هل يدخل سلمان العودة معترك التغيير السياسي؟
عمر المالكي
منذ خروجه من المعتقل بعد ما سُمي بـ (انتفاضة بريدة/
1995) التي كان هو بطلها، صار تعبير (الصحويين) الذين
يقف سلمان العودة على رأس قائمتهم مجرد تحقيب لتاريخ مضى.
فقد طلّق هو وصحبه طريق المواجهة السياسية، والدعوة لإصلاح
النظام، بعد حملة اعتقالات واسعة أصابت معظم رموز ذلك
التيار. صمت بعض من في القائمة الصحوية عن الموضوع السياسي
المحلي كالعودة وناصر العمر، وبعضهم انضم الى النظام أو
الى إعلامه كالعبيكان وعائض القرني، وبعضهم وجد له أفقاً
في معركة أخرى مع المذاهب الإسلامية في المملكة وخارجها
كبديل عن معركته السياسية كما هو الحال مع سفر الحوالي
ـ قبل مرضه ـ وناصر العمر. القسم المتشدد في ذلك التيار
السلفي (الصحوي) انضمّ الى القاعدة، ولازال بعض رموزه
في السجون مثل: الفهيد والخضير والخالدي وأضرابهم.
كل داعية صحوي خرج بعد الإعتقال في تلك المرحلة (التسعينيات
الميلادية الماضية كالعودة والحوالي والعمر والقرني) او
حتى الذي لم يعتقل، حاول أن يكيّف نفسه مع الوضع القائم
سياسياً، ربما على خلفية فشل (الإنتفاضة المصغّرة) وصعوبة
تغيير سلوك النظام، الذي نجح عبر القمع في محاصرة الصحويين
والقضاء على تطلّعاتهم السياسية، في مرحلة ما بعد الغزو
الأمريكي للعراق وتواجد نصف مليون جندي على ارض المملكة،
وهي الفترة التي انكشف فيها النظام على حقيقته، ما استدعى
بداية المطالبة بالإصلاحات على مستوى المملكة، والأهم
على مستوى التيار السلفي الذي كان ينظر اليه ـ بقضّه وقضيضه
ـ على أنه حليف للنظام.
في مرحلة ما بعد الغزو العراقي للكويت، ظهرت عرائض
اصلاحية ليبرالية، فرأى التيار الصحوي ـ بجهله ـ أنها
موجهة ضدّه بالضرورة كونه منافساً، فأظهر التيار (مذكرة
النصيحة) ثم (اللجنة الدولية للدفاع عن الحقوق الشرعية)
الى جانب نشاطات أخرى ترافق معها عودة المقاتلين السعوديين
من أفغانستان المنكوبة، مجللة بضياع الحلم في إقامة دولة
اسلامية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وبعد تحول معركة
التحرر والتحرير هناك الى حرب أهلية طاحنة، ولّدت فيما
بعد الطالبان ثم الغزو الأمريكي لها الى اليوم.
ضرب التيار الصحوي جاء في الأساس بعد أن أمّن النظام
ظهره ـ وكما هي العادة ـ بدعم المؤسسة الدينية الرسمية
أولاً، والتي كان يقف على رأسها الشيخ ابن باز (المفتي)،
الى جانب الشيخ ابن عثيمين. والدعم الآخر جاء بصمت النخب
اللبرالية او حتى بمساهمتها في معركة النظام ـ جهلا وجهالة
منها ـ مقابل الصحويين الذين لم يوفروا هم أيضاً أحداً،
وفتحوا النار على الجميع في مجتمع متنوّع مذهبياً وفكريا.
والعودة كان واحداً من أولئك، وأشرطة محاضراته شاهدة.
ومثل هذه الألاعيب كسياسة (تخويف النظام السلفيين من
اللبراليين والحجازيين الصوفيين والشيعة والإسماعيليين
في الشرق والجنوب وغيرهم؛ وكذلك تخويف النظام الأخيرين
من تطرف السلفيين) لازالت مستمرة ومستخدمة وناجحة للنظام
السعودي.
بضرب التيار السلفي الذي دخل على خط العرائض في التسعينيات،
وضرب التيار اللبرالي، انتهت المعركة المطالبة بالإصلاح
السياسي ولو بالتدرج، اللهم إلا في المنطقة الشرقية الشيعية
التي هي بؤرة معارضة مزمنة. لقد أُضعف الجميع ووضعوا في
السجون. وحين خرج رموز التيار الصحوي من السجون، بدا وكأنهم
قد انكفأوا، وطلقوا السياسة، وإن واصلوا ارتكاب الأخطاء،
وتحليل الشؤون السياسية بمنظار عقدي عقيم، يجعلهم في مواجهة
الأقرب اليهم لصالح النظام السعودي نفسه.
من جانب النظام، فإنه اعتمد سياسة الإحتواء ـ مع الخارجين
من المعتقلات من الصحويين وغيرهم: نجح مع البعض كالشيخ
العبيكان الذي اصبح جزءً من الطاقم الديني الرسمي وارتفعت
حظوته قبل ان يطرده الملك عبدالله لتعبيره عن رأيه في
قضية عادية، وتم نزع مخالب عائض القرني واستضافه في اعلامه
المكتوب والمرئي والمسموع، بعد ان شوّه سمعته. وترك مساحة
للشيخ العمر كي يواصل معارك الفتنة الطائفية المحليّة
والخارجية.
وأما الشيخ العودة، فإنه بدا منكفئاً أول الأمر، وكان
الأكثر حذراً، وبدا وكأنه قام بمراجعة خاصة به لتجربته
الدعوية والسياسية. قرر العودة أن لا يتماهى مع النظام،
وأن لا يصطدم به من خلال اقتحام التابو السياسي. اهتم
العودة بإصلاح خطابه الديني وحافظ على التمايز عن الخطاب
السلفي التقليدي الجامد بقدر لا بأس به، دون ان يصادمه
أو يتخلّى عن جوهره (مع أنه جمع بين المتناقضات). كما
اهتم بتكوين قاعدة شعبية عريضة له في الداخل تنافس قيادة
المؤسسة الرسمية مكانتها، وطور ذلك ـ من خلال التكنولوجيا
والإعلام ـ الى شهرة تتجاوز الحدود القطرية للدولة السعودية
عبر الكتابات والمحاضرات والحضور في قنوات التواصل الاجتماعي
كالفيس بوك وتويتر.
انغمس العودة في نشاط ثقافي عام وأسس له مركزاً ثقافياً
ينطلق منه معتمداً على التكنولوجيا؛ ثم ما لبث ان وضع
بصمته فأسس له محطة فضائية (الدليل) وسبق ذلك بإطلالته
على مريديه من خلال قنوات حكومية كما في الإم بي سي.
كان النظام كما العودة حريصين على عدم قطع شعرة معاوية،
وإن كانت الريبة بينهما قائمة. النظام السعودي يعلم أن
العودة يخطط ليكون البديل للمؤسسة الدينية الرسمية برموزها،
وأنه لا يريد أن يقحم نفسه في مؤسسات دولة آل سعود، بقدر
ما يريد وراثتها في حال تغيّرت الأوضاع السياسية. لا يريد
العودة أن يتحمّل وزر النظام، ولا يريد أن ينظر اليه إلا
كمستقل، وليس تابعاً او طبالا كما فعل آخرون.
هي معركة مؤجّلة إذن.
وآل سعود ومباحثهم وإن قبلوا ـ على مضض ـ بهذا الأمر
ولم يشأوا ان يصطدموا بالعودة وهم يرون تضخم شعبيته في
وقت انحطاط شعبية المفتي وجوقة هيئة كبار العلماء.. فإن
جنودهم من اعلاميين ومخبرين في الإنترنت ومواقع التواصل
الاجتماعي ما فتئوا يذكّرون المواطنين بأن العودة (صحوي
اخواني متطرّف) وأن كل مشاكل العنف والتطرف سببها (هو)
لا غيره! بمعنى آخر: احذروا العودة، فإن له طموحات سياسية،
وأنه يريد إسقاط النظام ليأتيكم بنظام أكثر سوءً من نظام
آل سعود.
هذا هو خطاب النظام التحذيري خلال السنوات الماضية،
بعد أن فشل في استيعاب العودة ضمن طاقمه المطبّل. ويلاحظ
هنا ازدياد قلق النظام السعودي من عودة (العودة) الى ساحة
السياسة منذ تفجّر الربيع العربي في تونس ومصر بالذات،
ووصول إسلاميين الى مقعد السلطة. فآل سعود توقعوا ـ وهو
صحيح تماماً ـ بأن شهيّة العودة وشخصيات دعوية سلفية عديدة
قد انفتحت الى العمل السياسي، وأن كثيراً منهم حلموا بتسنّم
مناصب تليق بمقامهم من خلال صناديق الإقتراع، سواء بوجود
آل سعود في الحكم أو بغيابهم. هذه الشهية صحيحة، وهي لا
تشمل العودة والتيار والسلفي بل كل التيارات السياسية،
بل معظم الشرائح الإجتماعية والأغلبية الساحقة من المواطنين
المسعودين الذين رأوا نموذجاً سلمياً في التغيير، يمكن
اقتفاء أثره، بحيث يمنحهم صوتاً وكلمة في تقرير سياسة
الدولة.
العودة كتب العديد من المقالات في صحف مصرية وغيرها
حول احداث الربيع العربي، وألّف كتاباً لافتاً عام 2012عن
تلك الثورات منعته السلطة من التداول والبيع داخلياً وهو
كتاب: (أسئلة الثورة)، ما دفعه الى نشره بوسائل التواصل
الإجتماعي. ولقد استعرضنا في (الحجاز) ذلك الكتاب وخلفياته.
آخرون من دعاة السلفية او الصحويين توجهوا الى القاهرة
وطرابلس وتونس وألقوا محاضرات تمجد الثورة وتدعو للإنتخابات
والتغيير، وحاولوا بطرف خفي اسقاط الأمر على السعودية،
حيث تبدّل الخطاب السلفي الصحوي بشكل لافت وغير مسبوق
من المسألة الديمقراطية التي كانت كفراً، كما هو حال سفر
الحوالي الذي رغم مرضه سافر الى تونس وحيّا الثورة هناك!
ربما يجيب هذا التحول السلفي الصحوي، وتلك الخشية الحكومية
من العودة وزملاءه، على سؤال يتعلق بخلفيات تصاعد حرب
السعودية الشرسة على (الإخوان المسلمون) وحركة (النهضة)
رغم وصولهما الى السلطة، وتعميم ذلك الموقف المتشدد على
كل دول الخليج، وطباعة كتب تحذر منهم. بل ان الحكومة السعودية
خشيت أن يقدّم السلفيون في مصر (بالذات) وهم الأكثر عدداً
من كل سلفيي السعودية وغيرها، نموذجاً سياسياً في الحكم
أو في المشاركة فيه، يطيح بما تبقى من نموذج سعودي. ولذا
عقدت مؤتمراً سلفياً لافتاً بعنوان غبي: (السلفية منهج
شرعي، ومطلب وطني!) تحت مظلّة جامعة الإمام محمد بن سعود
في الرياض وافتتحه وزير الداخلية الأسبق الأمير نايف،
وذلك في 27/12/2011.
هدف المؤتمر (الندوة) تأكيد ثلاثة أمور: الأول ـ أن
مرجعية السلفية في العالم هي السعودية وليس أية دولة أخرى،
لا مصر ولا غيرها. والثاني ـ أن السعودية هي خير من يمثل
السلفية ممارسة وحكماً، والرد على من ينال من الرياض ويتهم
سلوك وسياسات حكامها ومشايخها بأنها لا تتوافق مع منهج
السلفية. والثالث ـ تريد الندوة مخاطبة السلفيين المحليين
بأن النسخة الأصلية للسلفية هي في السعودية، فلا تعدوا
النماذج الأخرى خارجها كما في مصر او الكويت او غيرها
نموذجاً يحتذى، لأنها نسخ سلفية مزورة. عضوا النواجذ على
الحكم السعودي القائم، فهو الصحيح وهو الذي يفيدكم!
يتوضح هذا في أهداف المؤتمر، حيث جاء مثلاً ـ الى جانب
ان السلفية هي التي تمثل الإسلام الصحيح: (بيان حقيقة
منهج الحكم في المملكة العربية السعودية وأنه مستمد من
الإسلام الصحيح عقيدة وعملاً) و(بيان مدى التلاحم والتكامل
الحاصل بين ولاة أمر والعلماء في المملكة ـ بحمد الله
ـ في تطبيق المنهج السلفي علماً وعملاً)؛ ونفي الغلو والتطرف
والتكفير عن المنهج السلفي الوهابي (وبيان أن واقع الحكم
في المملكة يكذب ذلك كلّه)!!! ويضاف الى هذه الأهداف دفع
الشبهات عن المنهج التعليمي السعودي السلفي وأنه أنتج
(الغلو والتطرف وما وقع من أحداث في المملكة العربية السعودية).
يقصد أن ارهاب القاعدة لا علاقة له بالمنهج السلفي!
ومن محاور المؤتمر ما يتعلق بـ (الدولة السعودية والمنهج
السلفي: نشأة وتطبيقاً) حيث يؤكد على (تطبيق الدولة السعودية
للمنهج السلفي علماً وعملاً) وتبيان ان المنهج السلفي
يعزز الانتماء الوطني! وهذه كلها أكاذيب لا واقع لها.
ومن المحاور: (صلة المنهج السلفي بالمقررات والخطط الدراسية
في السعودية) وكذلك (شبهات حول تطبيق المنهج السلفي في
المملكة والرد عليها).
وحتى الأمير نايف ـ وزير الداخلية الأسبق ـ فإنه في
افتتاحه للمؤتمر قال: (إننا نؤكد لكم أن هذه الدولة ستظل
بإذن الله متبعة للمنهج السلفي القويم ولن تحيد عنه ولن
تتنازل)!
ملخص القول بأن الحكومة السعودية شعرت بقلق مضاعف من
أن التيار السلفي الذي قمعته، برموزه الصحوية، وخاصة سلمان
العودة، بدأ يستعد لجولة تضعه على خارطة التغيير السياسي
القادم في السعودية.
فهل بدأت المرحلة ونضجت الثمرة بخطاب العودة المفتوح؟
|