خيارات الهروب
ربيع عربي في السعودية
هاشم عبد الستار
منذ اندلاع الربيع العربي لجأت السعودية، ودول خليجية
أخرى، الى خيار (التقديمات الاجتماعية) من أجل احتواء
فرص انتقال آثار الثورة اليها. وكان الاعتقاد السائد بأن
الثروة سلاح ضد الثورة، ولذلك ضخّت السعودية ما يقرب من
120 مليار ريال (32 مليار دولار) في هيئة منح مقطوعة،
وزيادة المكافئات عبر حافز، وقروض، ومساعدات، وقامت دول
خليجية أخرى بتدابير مماثلة عبر تقديم مكافأة مالية مقطوعة
للعائلات كما في الكويت والبحرين وقطر..
على أية حال، فإن التقديمات الاجتماعية لم تحقق نجاحاً
كاملاً، بل شهدت دول خليجية ما يشبه انتفاضات شعبية مفتوحة
على احتمالات غير معلومة، كما حدث في البحرين منذ أكثر
من عام ونصف العام، وحدث قريب من ذلك في عمان والامارات
ويحدث الآن في الكويت والسعودية..وما يمكن المجادلة فيه
أن التقديمات الاجتماعية لم تعد حاضرة كأثر، فيما يتصاعد
مطلب التغيير السياسي وسط الغالبية العظمى من السكان..
نقرأ الآن وبعد مرور نحو عامين على اندلاع الربيع العربي
أن دول الخليج لا تزال في صميم تداعيات الربيع العربي
وفي مواجهة ضروراته..في قراءة للباحث في مركز دراسات الخليج
نائل شحادة بعنوان (علاج الثورة بالثروة في الخليج) يرى
بأن انزلاق دول عربية الى صراعات داخلية أو خضوعها لعملية
تحول عصيبة، وتزايد وتيرة السخط الشعبي والاستياء في الداخل،
أصبحت دول الخليج خريصة على وقف المد الثوري عبر مساعدات
سخيّة على الدول التي اجتاحها الربيع العربي، إلى جانب
حزم (التقديمات الاجتماعية) التي تشمل زيادة كبيرة في
الأجور وزيادات كبيرة في وظائف القطاع العام لمواطنيها،
ورفع إعانات البطالة لديها.
ويرى شحادة بأن دول الخليج تعتمد على ثروتها لتفادي
الثورة، وقد استفاد قطاع كبير من السكّان من هذه التقديمات،
ولكن اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي تعاني، بحسب شحادة،
من مشاكل بنيوية، وبالتالي لن تنجح الحزم الاقتصادية القصيرة
الأمد في علاجها كالقطاع العام المتضخم، وفرط الاعتماد
على العمالة الوافدة، والبطالة المزمنة، وبخاصة بين الشباب.
ويرى شحادة بأن دول الخليج بحاجة إلى سياسات مستدامة تهدف
إلى تحقيق التنوع الاقتصادي المطلوب بشدة. وفي غياب التغيرات
البنيوية العميقة، من المرجح أن تتآكل مستويات المعيشة
الـمُرضية التي تدعم الاستقرار السياسي في دول الخليج
الآن.
يُعَد القطاع العام رب العمل الأكبر بالنسبة لمواطني
دول مجلس التعاون الخليجي: ففي المملكة السعودية، توظف
الحكومة 80 في المئة من قوة العمل الوطنية؛ وفي الكويت
ترتفع النسبة إلى 93 في المئة. وتخصص الحكومة السعودية
نحو 45 في المئة من موازنتها لرواتب موظفي القطاع العام.
وفي العام المقبل (2013) سترتفع رواتب الموظفين الاتحاديين
في الإمارات بنسبة 30 في المئة إلى 100 في المئة، فيما
من المقرر أن ترتفع أجور الموظفين القطريين بنسبة 60 في
المئة إلى 120 في المئة. ولكن ليس من المؤكد ما إذا كان
هذا الإنفاق الإضافي سينساب إلى الأسفل إلى بقية قطاعات
الاقتصاد. بل من غير المرجح أن تستفيد الشركات المحلية
على الإطلاق، لأن أغلب السلع الاستهلاكية مستوردة.غير
ان مؤشرات التحول في دول مجلس التعاون الخليجي تتراوح
بين (محدود) إلى (محدود للغاية)، ويرجع هذا بشكل كبير
إلى الفساد والافتقار إلى الشفافية.
وفي رؤية منهجية عميقة، يرى شحادة بأنه إذا كان زعماء
الخليج جادين بشأن تجنب الاضطرابات الاجتماعية، فيتعين
عليهم أن يستفيدوا من المكاسب التي تتيحها أسعار النفط
المرتفعة اليوم في تمويل إصلاحات سوق العمل والملكية الفكرية،
وبالتالي تشجيع نمو القطاع الخاص وتوفير فرص أعظم للجميع،
وتشجيع عملية الاصلاح السياسي المتوقفة حالياً.
وفي مقالة للباحث جين كينينمونت من تشاتام هاوس في
30 أكتوبر الماضي بعنوان (دول الخليج في مواجهة ضرورات
الربيع العربي) أن ثمة اختباراً لصانعي القرار في الغرب
بهدف السيطرة على الشرق الأوسط المتنوّع سياسياً، فهم
بإعلانهم تأييد لأشكال حكومات أكثر ديمقراطية في مصر وتونس
وليبيا واليمن وسوريا، يتمسّكون بإلحاح بالتحالفات التقليدية
مع الحكومات غير الحريصة مطلقاً على التغيير الديمقراطي.
ويناقش الباحث نظرية الاستثنائية الملكية على اعتبار أن
الأنظمة الملكية العربية أكثر استجابة للتحديات السياسية
من نظيراتها الجمهورية. ويعرض لفكرة رائجة منذ الربيع
العربي مفادها أن الأنظمة الملكية العربية في الخليج والأردن
والمغرب هي أكثر قابلية للبقاء على قيد الحياة، استنادا
إلى الملاحظة بأن القادة الجمهوريين هم الوحيدون الذين
أطيح بهم حتى الآن. ولكن كينينمونت رغم إقرار بصحة نسبية
لهذه الفكرة، ولكن يعتقد بأنها نظرة قصيرة الأمد كونها
تتجاهل حقيقة أن معظم الجمهوريات – بما في ذلك مصر والعراق
وليبيا، التي رأت حكامها الوراثيين قد أطيح بهم بانقلابات
عام 1950 و 1960 – كانت ملكيات في يوم من الأيام أيضاً.
ويبدو أنه من المرجح أن ملكيات اليوم قد بقيت في مكانها
لأنها مرنة، وليس كونها مرنة لأنها ملكيات.
وينظر كينينمونت لفهم هذه المرونة الى عوامل عدّة في
تحليل الظاهرة ومنها: ولاء القوات المسلحة؛ فعالية المعارضة،
والدعم الذي تتلقاه من القوى الكبرى. ويسوق الباحث مثالاً
على ذلك حيث أن هذه العوامل تساعد على تفسير السبب في
أن بعض الحكومات الجمهورية، مثل الجزائر، قد قامت على
احتواء ضغوط الاحتجاج حتى اليوم.
يرى كينينمونت بأن نظرية الاستثنائية الملكية قد تحجب
اختلافات كبيرة بين الأنظمة الحاكمة في الدول العربية
الثماني التي تتمتع بها والمبالغة في الخلافات مع الأنظمة
الجمهورية. ويناقش الباحث فكرتين يتم تقديمها لصالح صمود
النظام الملكي. الأول، إنها تتمتع بشرعية تفوق شرعية أكثر
الجمهوريات المشكلة حديثاً، بأساليب تشاورها (الملكيات)
المعترف بها وطرقها في بناء توافق الآراء، وخاصة في المملكة
السعودية والمغرب ، التي تدعي الشرعية الدينية. ثانياً،
إن الأنظمة الملكية مجهزة جيداً للتكيف والإصلاح، ولديها
نماذج أوروبية لتتبعها حيث الحكام قد تنازلوا عن السلطة
تدريجياً مع الحفاظ على مكانتهم وكرامتهم كرموز وطنية.
ولكن الباحث لا يقبل مثل هذه الأفكار على علاّتها،
فهو مثلاً يرى ثمة مشكلة مع الفكرة الأولى وهي أن مفاهيم
الشرعية الملكية يصعب تقييمها في السياقات السياسية التي
تفتقر إلى استطلاعات رأي يعتد بها أو صحافة حرة، والتي
عادة ما تكون ضد قوانين (إهانة الحاكم). ويشرح ذلك بأن
(أي ادعاء بأن الصحوة العربية قد تغاضت عن الملكيات غير
دقيق. وهذا يعني، أنه سيكون من الخطأ أيضاً افتراض أن
جميع الذين يعيشون في ظل حكومات غير ديمقراطية بالضرورة
يرون أنفسهم مضطهدين).
ويستعرض كينينمونت لعامل المعارضة في الملكيات العربية،
فهناك كما يرى نشاط للمعارضة في جميع الممالك العربية،
ولكن بدرجات متفاوتة (نواب المعارضة فازوا بـ 70 بالمئة
من المقاعد في الانتخابات البرلمانية الكويتية عام 2012،
و 45 بالمئة من الأصوات في انتخابات عام 2010 في البحرين.
المعارضة البحرينية الرئيسية تقاطع اليوم البرلمان بسبب
هشاشته، وهكذا تفعل الحركات الإسلامية في الأردن والمغرب،
حيث الاسلاميون الأكثر ميلاً للمصالحة، ومع ذلك، قد حصلوا
على أكثر من ربع المقاعد في عام 2011).
وبصورة إجمالية، فمنذ بداية عام 2011، حسب الباحث،
فإن ست ملكيات من أصل ثماني شهدت احتجاجات. وكانت أكثر
وضوحاً في البحرين ولكنها ساهمت أيضاً في التعديلات الدستورية
في الأردن والمغرب وعمان، فضلا عن حل مجلس الوزراء في
الكويت. وعلاوة على ذلك، حوكم ناشطون وكتاب ومدونون وسجنوا
لـ (إهانة) أو (تشويه سمعة) الحكومات أو الحكّام في البحرين،
والسعودية، والإمارات العربية المتحدة، والكويت ومؤخراً
سلطنة عمان .
ويستدرك الباحث كينينمونت بأن الاحتجاجات لم تكن بالضرورة
تستهدف إسقاط النظام، فمعظمها لم يكن موجهاً ضد نظام الحكم
الملكي (باستثناء ما يجري في الاردن حالياً). وأن النشطاء
البراغماتيين يسعون لعملية إصلاح سياسي في ظل الحكام الحاليين،
من خلال الدعوة لملكية دستورية حقيقية حيث تكون سلطات
الحاكم محصورة ببرلمان أقوى وقضاء مستقل أو حكومة منتخبة.
ويؤكّد الباحث بأن إرث التقاليد لا يشكل ضمانة بأن
الملوك هم في مأمن إلى الأبد (فواحدة من الدروس المستفادة
من الصحوة العربية هو أن الرد القاسي للدولة في التعامل
مع الاحتجاجات يمكن أن يؤدي إلى تصعيد في مطالب المحتجين)،
وهو ما لاتريد السعودية والبحرين والكويت استيعابه، في
ظل هيبة أمنية متصدّعة.
ينتقل كينينمونت بعد ذلك لمناقشة الفكرة الثانية، وهو
امتلاك الأنظمة الملكية لخيار تقاسم السلطة. ويرى الباحث
بأن هذا الخيار شديد الاهمية، بل إن فكرة أن تكون لدى
الانظمة الملكية مجموعة من الخيارات لتطوير أنظمتها السياسية
تدريجية وليس ثورية تعتبر جوهرية. ولا يعني ذلك أن تنبقى
هذه الأنظمة على قيد الحياة الى الأبد وبصورة حتمية. وإنما
يتوقف بقائهم على الأفعال والتكيّف مع الإصلاحات، وكذلك
استيعاب تطلعات الشباب الذين باتوا يعون تماماً حقوق المواطنة
العالمية وسريعي النمو بشكل متزايد ولبناء النماذج الاقتصادية
المستدامة. ويخلص كينينمونت الى أنه ينبغي لنظرية الملكية
الاستثنائية أن تكون حافزا للإصلاح، وليس ذريعة للتهاون.
|