرة. ذات الإتهامات وجه لدور السعودية في الحرب الأهلية في
الجزائر بدعم عناصر التشدد السلفي، وكذلك في مصر التي أفاضت صحافتها
في الإتهامات للسعودية، وحتى في باكستان التي كانت من أكثر الدول
تعرّضاً للهجمة السلفية الوهابية، والتي نرى نتائجها في معارك مذهبية
دموية تجري بين الحين والآخر.
وشيئاً فشيئاً بدأ الحديث يدور حول (الوهابيين) وحول (الوهابية)
ودورهما التخريبي في العديد من الدول. وأصبح النشاط السلمي القديم
الذي استنفذ أغراضه في مكافحة الشيوعية يطرح علامات استفهام في دول
عربية وأجنبية، وصار ينظر إليه بعين الريبة.
وما أن وقعت أحداث نيويورك وواشنطن، حتى تحركت الدول التي يتواجد
فيها نشاط ديني أو إغاثي سعودي لرصد فعلهم، ومراقبة تحركاتهم. بل حتى
العناصر التي والت النظام السياسي لأسباب مالية أصبح ينظر اليها بعين
الشك. المساجد والمراكز وغيرها المبثوثة في كل الدنيا أصبحت عبئاً
على كاهل السياسة الخارجية السعودية التي تواجه الإتهمات بالنفي وأن
لا صلة لها بها، وهي في أكثر الأحيان تعلم أن خيطاً ما مالياً أو
فكرياً يربط الجماعات والتوجهات السلفية بها.
في مصر، موريتانيا، بريطانيا، ألمانيا، أميركا، الباكستان، فرنسا،
الجزائر، العراق، الأردن، الشيشان، أفغانستان، أندونيسيا، الفلبين،
السودان، اليمن، دول الخليج عامة.. الخ. كل هذه الدول أدركت بأن ما
يأتي من السعودية هو الشرّ بعينه، وكل هذه الدول أخذت أو تسعى لأن
تحدّ من ذلك الشر القادم من السعودية.
وبهذا فقدت المملكة رصيدها السياسي الذي ابتنته على أكتاف الدين ـ
الوهابية، وأصبح ما أنفقته على الولاء السياسي المرتكز على خلفية
طائفية مذهبية عنصر توتير في علاقاتها مع الآخرين. في الماضي كانت
الحكومة السعودية تدعم كل التيارات السلفية في العالم، وهي لاتزال
تفعل بالنسبة للبعض حتى اليوم. ولكنها تجد نفسها الآن مجبرة على
تخفيض الدعم وإعلان النفرة من التيار ومن نشاطاته. بيد أن القضية
أكبر من أن تحل بإعلان براءة ساذج. فما تمّت تربيته من تطرّف ليس
بإمكان الحكومة السعودية اليوم ولا مؤسستها الدينية لا التنازل عنه
ولا كبح جماحه، حتى ولو أوقفت الدعم.
لقد شبّ الأتباع عن الطوق، وصارت لديهم مصادرهم المالية وأخذوا
يتحركون باستقلالية. لا شك أن الدولة الممولة يمكن الضغط عليها، ولكن
هل يمكن إخماد الفكر أو إعلان التنازل عنه، وهل يمكن منع التجار
السلفيين من دعم (الجهاديين) في كل مكان.
يمكنك اليوم ملاحظة حقيقة أن هناك سلفيين موّلوا وتربّوا فكرياً
في السعودية وكانوا موالين لها، أصبحوا اليوم ضد النظام الوهابي
ومؤسسته الدينية ولكنهم في نفس الوقت دعاة للوهابية وممثليها
المتطرفين في كل مكان.
الدين سلاح يمكن استخدامه من قبل أية جهة أو نظام أو فرد. هكذا
يعلمنا التاريخ. ولكن في نفس الوقت هو سلاح قابل للإرتداد على
مستخدميه في أي وقت. ومشكلة ال سعود اليوم هي أن الدين أصبح في حال
ارتداد ضدهم بعد أن خدمهم في مشروعيتهم وفي تصدير ثقافتهم وكسب
الولاء لهم. |