حل (حسم واعتقال قياداتها)
العنف الرسمي ينتج راديكالية في المطالب والمواجهة
محمد قستي
اذا كان القمع في المنطقة الشرقية جاء على خلفية أن
المحتجين فيها عملاء لإيران، حسب التوصيف الرسمي.
واذا كان قمع المعتقلين في بريدة والرياض يمارس بحق
من تسميهم السلطة (الفئة الضالة) الذين يتبعون القاعدة..
فبأي ذريعة اعتقلت الأجهزة الأمنية قيادات جمعية الحقوق
المدنية والسياسية (حسم) وبالخصوص: الدكتورين محمد القحطاني،
وعبدالله الحامد؟
هذا السؤال وجهته قناة البي بي سي (العربية) لممثل
الأجهزة الأمنية في حوار حول اعتقال قيادات حسم، وهو أنور
عشقي الذي لفت الإنتباه الى ذات التهم الحكومية السخيفة
والمعلّبة مثل: الإفتئاث على ولي الأمر؛ اشعال الفتنة
والفوضى؛ تشويه القضاء؛ التحريض على ولي الأمر؛ تأسيس
جمعية تخالف سياسة الدولة، والدعوة الى أعمال مخالفة للقانون،
وغيرها.
قيل للمتحدث باسم النظام: ولكنها معارضة سلمية، لم
ترفع سلاحاً، ولم تطالب حتى بإسقاط نظام الحكم، وكل المطالب
هي: (مملكة دستورية/ مدنية). فما كان منه إلا أن أجاب
بأن المعارضة ممنوعة قانوناً وشرعاً.
لم يكن اعتقال قيادات حسم أمراً مستغرباً، بل كان متوقعاً
جداً، وهو ما كان يقول به المتهمون. وعموماً فإن الدكتور
الحامد (63 عاماً) سجن ست مرات، وقضى سنين طويلة من عمره
في المعتقلات، وها هي المرة السابعة.
لكن الظروف السياسية للإعتقال، وطبيعة المحاكمة التي
تمّت، اختلفت عمّا سبق.
فلأول مرّة يرفض الحامد وصحبه المحاكمة السريّة، ولو
أدّى الى ذلك للإعتقال مباشرة. فهذا أمرٌ يهون دون اجراء
محاكمة سرية تلبّس فيها التهم ولا يطلع عليها الرأي العام.
كانت الداخلية السعودية امام أمرين: إما الإعتقال المباشر،
وهو ما تفعله عادة، وإما القبول بتحدّي المحاكمة العلنية.
قبلت بالمحاكمة العلنية على مضض، لأن الإعتقال المباشر،
وهو أمرٌ قد تم تجريبه سابقاً مع الحامد وإصلاحيين آخرين،
لم يحقق غايته لا في قمع الأصوات، ولا في اقناع العالم
بصوابية الإجراءات، خاصة وأن الأمور كلها تدور حول قضايا
لها علاقة بإبداء الرأي وليس أي أمر آخر.
المحاكمة العلنية كانت فضيحة للقضاء السعودي ولنظام
العدالة المزعوم. كانت فضيحة لأنها كانت بصدق محاكمة سياسية،
ومحاكمة للرأي: ماذا صرح المتهم للاعلام الخارجي؟ ماذا
كتب في تويتر؟ ماذا ألقى في محاضرته؟ الخ. هي محاكمة رأي
بامتياز، ودّ آل سعود لو أنّ الزمن عاد بهم، لاختاروا
من جديد سجن الحامد والقحطاني مباشرة دون انتظار محاكمة
او أوامر قضائية شكلية.
المحاكمة العلنية كانت مكسباً كبيراً لدعاة الإصلاح
السياسي والدستوري. يمكن اعتبارها المكسب الوحيد الكبير
الذي غطّى على كل الخسائر، بما فيها خسارة اعتقال الناشطين
أنفسهم. تفاصيل المحاكمة اطلع عليها العالم: اعلاميون،
ناشطون، محامون، وضمن السياق تم التضييق وحتى اعتقال بعض
هؤلاء الحضور، او التهديد باعتقالهم: كمراسل سكاي عربية،
والناشطة ايمان القحطاني، وغيرهما. تجدر الإشارة هنا،
الى أن قضاء آل سعود رفضوا اجراء محاكمة علنية لنشطاء
الحراك الشعبي هناك خشية من تكرار تجربة الحامد وصحبه.
كان لا بد للعبة المسايرة القضائية الشكليّة ان تنتهي،
فالأحكام جاهزة. هذا ما كرره الناشطون المتهمون مراراً
بأن مصيرهم سيكون السجن. قال ذلك د. القحطاني للسي إن
إن، وكرره الحامد في كتاباته. الحكم جاهز كما كان دائماً
كذلك، والشكليات القضائية في المحاكمة العجيبة أسدل عليها
الستار، ولم يبق سوى النطق بالحكم. وكما هو معلوم فإن
الكتاب يقرأ من عنوانه. لم يكن القاضي حماد العمر سوى
جلاد، وكان يزايد على المدعي العام في التضييق والإتهام
والتهديد، بل وحتى السخرية من الناشطين المتهمين في قاعة
المحاكمة.
انتهت اللعبة في 9 مارس 2013 بإعلان الأحكام من قبل
قاضي المحكمة الجزائية: 10 سنوات سجن للدكتور محمد القحطاني؛
11 سنة للدكتور عبدالله الحامد؛ ومثلها من السنين يمنعان
من السفر؛ وحل جمعية حسم ومصادرة ممتلكاتها من اموال ووسائل
نشر، واغلاق مناشطها.
ومن طريف مبررات هذا الحكم (تلي علناً في 52 صفحة)
ان القاضي بيّن عدداً من أسباب سجن المتهمين، فكان منها:
اقرار المدعى عليهما بانهما مسؤولين عن بيانات حسم؛ وانهما
دعيا إلى الإضراب الجماعي عن الأكل؛ وانهما وصفا من في
السجون بالأبرياء، وأن المظاهرات ضد الحاكم أمر شرعي وجهاد
سلمي وأمر بمعروف أو نهي عن منكر، وأنهما أجازا قتل النفس
في المظاهرات واعتبار قتل النفس لإزالة الظلم فرع عن الجهاد
العام. كما ان المتهمين وصفا فتاوى هيئة كبار العلماء
بأنها من أسباب التطرف والعنف، وشككا في فتاوى المفتي.
وزيادة على هذه الجرائم المريعة بنظر آل سعود وقضاتهم
فإن محمد القحطاني سمح لزوجته بقيادة سيارته في شوارع
الرياض وهو بجانبها وتم إركاب ثلاث نساء أجنبيات أوروبيات،
والمقصود من ذلك لينقلن تصرفات الدولة مع قيادة زوجته
في حال القبض عليها. زد على ذلك ـ كما يقول القاضي ـ ان
المتهمين وجدا (في حال عدم ثبات اعتقادي، فمرة يجنحون
إلى مذهب المعتزلة في إنكار المنكر والأمر بالمعروف..
وتارة يجنحون إلى مذهب الخوارج... وتارة يذهبون إلى مذهب
المرجئة بتقسيم التوحيد إلى قسمين) الخ.
كل الإتهامات لها علاقة بإبداء الرأي، وكل ما تنشره
حسم أرقى من وعاظ السلاطين، في فهم الشريعة ومقاصدها.
لكن المشكلة هي ان الباطل يتوهم بأن ما لديه حق، وان رأي
الآخر بمجرد ابدائه يجب محاكمته وقمعه!
لم يكتف القاضي باصدار حكم ضد الناشطين الحامد والقحطاني،
بل دافع عن وزارة الداخلية بأنها تقوم باعتقالات متعسفة
لأنها واجهت ارهاباً ورأى (استثناء تصرفات الدولة في حالة
الحرب عن حالة السلم) أي أنه يجوز للداخلية فعل ما تريد
بحجة مكافحة الإرهاب، وزاد القاضي بأن كال الإتهامات لكل
المقبوض عليهم، وليس بعضهم فقط، هذا مع العلم ان أكثرهم
لم يحاكموا حتى الآن رغم مضي سنوات طويلة على اعتقالهم.
وكل ما طلبت به حسم وكل الناشطين الحقوقيين وحتى رجال
دين هو: محاكمة المتهمين بمواصفات المحاكمة العادلة المتعارف
عليها في كل العالم. لم تكن القضية في أساسها سوى دفاع
عن حقوق المعتقلين، وليست بالضرورة دفاعاً عن أفعال بعضهم،
كما يزعم النظام وقضاته.
القاضي في اصدار مبررات ادانته وحكمه بالسجن لمدد طويلة
على الناشطين القحطاني والحامد، تلبّس بثياب وزارة الداخلية،
وراح يشرح تصرفاتها، وكأنه موظف من موظفيها (هو كذلك في
واقع الحال).
فور اصدار الأحكام، تم اعتقال الناشطين القحطاني والحامد،
فكان الخبر الأول الطاغي يوم اصدار الحكم سواء بالنسبة
لعدد من القنوات العربية بما فيها البي بي سي العربية،
او قنوات التواصل الإجتماعي. ردود الفعل كانت سلبية بالنسبة
للنظام، وكان هناك اجماع بأن هذا القمع الممنهج لكل دعاة
التغيير والإصلاح لن يوقف حراك الشارع المتصاعد. فهل كان
النظام ووزير داخليته محمد بن نايف قد حسبوا الأمر على
هذا النحو؟ تحديداً: ماذا أراد نظام آل سعود من اعتقال
قادة حسم، وما هي آماله التي علقها على هذا الإعتقال؟
ابتداءً فإن علينا تقرير حقيقتين اساسيتين: الأولى
لها علاقة بتصاعد الحراك الشعبي المطالب بالتغيير، وهذا
أمرٌ مشهود ويجري بشكل يومي في مناطق ومدن متعددة. سمة
الحراك في تصاعد عموديا وأفقيا. الثانية لها علاقة بحقيقة
أن ليس في نية نظام آل سعود الإصلاح الذاتي (التغيير من
أعلى) وهو لا يقبل التغيير من الأسفل كبديل، بل لا يقبل
حتى النصيحة العلنية. ما يفعله الآن تجاه الناشطين هو
ممارسة العنف، وضرب القوى المحلية بعضها ببعض طائفياً
ومناطقياً وتغذية ذلك عبر مشايخه ومباحثه. واذا تصاعد
حراك الشارع، تصاعد معه العنف الرسمي، الى حد القتل للمتظاهرين
في الشوارع وممارسة الإرهاب بالجملة كما في مدن بالمنطقة
الشرقية، حيث لغة الرصاص والحضور الأمني والعسكري المكثف
ظاهرة مستمرة منذ عامين.
يبدو ان النظام لا يخشى دعاة العنف من القاعديين الذين
صنّعهم وارتدوا عليه، وان كان لا يزال يستفيد منهم في
ميادين حرب أخرى خارجية. العنف منبوذ ومحاصر شعبياً، وقد
استفاد النظام من الاصطفاف الداخلي ضد عنف القاعدة من
قبل، وكان الاصلاحيون قد املوا التفرغ للإصلاحات السياسية
الموعودة. لكن ما ان فرغ آل سعود من القاعديين العنفيين
حتى واجهوا الإصلاحيين ووضعوهم جميعاً في السجون.
يستطيع النظام ايجاد مبررات عنف ضد القاعدة، والمتعاطفين
معها، ان اراد، ويستطيع ان يصم كل عمل بالإرهاب الذي غذاه
هو في الأساس من منابره وخطاب مشايخه وأمواله. كما ان
النظام يستطيع الى حد ما مواجهة الحراك الشيعي باستخدام
الورقة الطائفية ووصمه بأنه خارجي آت من إيران، وسيجد
النظام من يؤيده بين جمهوره النجدي الوهابي الخاص. لكن
ما لا يستطيع النظام تبريره لا في الداخل ولا في الخارج
أن يصم عمل جمعية حسم بالإرهاب او العمالة او بالخروج
على الدين او ان قادتها لا يتسمون بالوعي او أنهم جبناء
أو متآمرون وغير ذلك. ومع ان النظام اتهم عددا كبيرا من
الإصلاحيين بدعم الإرهاب، إلا أنه بقي عاجزاً الى هذا
اليوم في اقناع الآخرين بمزاعمه.
الخطاب المعتدل سياسيا والذي يناطح الأطروحة السياسية
والدينية لآل سعود ومشايخهم هو ما فعله الحامد. وبذا هو
قد نسف الأسس العقدية والفكرية التي يقوم عليها بنيان
الحكم السعودي. ومن هنا يتضح ان توق النظام للتخلص من
الحامد والقحطاني والرشودي والخضير وغيرهم كان كبيراً،
لأنهم نجحوا في تحريك المنطقة التي يستند اليها النظام
في قمع المناطق الأخرى. المنطقة الأثيرة لديه تتحرك اليوم
وتتمرد على آل سعود وفكر وعاظهم الديني التبريري.
اشاعة الثقافة المدنية التي قامت بها حسم، غيرت من
المشهد الإعلامي والشعبي في المملكة خلال العام الماضي.
كان هذا واضحاً لكل عين. ونتيجة ذلك الجهد المتواصل ارتفع
سقف الوعي بالحقوق المدنية، وبالتأصيل الاسلامي لها، وبضرورة
التحرك لنيل الحقوق. ويعود لجهود حسم فضل اخراج مجاميع
من المطالبين باطلاق سراح المعتقلين الى الشارع، وان حركة
قياداتها في هذا الإتجاه والتي بدأت منذ سنوات ودفع ثمنها
اعتقالات وغيره، اصبحت نمطاً سائداً في شوارع بريدة والرياض
وغيرهما.
الأمر الآخر، فإن حسم استطاعت وبشجاعة قياداتها في
المواجهة بقوة الخطاب ان تزلزل النظام، وان تسفّه رأيه
ورأي وعاظه، وبالتالي شجعت على التجرّؤ على النظام وتحديه
سواء في المحيط النخبوي او الشعبي.
يبقى التذكير بأن عنف النظام متعدد الإتجاه الى كل
فصائل الإصلاح في مناطق المملكة كافة، لا يمكن ان يشكل
حلاً لازمة الحكم السعودي. اولاً لأن القمع المتصاعد لن
يضعف الحراك، ان لم يكن يزيده التهاباً كما هو واضح. ربما
قبل عقد من الزمن كان القمع كافياً للإسكات والإخضاع.
القراءة اليوم مختلفة ومن المؤكد ان عنف النظام يشجع على
المزيد من مواجهته، حتى لو وصل عنفه الى القتل بالرصاص
كما في المنطقة الشرقية حيث القتل قد أجج المشاعر ولازالت
الأوضاع على توترها منذ عامين. لم ينته الحراك الشعبي،
ولم ينتصر النظام.
ذات الأمر سيحدث في مناطق اخرى، ولكن مع اختلاف بسيط:
ففي الشرقية تجد المطالب جذرية مثل اسقاط النظام كليّة؛
اما المطالب المعتدلة في الوسط والتي تواجه بالعنف الرسمي،
فهي كفيلة بإبراز خطاب يرى بأن التعايش مع آل سعود مستحيل.
وأن من المستحيل أيضاً أن يكون هناك اصلاح وآل سعود على
راس الحكم. التحول نحو الراديكالية في المطالب والتحركات
هي النتيجة المنطقية للعنف الرسمي المتصاعد. والله غالب
أمره.
|