الأردن في استراتيجية الصراع بين الرياض ودمشق
محمد فلالي
منذ اندلاع الثورة السورية ودخول أطراف إقليمية ودولية
على الخط، كان مقرراً للدول المحيطة بسورية، وخصوصاً المحسوبة
على معسكر الاعتدال أن تلعب دوراً لوجستياً أساسياً في
دعم الجماعات المسلّحة، التي تمّ تجنيدها وإقحامها في
أتون الصراع الدموي الدائر في طول الأراضي السورية وعرضها..وكما
الحال بالنسبة للدور التركي، فإن الدور الأردني كان أساسياً
في الصراع، لأسباب عديدة منها تخفيف الضغط على الجبهة
التركية، من حيث نقل المقاتلين والسلاح والمال، ونزوح
اللاجئين، فيما تتولى الجبهة الأردنية مهمات لوجستية وأمنية
واستراتيجية بالغة الخطورة.
سمح الأردن في بداية الثورة السورية لدخول عناصر مسلّحة
الى المناطق المحاذية لحدوده، على الأقل في محافظة درعا
ومدن حوران ونوى وبصرى الشام وغيرها، وصدرت تصريحات من
الملك الاردني ومسؤولين في حكومته وصفتها القيادة السورية
بأنها عدائية وتدخل سافر في الشؤون الداخلية للدولة السورية.
قبل الأردن منذ البداية أن يقتصر دوره على المهمة الاستخبارية
وإدارة العمليات الأمنية داخل الأراضي السورية، وقيل بأن
عملية اغتيال القيادات العسكرية والأمنية (آصفت شوكت،
حسن تركماني، هشام بختيار) فيما نجا وزير الداخلية محمد
الشعّار، تم التخطيط لها في عمّان من قبل خلية استخبارية
مسؤولة عن (الملف السوري) مؤلفة من ضباط استخبارات أميركيين
واسرائيليين وبريطانيين وأتراك وسعوديين وأردنيين..
تحوّلت السفارات الأميركية والبريطانية والاسرائيلية
والسعودية في عمّان الى ما يشبه خلايا استخبارية حيث تضاعف
عدد العاملين في هذه السفارات وفي الغالب ينتمون الى الأجهزة
الأمنية والاستخبارية في بلدانهم، وقد باتت أجهزة الاستخبارات
الروسية والصينية على معرفة تامة بطبيعة التحرّكات الاستخبارية
واللوجستية التي تقوم بها تلك السفارات، وقد أوصلت معلومات
دقيقة الى القيادة السورية من أجل اتخاذ الاحتياطات اللازمة
لاحباط الهجمات التي تقع في المناطق الجنوبية الشرقية
من سورية..
منذ اندلاع المظاهرات في محافظة درعا، كانت الاردن
مرشّحة لأن تلعب دوراً استراتيجياً في تسهيل مهمة تسلل
المقاتلين والعتاد الى المحافظة، وتفاعل المسؤولون الاردنيون
مع الاحداث بطريقة لافتة واستفزازية بالنسبة للجانب السوري،
الى حد كان من الصعب على أحد تصديق أن الاردن سوف ينأى
بنفسه عن تداعيات التظاهرات، فيما كانت تتهيأ محافظات
أردنية محاذية لأحداث مماثلة..
كانت السعودية ودول خليجية في مجلس التعاون على استعداد
لأن تقدّم مساعدات مالية للجانب الاردني لشراء السخط الشعبي
عبر هبات ودعم أسعار الوقود ومواد تموين رئيسية، وقد فعلت
ذلك فتراجعت وتيرة الاحتجاجات، على الأقل لفترة من الوقت،
أي منذ مارس 2011 بعد مظاهرات حاشدة في نهاية فبراير من
العام نفسه..
كانت الاردن مرشّحة على الدوام لأن تشهد احتجاجات،
ولكن التقديرات كانت تجمع على أنها سوف تقتصر على مطالب
معيشية وخدمية ولن ترقى الى مستوى تغيير النظام أو إسقاطه،
دع عنك المساس بذات الملك، الذي بقي الى ما قبل الاحتجاجات
الأخيرة، أو (هبّة الكرامة) كما اصطلح عليها خارج أي تجاذب
سياسي..
ماهو جديد في الملف الأردني له صلة بما تطلبه أنظمة
خليجية من القيادة الأردنية بخصوص الأزمة السورية.. فهناك
من يريد من عمّان أن تقدّم أكثر من مجرد تعاون أمني واستخباري،
وأن تتحوّل، كما تركيا، الى لاعب فاعل ورئيسي في الصراع
على سورية، وهو ما ترفضه القيادة الأردنية لإدراكها بأن
تداعيات الإنخراط الواسع في الحرب الأهلية الداخلية في
سورية سوف يؤول الى اتساع رقعة الحرب وانتقالها حكماً
الى الأردن.
|
العقاب الإقتصادي السعودي
للأردن أجّج حراك الشارع |
دول الخليج خيّرت عمّان بين: الانخراط الكامل والشامل
في الحرب على سورية أو الحرمان من المساعدات الاقتصادية
الموعودة. فكانت الهبّة الأخيرة بمثابة رسالة خليجية الى
النظام الأردن مفادها أن العزوف عن المشاركة في مشروع
اسقاط النظام السوري بحسب الشروط الخليجية، يعني بلوغ
الاحتجاجات الى رأس النظام الأردني، وإسقاط المحرّمات
التي كانت حتى وقت قريب مصونة بفعل المال الخليجي.
لم يكن لدى القيادة الأردنية خيارات عديدة حيال هذا
الضغط المتراكم عليها من قبل حكومات الخليج، ومن المستحيل
بطبيعة الحال أن يبدّل النظام الأردني تحالفاته. وسط هذا
التجاذب الأردني الخليجي، قدّمت إيران عرّضاً ربما كان
لصالح الأردن في كل الاحوال سواء قبل العرض أو رفضه، فالعرض
يقوم على تزويده بالنفط مجاناً، وقال السفير الايراني
في عمان مصطفى زاده بأن العرض هو لتجاوز الازمة الاقتصادية
التي يمر بها الأردن و (يقضي بتزويد الاردن بالنفط والطاقة
لمدة 30 عام مجانا مقابل تبادل الزيارات الدينية بين عمان
وطهران). وشدّد زادة في مقابلة مع قناة أردنية محلية (ان
عدونا واحد والكل يعرف بذلك وكان ولا يزال يحاول تفرقة
المسلمين كي يتسيدوا ويسيطروا على المنطقة). ولفت زادة
الى وجود اتفاقيات تجارية بين البلدين ولكنّها غير مفعّلة.
مسؤولون في الحكومة الأردنية دعوا الى دراسة عرض السفير
الإيراني بشكل جدي، فيما جرى توظيفها من قبل القيادة الأردنية
للضغط على الحكومات الخليجية من أجل الوفاء بوعودهم.
وكانت بعثة صندوق النقد الدولي التي زارت الأردن مؤّخراً
طالبت الحكومة الاردنية بتخفيض سعر الدينار كخيار إجباري
للإصلاح النقدي والاقتصادي، ما أثار فزع مدراء البنوك
وكبار المسؤولين في الحكومة الأردنية لأن ذلك يعني بداية
مرحلة جديدة يفقد فيها الدينار قوته الشرائية والاستعداد
لتضخم الأسعار. البعثة التي اجتمعت مع الطاقم المالي الأردني
بهدف إنقاذ الموقف كانت قد حذّرت وزير المالية سليمان
الحافظ بأن الخزينة الأردنية لن تحصل على مساعدات دولية
بعد الآن الا من خلا ضوء أخضر من صندوق النقد الدولي.
حاول الطاقم المالي الأردني تفادي خيار تخفيض قيمة الدينار
مع تقديم ضمانات تتصل جميعها بمساعدات مالية سعودية. ولكن
المفاجأة أن مسؤولة الصندوق والبعثة الدولية سألت بصورة
قاطعة وحاسمة: لا يكفي مجرد الوعود، هل بإمكانكم تزويدنا
بتعهد خطي من السعودية ينص على أن المال في طريقه اليكم؟
احتار الفريق المالي الاردني المؤلف من وزير المالي
والبنك المركزي الاردني ووزير التخطيط في تقديم اجابات
حاسمة، وخصوصاً فيما يتعلق بوعود السعودية التي لم تدخل
حيز التنفيذ. ما جرى بعد ذلك لم يكن واضحاً، فقد تخلّص
الفريق المالي الأردني من ضغط صندوق النقد الدولي بطريقة
غير مفهومة، واكتفى الطرفان بالإتفاق على مسارات طوارىء
مؤقّتة تلتزم الحكومة الاردنية بالسير فيها ريثما تحسم
خياراتها، المتعلّقة حكماً بالمساعدات المالية الخليجية
وعلى رأسها السعودية.
كان أول تطوّر لافت بعد ذلك هو تغيير الحكومة الاردنية،
وهو الإجراء التقليدي المتبّع في الاردن كلما شهد الأخيرة
أزمة سياسية أو اقتصادية، وجاء على رأسها عبد الله النسور
وهو رجل بيروقراطي وصديق للأميركيين مع بقاء الطاقم الاقتصادي
نفسه. ظهر النسور على شاشة التلفزيون وأعلن في خطاب صادم
خيّر فيه الشعب الأردني بين: خفض سعر الدينار أو رفع الأسعار.
على أية حال، لم يلبث أن حسم النسور الخيارات، حيث
انتهى الى ارتفاع الاسعار فاندلعت الاحتجاجات في المدن
الأردنية طالت الملك نفسه، فيما كان صنّاع القرار الأردني
يتبادلون الحديث عن الأزمة الداخلية الحادة بسبب المساعدات
السعودية التي لم تصل ولم تقدّم فيها الحكومة السعودية
أي تعهد من أي نوع.
النسور تحدّث الى مقربين منه بأن لديه أساليبه الخاصة
في مداواة التطنيش الخليجي والسعودي، وبالرغم من مخاوف
المسؤولين الأردنيين من (أساليب) النسور، إلا انه ليس
هناك من لديه بدائل ولذلك ترك حتى يكمل خطّته في استدراج
أو بالاحرى استفزاز الخليجيين كيما يسارعوا الى الوفاء
بوعودهم بدعم الاقتصاد الأردني.
ماذا فعل النسور؟ قام باستدعاء ثمانية مراسلين لوسائل
إعلام أجنبية وعقد مؤتمراً صحافياً مغلقاً وأطلق تحذيراً
خارج نطاق الخطاب الرسمي الأردني مع الخليج وقال: لولا
الدور الاردني في حماية حدود الخليج لأنفق الاشقاء نصف
ثروتهم في شراء منظومة صواريخ تحميهم.
تقول مصادر أردنية بأن جهود وزير الاتصال الاردني سميح
المعايطة بمحاصرة تصريح النسور هذا وتذكير المراسلين الاجانب
بأن ذلك ليس للنشر، وكانت للتسريب على شكل رسالة تبيّن
لاحقاً في تقييمات النسور أنها لم تحقق أغراضه، فمنع وزير
خارجيته المعترض ناصر جودة من اصحطاب وفد كبير معه لدولة
الإمارات.
بعد يومين من المؤتمر الصحافي، قام النسور بتوجيه رسالة
ثانية وأطلق تصريحاً آخر شرح فيه كيف أن الأردن يحمي حدود
الخليج من عبور ثلاثة أخطار هي اسرائيل والسلفيون والمخدرات..وهنا
بدا واضحاً من تصريحات النسور بأن ثمة مطلباً أردنياً
عاجلاً لدول الخليج ولابد من الاستجابة له، ولفت الى الاردن
(متضايق) الى أبعد حدود، وثم صدر تصريح ثالث للنسور وهو
الأكثر وضوحاً حين قال بأن: الازمة المالية التي نعيشها
حاليا لم تمرعلينا منذ اكثر من خمسين عاما.
ردود فعل الخليج حيال تصريحات رئيس الوزراء الأردني
كانت فاترة وربما باردة، وهناك من رفض اسلوب النسور في
استدرار عطف الخليجيين، ومن بينهم وزير الخارجية ناصر
جوده ورئيس مجلس الاعيان طاهر المصري لكن المؤسسة سمحت
للرجل بالتصعيد قليلاً في هذه اللغة بدلاً من غرق البلاد
في الاتجاهين معاً وهما رفع الاسعار وانخفاض سعر الدينار
ايضاً.
ولكن في المقابل بدأت تصريحات النسور تأتي أكلها، حيث
أبلغ الملك نخبة من السياسيين التقاهم في منزل رئيس الوزراء
الأسبق عبد السلام المجالي بأنه يأمل بأن تكون المساعدات
في الطريق. كما لمس الفريق الاقتصادي الذي يعمل مع النسور
باهتمام اماراتي كويتي بحريني بالمساعدة والضغط على السعودية
وقطر، ومنها تخفيف القيود المفروضة على مشاريع اقتصادية
اردنية.
ويمكن القول بأن التطوّرات تسارعت بعد تصريحات السفير
الايراني حول تقديم نفط مجاني للأردني، بدأت بإعلان الحكومة
العراقية عن هبة عبارة عن مئة ألف برميل من النفط مجاناً
لمرة واحدة. ما لفت في التطوّرات هو حديث رئيس الوزراء
الأردني النسور في 29 نوفمبر الماضي عن تقديم السعودية
3 مليارات ريال (787 مليون دولار) لدعم مشاريع التنمية
في المملكة الأردنية..وقال النسور بأن السعودية (قامت
مشكورة بتنفيذ الجزء الاول من التزامها لدعم المشاريع
التنموية، حيث بلغت قيمة المشاريع التي تم اعتمادها والاتفاق
عليها ـ حتى 28 نوفمبر ـ 487 مليون دولار). وأضاف إنه
(سيتم اعتماد عدد آخر من المشاريع بقيمة 300 مليون دولار
اخرى قبل نهاية هذا العام). وتحدّث النسور عن تفاصيل الهبة
وموارد صرفها ولكن بقدر كبير من الغموض حول مواعيد تسلّم
الدفعات. وتحدّث عن استمرار الاتصالات مع الكويت والامارات
وقطر حول دعم مشاريع اقتصادية في الأردن..نشير الى أن
الموازنة الاردنية تعاني من عجز كبير بلغ بحسب الارقام
الرسمية 7.7 مليار دولار فيما يعتمد الاردن في معظم حاجاته
النفطية على الدعم الخارجي وكذلك اقتصاده القائم على المساعدات.
ما يلفت أن تصريحات النسور الأولى وبشائره أيضاً لم
تؤخذ على محمل الجد، وأن الاهتمام الذي حظيت به بالاردن
من قبل دول الخليج ليس لأن هناك التزامات أو وعود يراد
الوفاء بها، ولكن ثمة من يتحدث عن أن الاردن قد يكون قبل
بالانخراط في الأزمة السورية بشكل أكبر ولكن مع تعديل
على الخطة السابقة، فقد وضع النظام الأردني في مهب الريح
بعد (هبّة الكرامة)، فإما ان يستجيب لشروط السعودية وقطرفي
الحرب في سورية أو يدفع ثمناً باهظاً قد يصل الى قطف رأسه.
|