مع المفتي وجنوح فتاواه
عبد الوهاب فقي
لم نعتد في هذه المجلة التطرّق الى ما يمت بصلة للمقامات
الروحية من أي طائفة أو حتى دين، لاعتقادنا بأن لهذه المقامات
احترامها وتقديرها وسط جمهور من الأتباع، ونعتقد جازمين
بأن من المروءة والنبل النأي عن كل ما يسيء الى الشخصيات
الدينية التي تكرّس علمها وجهدها ووقتها للارتقاء بالقيم
الروحية للمجتمع ورفع مستوى وعيه بالقضايا العامة التي
تتصل بمصالح الأمة. غير أننا في الوقت نفسه نجلّ المقامات
الروحية عن التعصيم والتصنيم، فهي مهما بلغت من درجات
عليا في العلم والتقوى تبقى محكومة بقوانين الخطأ والصواب،
لأنها بشر مثلنا. ولذلك، فإن المقولة الدارجة بأن لحوم
العلماء مسمومة، المستمدة من قول لابن عساكر الدمشقي في
كتابه (تبيين كذب المفتري ص 29)، والذي حملها البعض على
كونه حديثاً نبوياً، لا يجب أن تأخذ أبعاداً دينية، كالذي
دفع بالبعض الى اعتبار غيبة العلماء بمثابة توهين للدين
والشريعة، والعكس صحيح.
نقول بأن تقدير وتوقير وتبجيل العلماء لا يتعارض البته
مع عرض أقوالهم على الأصول والثوابت من الحق، وكل قول
هو قابل للرد الا كتاب الله سبحانه وماثبت من سنة رسوله
المصطفى صلى الله عليه وسلم. وإن العلماء حين يتحوّلوا
الى شخصيات عامة ويناقشون في قضايا خلافية ليس فيها نص
ديني ثابت، فإنهم، شأن غيرهم من بني البشر، قد يخطئون
وقد يصيبون. ولأن الفقهاء موكلون بتقديم أحكام في الموضوعات
الواضحة، وبالتالي فإن خطأ العالم في التشخيص يفضي بالضرورة
الى خطأ في الحكم على الموضوع. وهناك حالات عديدة أفتى
فيها العلماء في موضوعات هي غير مشخّصة بشكل دقيق، ما
أوقع الجمهور في التباسات.
المفتي العام للمملكة، وهو منصب استحدثه الملك فيصل
في سياق محاولة لتنظيم عمل العلماء وربط قيادة المؤسسة
الدينية بشخصية قريبة منه، وهو ما لم ينله، لأن المفتي
الشيخ محمد بن ابراهيم آل الشيخ عرف بقوة الشخصية والشجاعة
في البوح بمواقفه، ولم يكن يقبل كل ما يعرض عليه من موضوعات،
وقد اشتهر بكتابه (تحكيم القوانين) الذي عبّر فيه عن رفضه
لكثير من قوانين الدولة باعتبارها قوانين وضعية وليست
مستمدة من الشريعة، ما أثار عليه الملك فيصل وأخوته، ومع
ذلك بقي الشيخ بن ابراهيم متمسّكاً بمواقفه حتى النهاية،
وقد شكّل كتابه مرجعاً لأولئك الذين انتقدوا الدولة السعودية
التي راحت تستعير قوانين مدنية لتضع حائلاً بين أحكام
شرعية يتولى علماء المؤسسة الوهابية إصدارها وأحكام مدنية
مستمدة من تشريعات حديثة فرنسية وبريطانية واميركية..
لم يستجب الشيخ محمد بن ابراهيم لكل ما كان يطلبه فيصل
منه، رغم وقوف الأول مع الأخير في الصراع على العرش واصداره
فتوى بعزل الملك سعود وتأييد فيصل لاعتلاء العرش لما فيه
مصلحة البلاد والعباد.
وبسبب القوة التي كان يتمتع بها الشيخ محمد بن ابراهيم،
قرّر الملك فيصل تشكيل هيئة كبار العلماء كيما يستطيع
التحكم في أعضائها وبقي الحال كما هو عليه حتى تعيين الشيخ
عبد العزيز بن باز سنة 1984 في عهد الملك فهد، فيما اختار
الأخير لنفسه لقب (خادم الحرمين الشريفين) لمواجهة استحقاقات
ما بعد نجاح الثورة الايرانية سنة 1979، وظهور حركة جهيمان
في مكة المكرمة في نوفمبر 1979.
الشيخ بن باز، رغم ما يقال عن تماهيه مع السلطة، إلا
أنه اختار عدم الانغماس في شؤون السياسة الا بالقدر الضئيل
وغير المكلف، ونادراً ما كان يدلي برأي في شأن سياسي باستثاء
موضوعات محددة وكبرى مثل الصلح مع الكيان الاسرائيلي،
وحكم استقدام قوات أجنبية، والموقف من القومية العربية
وموضوعات أخرى قليلة. صحيح، أن للشيخ بن باز مواقف إزاء
طوائف إسلامية مثل الشيعة والصوفية والأباضية وغيرها وهي
مواقف درج علماء المذهب على اطلاقها كجزء من التزامهم
العقدي..
في 29 محرم 1420هـ الموافق 15 مايو 1999، صدر الأمر
الملكي رقم أ/20 بتعيين الشيخ عبد العزيز بن عبد الله
آل الشيخ مفتياً عاماً للمملكة ورئيسا لهيئة كبار العلماء
والبحوث العلمية والإفتاء بعد وفاة الشيخ عبد العزيز بن
باز. وكان الشيخ عبد العزيز خطيباً وإماماً في جامع الشيخ
محمد بن ابراهيم بعد وفاته سنة 1389هـ، الا أنه كما يبدو
لم يقتف أثر أستاذه في العلاقة مع الحاكم..
في 29 محرم 1420هـ الموافق 15 مايو 1999، صدر الأمر
الملكي رقم أ/20 بتعيين الشيخ عبد العزيز بن عبد الله
آل الشيخ مفتياً عاماً للمملكة ورئيسا لهيئة كبار العلماء
والبحوث العلمية والإفتاء بعد وفاة الشيخ عبد العزيز بن
باز. وكان الشيخ عبد العزيز خطيباً وإماماً في جامع الشيخ
محمد بن ابراهيم بعد وفاته سنة 1389هـ، الا أنه كما يبدو
لم يقتف أثر أستاذه في العلاقة مع الحاكم..
ورغم عدم وجود صراع أجنحة حاد وظاهر أو حتى استقطاب
سياسي واضح، فإن المفتي بدا كما لو أنه محسوب على جناح
الملك، في مقابل علماء آخرين يصطفون الى جانب الجناح السديري
أو ماتبقى منه..المفتي اليوم هو في معادلة العائلة المالكة
ممثل لمصالح جناح فيها، ولكن ليس بالضرورة أن يعلن ذلك
صراحة.
لاريب أن هناك من الأمراء الكبار من يريد تحويل منصب
المفتي الى مجرد أداة ختم للمصادقة على كل سياسات ومواقف
السلطة، وأن يقتصر تدخل المفتي في السياسة على مجرد المباركة
وليس إبداء الرأي..
المفتي الحالي أدلى بمواقف مثيرة في قضايا خلافية،
ولم يكن مضطراً لفعل ذلك، ولا ندري إن كانت هناك جهة ما
في السلطة تدفعه لذلك، وإن حدث فإنه يضرّ أيما إضرار بمقام
المفتي، لأن الأخير يفترض أن يكون مصوناً ومحترماً من
أي محاولة ابتزاز أو ابتذال من أي جهة كانت.
لم يكن المفتي مضطراً لأن يتحدّث عن قضايا خارجية،
كأن يفتي في الثورة الشعبية في تونس ومصر كيما يطابق موقفه
موقف السلطة، رغم أن الموقف الديني في مثل هذه الحادثة
لم يكن مطلوباً، لوجود علماء دين كبار في بلدان المسلمين
ممن لديهم القدرة على ضبط الاحكام واستنباطها بناء على
تشخيص دقيق للواقع..
المفتي لم يقتصر في الافتاء على الموضوعات التقليدية
التي قد يعذر فيه الخطأ الطفيف في الفهم، ولكن أن يخوض
المفتي في موضوعات حديثة وذات أبعاد متشعّبة، لمجرد أن
للحكومة موقفاً منها رغم أن الالتباس فيها شديد، ويتطلب
المزيد من التأني والتريّث، قبل الحكم عليه بحيث يبعث
على التندّر أحياناً..
في الصحافة هناك من اختار عناوين لمواقف المفتي بعناية
فائقة، كما لو أن من اختارها أراد التشهير بالمفتي أكثر
من كونه اختياراً لعنوان بخلفية صحافية. ففي 25 أكتوبر
الماضي نشرت الصحافة خبراً بعنوان (مفتي السعودية يشن
هجوما حادا على المطالبين بدولة مدنية). هجوم المفتي لم
يكن في مسجده الخاص بالرياض، ولا في مقابلة مع صحيفة محلية،
وإنما أطلقه أمام مئات الآلاف من الحجاج في جبل عرفات
حيث ألقى المفتي خطبة شنّن فيها حملة عنيفة على المطالبين
بدولة مدنية. وفي مسجد نمرة ندّد المفتي بــ (شعار في
هذا الزمن بين المسلمين يدعو الى دولة مدنية ديموقراطية
غير مرتبطة بالشريعة الاسلامية وتقر الكثير من المنكرات
(...) وهذا بلا شك ينافي تعاليم الاسلام ويخالف الكتاب
والسنة واصول الشريعة). وأضاف إن (شرذمة من البشر تحاول
الطعن في هذا الدين بحجج واهية وشعارات زائفة. بدعوى الحرية
زعموا أن الدين لا يصلح لهذه الحالات واعترضوا على القصاص
والحدود لانها تنافي حقوق الانسان (...) وان الامة الاسلامية
اذا طبقت الشريعة انطوت عن الامم الراقية وتقوقعت).
لا ريب أن ما ورد في خطبة المفتي لم يكن دقيقاً على
الإطلاق، وليس هناك من طعن في الدين، وأن الاحتجاجات التي
أوردها في كلمته تنتمي الى فترة سابقة، هو يدركها تماماً
وليس هناك من يثيرها في ميادين الربيع العربي، التي امتلئت
بالمصلين وغير المصلّين ولكن من غير المناهضين للأديان،
بل كانوا يطالبوا بدولة ديمقراطية تحقق فيها العدل والمساواة
للجميع ويقر فيها مبدأ المواطنة.
وذهب المفتي بعيداً في طرق بعض الموضوعات الحاضرة أو
السابقة، رغم أنها موضوعات مستهلكة ولم تعد تكتسب أهمية
كبيرة، ولكن قد يبدو من كل ما قاله مهماً رغم أنه قيل
في سياق منقطع، وأنها كلمة تستحق الوقوف طويلاً، كقوله
هناك (أموال مودعة لمسلمين في غير الدول الاسلامية ما
ساعد على نمو اقتصادها وتقدمها، فلو كانت تلك الاموال
في بلاد الاسلام لادت لنمو اقتصادها واقامة مشروعات تفيد
الامة (...) ومعالجة الفقر والتخلف والبطالة).
ولكن السياق المبتور في خطاب المفتي يجعل من غير المؤكّد
التزامه بخط سياسي ثابت ومتماسك، فقد اعتنق في خطبة لاحقة
مواقف مذهلة كونها خلطت ما هو حق وحرية وبين ما هو محظور
سياسي وأخلاقي وهنا ما يؤكّد على أن إدراك الموضوعات بدقة
ضروري لجهة فهمها قبل الحكم عليها..
فقد نشرت الصحف كلاماً لافتاً للمفتي حول الظهور على
الفضائيات ومناقشة قضايا عامة والتي اعتبرها (خيانة وجريمة
كبرى وإعانة لأعداء الإسلام). وكانت صحيفة (عكاظ) قد نشرت
في 10 نوفمبر مقتطفات من خطبة الجمعة للمفتي بجامع الإمام
تركي بن عبد الله في الرياض حرّم فيها الاتصال بالقنوات
الفضائية الاجنبية، وقال بأن (هذه القنوات مغرضة هدفها
نشر الفوضى والفتن في بلاد المسلمين ولا هم لها إلا تفريق
الصفوف وضرب وحدة الأمة). وفرض طريقة شرعية وحيدة لإيصال
الرأي الى المسؤول وهي (الكتابة إلى المسؤولين وإيضاح
ما لدى أي فرد من ملاحظات أو مرئيات، وأن نشرها وإعطاءها
للقنوات المغرضة ضرب من الخيانة وجريمة كبرى).
وحذّر المفتي من جهة ثانية (من التستر على المجرمين
أو إيوائهم أو من يحاولون الإخلال بالأمن أو تنظيم الاغتيالات)،
موضحا أن ذلك (لا يجوز ويعد خيانة وإعانة لأعداء الإسلام)؛
مطالبا بإبلاغ الجهات المختصة عن هؤلاء لدرء أخطارهم،
ومنع وقوع الجرائم).
وعلى ما يبدو فإن قائمة الاسرار التي يتحدث عنها المفتي
تنزّلت من السياسة الى كل شؤون المجتمع فراح يتحدث عن
(ضرورة كتمان أسرار المهن التي فيها مصالح المسلمين، وعلى
الأطباء الحفاظ على أسرار مرضاهم، وكذلك إذا استفتي المفتي
عن مسألة خاصة فلا يجوز الإعلان عنها لآخرين أو التحدث
بها لغير أصحاب الشأن بها، وأيضا على القاضي والمستشار
الحفاظ على أسرار المدعين أو المتخاصمين). ثم ارتقى الى
اسرار المسلمين (وخصوصا في القضايا الأمنية والأسرار العسكرية)
وحرّم افشاءها (لأن في إفشائها أو إذاعتها ضررا على الوطن
والمواطن).
بطبيعة الحال، إن الاستطراد في سرد قضايا يعتقد بأنها
ذات صلة قد لا يعكس حقيقة الموقف فهو يندرج في سياق توارد
الخواطر، ولكن للمفتي مواقف في قضايا ذات صلة تعكس موقفاً
ملتبساً كموقفه من تويتر، الذي قال عنه بأنه قائم على
الكذب والافتراء، رغم أن تويتر ليس سوى موقع للتواصل الاجتماعي
والذي يصدق عليه ما يصدق على غيره من وسائل الاتصال الاجتماعي
من الصدق والكذب، ويذكّرنا هذا الموقف بما قاله وزير الشؤون
الإسلامية الشيخ صالح آل الشيخ عن تويتر بما نصّه: ما
يحدث في تويتر لا يمثل العقلية السوية التي وصل إليها
الإنسان السعودي.
|