د. خالد الدخيل في اطروحته:
(تصدّع القبيلة) وراء ظهور الوهابية وليس (الشرك)
هيثم الخياط
|
د. خالد الدخيل |
تأخر كثيراً، إلى حد ما، قبل أن يقرر نشر إطروحته في
الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا في لوس انجلوس سنة 1998،
فموضوعها بالغ الحساسية، ويندّك في صميم المشروعية الدينية
للدولة، بل الأخطر من ذلك أنها تنسف الرواية الرسمية حول
الأوضاع التي ظهرت فيها الوهابية، ورسالتها وأهدافها.
أسباب تأخير نشر الكتاب (560 صفحة)، عائدة الى الظروف
غير الملائمة، في ظل سيطرة الخطاب الديني السلفي، ولكن
مع انهيار(المحرّمات) السياسية والايديولوجية وتآكل هيبة
الجهازين الأمني والديني بات الظرف مناسباً. لقد نُصح
الدخيل من قبل أمراء كبار من بينهم ولي العهد الحالي الأمير
سلمان بعدم ترجمته الى العربية، فقام الدخيل بتجزئة الكتاب
وإيصال مضمونه عبر سلسلة مقالات ونشرها في صحيفة الإتحاد
الإماراتية في العام 2010، ولكنّه توقّف بطلب من الأمير
نايف، وزير الداخلية الأسبق.
خصّص الدخيل إطروحته لمناقشة تأريخ وتفسير بعض المؤرخين
المعاصرين لنشأة الحركة الوهابية والدولة السعودية، ولحظ
بأن هؤلاء خضعوا تحت تأثير النظرية الخلدونية لنشأة الدول
وسقوطها، ولذلك أهملوا حتى مجرد الرجوع الى مصادر الحركة
الوهابية نفسها، أي كتابات مؤسسها والمتحدّرين من بيته.
كما ناقش التفسير الديني لنشأة الحركة الوهابية، حيث
يرى بأن طغيان المسحة الدينية عليها ربما ساهم في تضليل
الباحثين وأذهلهم عن الاهتمام بالجوانب الأخرى، ولا سيما
الجانب السياسي. يضاف الى ذلك، أن الدخيل يؤكّد من طرف
غير مباشر على أن التفسير الديني لنشأة الحركة الوهابية
والدولة السعودية هو التفسير الذي تريد الأخيرة اعتماده،
بمعنى أن الحركة الوهابية نشأت كرد فعل على مظاهر الشرك
وبهدف تصحيح الإعتقاد.
وقد تميّزت إطروحة الدخيل بكونها جادّة وجريئة ونزعت
الى تجاوز القراءة التقليدية لنشأة الحركات الدينية، وإخضاعها
لقوانين الاجتماع، كما ناقش كل المصادر التي كتبت عن الحركة
وعن المجتمع النجدي الذي نشأت فيه. كما درس الرسائل والمخطوطات
والمراجع التي تشكّل في مجموعها المصدر الرئيسي لقراءة
تاريخ نجد. وخلص في بحثه الى أن التفسير الديني لنشأة
الحركة الوهابية هو تفسير هش وضعيف ولا يستقيم مع حقائق
الاجتماع والتاريخ. قال ذلك بناء على أن ما ذكرته المصادر
الوهابية عن شيوع الشرك في نجد قبل بدء الحركة الوهابية
هي مجرد مبالغات ومبررات للتوظيف السياسي، وأن مظاهر الشرك
التي ذكرها ابن عبد الوهاب كانت محدودة جداً في نجد، ولا
تتجاوز مواقع هامشية في منطقة العارض، ولا تشكل ظواهر
مجتمعية بل حالات معزولة، وأنه لا يوجد حتى في المصادر
الوهابية أي دليل على وجود مظاهر للشرك في سدير والوشم
والقصيم عند بدء الحركة الوهابية في الدعوة والتوسع، فضلاً
عن أن المجتمع النجدي كان حنبلياً قبل بدء الدعوة الوهابية،
ولا يختلف سوى في مسائل محدودة عمّا قرره الشيخ محمد بن
عبدالوهاب في رسائله.
في مقالة (تصدع القبيلة وليس الشرك وراء ظهور الوهابية)،
التي كتبها الدخيل، وهي بالمناسبة مختصر مكثّف للغاية
لإطروحته للدكتوراه، يؤكد الدخيل على أن نشأة الدولة ترتبط
بدرجة الاستقرار والتحضر في المنطقة التي تظهر فيها. ويسأل
الدخيل: لماذا قامت الدولة السعودية في العارض، وليس في
إحدى مناطق نجد الأخرى؟ ويذكّر بأن العارض، جنوب نجد،
هي أحدى أقدم مناطق الاستقرار والتحضر في نجد منذ ما قبل
الإسلام. ولفت الى أن الاستقرار والتحضّر يزدادان كلما
اتجهت جنوباً، ويتضاءلان كلما اتجهنا شمالاً في منطقة
نجد؟. وفي ضوء هذه المعادلة يركّز الدخيل الحديث على ثلاثة
أمور: الأولى أن الحركة الوهابية هي الحاضنة الأولى لفكرة
الدولة المركزية، ثانياً علاقة الدولة السعودية مع القبائل
البدوية في نجد، وثالثاً نسب الأسرة السعودية الحاكمة
وعلاقته بطبيعة الدولة.
وبخصوص ظهور حركة الوهابية في حاضرة نجد في القرن الثاني
عشر الهجري، أن هذا الظهور لا علاقة له بتدهور الحياة
الدينية، أو انتشار الشرك في نجد، كما هو شائع على العكس
(جاءت الحركة تتويجاً لعمليات استقرار وتحضر استمرت لقرون
منذ سقوط دولة بني الأخيضر في القرن الخامس الهجري..).
وبناء على ذلك، يرى الدخيل بأن الظاهرة التي تؤكّدها
المصادر المحلية هي أن القبيلة كانت قبيل ظهور الحركة
الوهابية (تعاني من تصدع واضح تمثل في أن العائلة حلّت
محل القبيلة في مجتمع نجد آنذاك، وأصبحت الأساس الذي يتمحور
حوله البناء الاجتماعي، وليس القبيلة كما كان عليه الحال
من قبل). يضاف الى ذلك بروز (ظاهرة المدن المستقلة سياسياً
عن بعضها، بما يشبه ظاهرة «دول - المدن» المستقلة في العصر
الحديث. كانت هذه البلدات أو المدن تحكم من قبل عوائل).
ونتيجة ذلك، أن حكم العوائل كان ينجم عنه عدم استقرار
داخل العائلة، وكانت المدن في حالة صراع مرير فيما بينها
على المصادر وتوسيع النفوذ، يضاف الى ذلك الظروف الطبيعية
الصعبة التي تواجهها المنطقة حيث كانت تتعرّض لدورات جفاف
متعاقبة، وكوارث طبيعية وحروب، اتضح أن مجتمع حاضرة نجد
كان في القرن الثاني عشر الهجري على حافة الانهيار.
في ظل هذه الظروف الصعبة، ظهرت الحركة الوهابية تحديداً
وليس هناك من الناحية التاريخية ما يشير إلى أن الشرك،
أو تدهور الحالة الدينية، كان جزءاً من هذا الإطار. ولكن
كي تضفي على ظهورها معنى متعالياً ربطته بقضية دينية (حيث
أن الوهابية طرحت فكرة التوحيد، وفكرة الدولة المركزية،
فإن هذا يعني أن الحركة قرنت التوحيد الديني بالتوحيد
السياسي..)، وعليه بات (من المنطقي القول بأن ظهور الحركة
جاء استجابة لتصدع القبيلة، ولهدف استبدال القبيلة بالدولة
كإطار جديد ومختلف للمجتمع). وأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب،
حمل فكرة الدولة وليس فقط فكرة الدعوة، (باحثاً لها عن
دعم ورعاية سياسية من قبل أحد أمراء المدن المستقلة).
فذهب أولاً الى العيينة، وأميرها عثمان بن معمر، وبدا
حينها أنه أقنع هذا الأمير بمشروعه الديني السياسي. لكن
بن معمر تراجع تحت ضغوط حاكم الإحساء. عندها ذهب الشيخ
إلى الدرعية، وفيها وجد الدعم والرعاية التي كان يتطلع
إليهما. اللافت هنا أن الشيخ لم يذهب في بحثه عن الدعم
خارج منطقة العارض.
ملاحظة أخرى تعزز فكرة نزوع الشيخ ابن عبد الوهاب نحو
الدولة هو أن الحركة الوهابية بخلاف الحركات الدينية السابقة
لم يقتصر نشاطها على الفقه، كما كان الاهتمام الوحيد لعلماء
نجد، فقد جاءت الوهابية وغيرت وجهة التعليم الديني في
نجد، وأصبح التوحيد وليس الفقه، هو محور النشاط العلمي.
في مقالته المعنونة (البعد السياسي لتوحيد الألوهية)
نشر في صحيفة الاتحاد الاماراتية بتاريخ 9 يونيو 2010،
يميّز بين توحيد الربوبية وتوحيد الالوهية من حيث أن الأول
يقتصر على العلاقة المباشرة بين الله والإنسان، أما توحيد
الألوهية فهو ينشيء علاقة مختلفة، وهي ذات شقين نظري وعملي،
فأما النظري فله صلة بالمعتقد، ولكن على مستوى العبادة
العملية فهي تشمل الى جانب الطقوس والشعائر الدينية أموراً
أخرى كثيرة مثل العمل والتربية والانتاج والتجارة وخدمة
المجتمع وعمارة الارض..وتدخل في هذا الاطار الواجبات السياسية
للفرد، كما يقررها علماء الشريعة ومن هذه الواجبات بيعة
ولي الأمر، وهذا نابع من قول النبي صلى الله عليه وسلم
(من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية). ويقول الدخيل
(يوحي هذا الحديث، وإن بشكل غير مباشر، بأن إيمان الفرد
وإسلامه وأداءه للعبادات خارج إطار الدولة لامعنى له.
كأن الاسلام الحقيقي لا يتحقق الا داخل الدولة وعلى الأساس
من الإيمان بشرعيتها..). ويستطرد بناء على هذا التأسيس
للقول بأن من الواجبات السياسية بحسب العلماء (طاعة ولي
الأمر). ويخلص الدخيل للقول: لا يمكن أن يتحقق توحيد الألوهية
الا اذا تحققت الوحدة السياسية وقامت الدولة وتحققت الطاعة.
في مقالته حول (الرؤية السياسية لمحمد بن عبد الوهاب)
المنشورة في (الاتحاد) في 16 يونيو 2010 يؤكّد على الدور
السياسي لمشروع إبن عبد الوهاب، وإن الصبغة الدينية التي
اكتسبها الأخير لا تلغي الهدفية السياسية التي حكمت حركته
وإن لم يسعى هو على المستوى الشخصي لتولي منصب سياسي.
وعاد الدخيل لشرح ذلك بإسهاب في مقالة أخرى بعنوان (ابن
عبد الوهاب: نموذج الدور السياسي لرجل الدين) المنشور
في 30 يونيو 2010.
لم يرض الكتاب أتباع المذهب الوهابي، كما أثار حفيظة
أحفاد ابن عبد الوهاب، الذين غضبوا لأن الدخيل نزع رداء
القداسة عن دعوة جدهم وأنزلها منزلة الحركات السياسية
المحمولة على أيديولوجية دينية. فقد كتب عبد العزيز محمد
آل عبد اللطيف ردّاً بعنوان (نظرات في كتاب الوهابية بين
الشرك وتصدع القبيلة)، وأخذ على الدخيل أن بحثه (ذو نزعة
مادية في تفسير المواقف والأحداث..)، أي أنه يصعّد من
أثر الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وفي الوقت
نفسه يخفّض من شأن البعد الديني وتقليص أثر العقيدة في
تلك المتغيّرات. كما أخذ على الدخيل أنه (مولع بالمراجع
الغربية، والنقل عنها، والتعليق عليها)، واغفال الرسائل
العلمية التي تعالج هذا الموضوع. وأخذ عليه كذلك أنه لم
يكن (موضوعياً في توصيفه للدعوة الوهابية..)، بمعنى أن
التوثيق لكلام الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأتباعه، واستقراء
ما حرره (لم يكن حاضراً ولا ظاهراً). وتبع ذلك بملاحظات
مماثلة مثل كون الدخيل قاصراً عن الإلمام بتراث ابن عبد
الوهاب، وأنه خاض في قضايا عقدية بغير علم وهدى.
ومن الواضح أن صاحب الرد هاله اتهام الدخيل لابن عبد
الوهاب بالتناقض حين قال بأن الأخير قال بوقوع الشرك في
نجد، فيما قال في مكان آخر بأن غالبية نجد (كانوا يتبعون
جادة الصواب). وكذلك أقوال ابن عبد الوهاب في المويس بسب
دين الله ورسوله، واتهامه الرؤوساء بمحاولة تضليل الناس
بأن ذلك مخالف للحقيقة، أو قوله بتفشي الشرك بما يناقض
تماماً الوجهة التاريخية. ويعلّق آل عبد اللطيف بأن الدخيل
(لم يفقه كلام الشيخ، ولم يحرّر ما سُطّر في كتب التاريخ،
وإنما إغراق في التحليل وفق مقررات سابقة!).
وغضب آل عبد اللطيف من كلام الدخيل حين قال عنه بأنه
كان يرى في كل مخالفة للتوحيد بأنها مخالفة خطيرة تكفي
لإخراج مرتكبها من الملّة، وقال (وهذا كذب بارد)، على
أساس أن الشيخ ابن عبد الوهاب ميّز بين الشرك الأكبر والشرك
الأصغر، والحال أن في رسائل ابن عبد الوهاب وكتاباته ما
يشير الى أنه بالفعل كان يوصم مخالفيه بأوصاف قاسية لمجرد
أنهم لم يتبعوا تفسيره في التوحيد، فكان يرميهم بالشرك
والكفر.
يرد آل عبد اللطيف على الدخيل بقوله أن معظم كتابات
خصوم الشيخ قد اختفت، ويقول بأن ذلك غير دقيق، (فمقالات
ابن فيروز مطبوعة، وكذا مقالات إبن سحيم موجودة في مخطوط
«فصل الخطاب في ردّ ضلالات ابن عبدالوهاب» للقباني، وكذا
«الصواعق والرعود» لعبد الله الزبيري، و»فصل الخطاب في
الرد على محمد بن عبدالوهاب» لسليمان بن عبدالوهاب، وكذا
مقالات وكتابات ابن عفالق.. الخ)..والحال أن هذه لا تمثل
سوى جزء ضئيل من عشرات الردود التي اختفت بفعل فاعل، وكان
يراد طمسها حتى لا يتعرّف الناس على حقيقة الجدالات التي
كانت ثائرة بين ابن عبد الوهاب وبين علماء ورجال عصره.
وعارض آل عبد اللطيف فكرة الدخيل في تبرئة نجد من مظاهر
الشرك قبل ظهور الحركة الوهابية، وأن نجد كانت بعيدة عن
حالات الشرك (وأن الشرك كان ضيق الحدود، وبسيطاً، ومجرد
أفراد، وينحصر في «الرياض»..) وكذلك قوله بأن (رسائل الشيخ
لا تضمّن دلالات واضحة على وجود الشرك..)، ورجع في ذلك
أيضاً الى كتابات إبن بشر التي تتضمن كلاماً يشير الى
عدم وجود مظاهر للشرك.
وقام آل عبد اللطيف بذكر قائمة مصادر يثبت فيها أن
ظاهرة الشرك كانت عامة، ونقل عن ابن غنام في تاريخه في
الجزء الأول قوله (وحكى ما عليه أعراب نجد من كثرة نواقض
الإسلام، وأنّ فيهم أكثر من مائة ناقض وما تلبسوا به من
إنكار البعث وسبّ الشرع، وتفضيل حكم الطاغوت على حكم الله).
مهما يكن، فإن كتاب الدخيل يعتبر إضافة نوعية في مجال
الدرسات الاجتماعية أو بالاحرى الى علم الاجتماع الديني،
ولاشك أن نوع المقاربة التي قدّمها تعتبر جادة ومن شأنها
أن تحظى باهتمام الباحثين كما ستغضب الحلفاء والرسميين
لأنها الكتاب في مجمله ينسف الرواية الرسمية لظهور الوهابية.
|