في ضعفه وقوّته.. يمنٌ (سعوديٌّ) مقلق!
السعودية وإنتاج نظام سياسي جديد في صنعاء
محمد الأنصاري
لازالت السعودية قلقة من اليمن، الذي تحوّل ـ ويا لسخرية
القدر ـ الى مكبّ للعنف السعودي الطائفي المدمّر.
لم يعد اليمن (سعيداً) ولا (حرّاً) ولا (مستقرّاً)..
فالأيدي السعودية تعبث بحياته السياسية والدينية والإقتصادية.
اليد السعودية صارت هي (العليا)، وصارت يد (اليمن)
هي السفلى. العليا السعودية، تشتري السياسيين ورجال القبائل،
وتصنع الرؤساء، وتقتلهم إن شاءت. قتلت الرئيسين الحمدي
والغشمي، وجاءت بعلي عبدالله صالح مثلاً.
حكام السعودية يدركون النصيحة التي قدمها لهم والدهم
منذ أن أسس الدولة، والتي تمثل الخط السياسي العام لها
تجاه اليمن. هم يرونها (حكمة) أكثر منها (نصيحة). أياً
كان اسمها، فالسياسة السعودية تجاه اليمن محكومة بها،
وهي تتضمن التالي، حسب الملك المؤسس ابن سعود:
إذا أصبح اليمن قويّاً، فالسعودية تضعف. اليمن هو الأكثر
سكاناً، والأعمق حضارة، وأصل العرب. بقوته تكون له السيادة
في منطقة الجزيرة العربية. يجب ان يكون اليمن ضعيفاً محتاجاً
الى السعودية دائماً. يجب أن يكون غير مستقر، ولكن ليس
الى الحد الذي يصدّر فيه مشاكله الى السعوديين. يجب أن
لا يتحول الى دولة مستقرة غنية نفطياً أو زراعياً. فاستغناؤه
عن آل سعود يعني استقلاله وفكّ أسره؛ ولا يجب أن يكون
مدقعاً الى الحدّ الذي يصدّر لآل سعود مشاكله!
لا احتلال لليمن، فهو (عش الزنابير) كما قال ابن سعود
لمستشاره الانجليزي جون فيلبي، حينما اصرّ عليه ان يبقى
في اليمن بعد ان وصلت جيوش السعوديين الى (الحديدة) في
الثلاثينيات الميلادية من القرن الماضي.
سياسة القضم والضم (بهدوء) للأراضي اليمنية هي المطلوبة.
وهذا ما جرى خلال العقود الطويلة الماضية، حيث كان السعوديون
يتمددون جنوباً ليحتلوا أراض يمنية، ويتوسعون في فضاءات
غيرهم عبر سياسة (دحرجة البراميل) الى الأمام.
يجب أن يكون اليمن بلا دعوة دينية، لأنها تعمل كمصدّة
للنفوذ الديني الوهابي السعودي. حكم أئمة الزيدية اليمن
منذ القرن الثالث الهجري وحتى القرن الرابع عشر الهجري
بصورة مستمرة غير منقطعة، وهو ما لم يحدث في أي بلد أو
منطقة عربية أخرى؛ في حين أن عمر الوهابية أقل من ثلاثة
قرون. تغييب الحكم الإمامي الزيدي، يفسح المجال للنفوذ
الديني الوهابي السعودي. فالسعودية لا ترى نفوذها السياسي
مضموناً في اليمن ـ وغير اليمن أيضاً ـ ما لم يرافقه على
الأرض توسّع للأيديولوجيا السعودية ـ الوهابية.
كان اليمن في عهد الأئمة الزيود يمثل خطراً بالمنظار
السعودي. يجب أن تبقى الدعوة الوهابية وتمحى الدعوة الزيدية.
|
علي صالح: الشرطي السعودي
|
يجب أن ينتهي حكم الأئمة الزيود مقابل بقاء الأئمة
من آل سعود!
لم تكن العلاقة بين العائلتين الحاكمتين في الرياض
وصنعاء جيدة، الى أن قامت الثورة على حكم الأئمة. هنا
استشعر السعوديون الخطر من الثورة الذي هو أكبر من وجهة
نظرهم من خطر حكم الأئمة. وقف آل سعود مع الإمامة مقابل
الثورة وعبدالناصر ونجحوا بعد سبع سنوات من الحرب الأهلية.
أُزيحت العائلة المتوكلية في اليمن لتستريح منفية في الرياض
(لازال بعضهم الى الان فيها وهم محرومون حتى من الدفن
في مسقط رأسهم)، وليتولّى رجال السعودية الحكم من قبائل
وعسكر الحكم، ولتختفي الروح الثورية من الحكم.
انتهى حكم الإمامة. ولم يقم حكم الثورة. كل ما بقي
هو الحكم السعودي شبه المباشر، حيث تنصب السعودية من تريد
حاكما.
هذا الحال لم يتغير لنحو اربعة عقود.
طار رؤساء وجاء آخرون. من تمرّد قضي عليه بتفجير او
اغتيال: الغشمي، والحمدي مثالاً.
جاءت الثورة الثانية في اليمن في عهد ما سمي بالربيع
العربي.
هذه الثورة تختلف عن ثورة 1962 كونها في جوهرها ضد
الحكم السعودي وليس ضد علي عبدالله صالح فحسب (الشرطي
الذي جاءت به السعودية رئيساً).
لم تستطع الرياض ان توقف الثورة، ولا أن تتقدم بمبادرة
خاصة بها، في وقت كانت قطر تحاول ان (ترث) الوجود السعودي
بضخ المزيد من المال لإخراج علي عبدالله صالح من السلطة،
خلافاً لرأي الرياض.
تقدمت السعودية من وراء الستار بمبادرة سمتها (المبادرة
الخليجية) حتى تعمّي على من يقف وراءها. وحاولت أن تعيد
انتاج الحكم في اليمن بدون علي عبدالله صالح.
وفعلاً احتوت السعودية الثورة، وهي بصدد إعادة انتاج
النظام القديم بنفس وجوهه عدا تغييب علي عبدالله صالح
وأبنائه. ان كان لا بدّ أن يبقى النظام اليمني فلا بد
من رحيل الرئيس، وأما السياسات فحالها باقٍ، والوجوه القبلية
باقية.
لكن التحدّيات التي تواجه السعودية في إعادة انتاج
النظام القديم كبيرة للغاية.
صحيح ان السعودية تستطيع بالمساعدات المالية أن تحلّ
بعض الأزمة، ولكن ليس كلّها، بل ليس جوهرها حتى.
لا تعود التحديات الى طبيعة الأزمة في اليمن فحسب،
بل الأهم هو أن السعودية صارت جزءً من الأزمة وبالتالي
جزءً من الحلّ، الجزء الأساس منه.
الرياض لا تتحمّل انتاج نظام إلا حسب ذوقها ومزاجها،
وليس حسب الوضع الميداني والقراءة الواقعية للوضع السياسي
اليمني على الأرض.
هذه هي المشكلة الأساس.
بمعنى أن السعودية لا تريد دولة حقيقية ولا نظاماً
يحترم ارادة الشعب والقانون.
وهي بالقطع لا تستطيع ان تتحمل يمناً ديمقراطياً، او
نصف ديمقراطي. فبمقدار الديمقراطية والقانون، يضعف النفوذ
السعودي القائم على التآمر والرشى السياسية والحروب المفتعلة
والصراعات الطائفية.
والسعودية فوق هذا، وفي سبيل إعادة انتاج نظام سياسي
جديد في اليمن، لا تدرك بأن عليها (التنازل) لمن تعتبرهم
أعداءها. التنازل السياسي لا تستطيع (معدة الأمراء السعوديين)
تحمّله.
لا يمكن انتاج نظام سياسي بدون أن يكون للحوثيين دوراً
فيه. وشرعنة الوضع السياسي ضمن النظام السياسي الجديد،
يعني تقليصاً للنفوذ الوهابي والمالي لآل سعود. كيف تستطيع
السعودية السماح لأعدائها أن يكون لهم دوراً في يمن تعتبره
مزرعتها؟ وترى المعارضين لها مجرد عملاء للخارج؟
|
الرئيس الحمدي: الاغتيال
السعودي |
كيف تتحمل الرياض قوّة حقيقية على الأرض تقف الى جانب
حدودها الجنوبية؟ كيف يمكن لها أن تراهن على ممارسة سياسة
الإستيعاب لا العزل والإقصاء تجاه خصوم هي غير واثقة من
أنها قادرة على شرائهم كما تفعل مع مشايخ القبائل وكل
الطاقم السياسي اليمني؟
الرياض أقرب الى الرأي بعزل الحوثيين عن انتاج النظام
الجديد او المشاركة فيه. لكن القرار ليس لها وحدها. فهناك
أمريكا والغرب والأمم المتحدة المشاركة بفعالية في عملية
الإنتاج الجديدة للنظام السياسي. هؤلاء يدركون ـ كأي سياسي
محترف ـ بأن لا قيام لنظام جديد إلا بمشاركة جميع الأطياف
السياسية الفاعلة فيه. وقد نجح ممثل الأمم المتحدة في
إقناع الحوثيين بالمشاركة في اجتماعات الحوار الوطنية
لتحقيق تلك الغاية.
بيد أن السعوديين وأتباعهم من بقايا حزب المؤتمر أو
من رجال القبائل او من التيارات الوهابية، وكذلك حزب الإصلاح،
يعتقدون بأن لا حلّ مع الحوثيين إلا بالحرب والضغط عليهم
من جهات متعددة. هذا إن حدث، وإرهاصاته للأسف موجودة،
يعني حتمية فشل قيام نظام سياسي في اليمن، ويعني بقاء
التوتر والصراع السياسي. ربما هذا يخدم السعودية في المدى
المنظور، ولكن ليس على المدى الإستراتيجي.
قبول الحوثيين على كره اختبار للنظام السياسي الجديد
في مدى قدرته على استيعاب المختلف من كافة الأطياف.
أما الحرب فقد حاولتها السعودية خلال أكثر من عام مضى،
وحركت قبائل وأحزاب (الإصلاح) للضغط بالسلاح على الحوثيين.
لكنها لم تنجح. قيل ان الهدف هو: وقف التمدد الحوثي!
في المقابل قامت السعودية مؤخراً بتحرشات عسكرية على
الحدود الشمالية لليمن، بغية قضم المزيد من الأراضي. وقد
حدث منذ شهر مارس الماضي تكثيفا للتحركات السعودية. بعضها
بحجة البحث عن النفط، وبعضها بغية احتلال قمم ومرتفعات
تُشرف على مساحات شاسعة من محافظة صعدة التي يسيطر عليها
الحوثيون. وهناك أحاديث عن تقدم القوات السعودية في عمق
الأراضي اليمنية.
هذا الفعل هو تخريب متعمّد للعملية السياسية. تظن الرياض
أنها تنتهز الفرصة، فيما الجميع يلملم جراحه، وينشغل في
ترتيب البيت الداخلي، لكي تقوم بخطوات عسكرية وتوسعية،
دون ان يلتفت اليها أحد، او دون رد فعل من القوى السياسية
الحليفة لآل سعود. لكن ليس هذا ما حدث حتى الآن. فالعين
مفتوحة، وما زادها انفتاحاً ما قامت به السلطات السعودية
من تكرار تجربة طرد العمالة اليمنية عام 1990/1991، حيث
تقوم السلطات السعودية بطرد عشرات الألوف من اليمنيين
العاملين في السعودية بحجة مخالفتهم للقوانين.
هل كان هذا هو الوقت المناسب لحملة الرياض على مخالفي
الإقامة؟ لماذا تبدأ باليمن؟ ولماذا في هذا الوقت بالذات؟
هل هي رسالة تحذير وضغط على القيادات السياسية التي تجتمع
بحثاً في تفاصيل النظام السياسي الجديد؟
المسألة الأخرى التي تواجه السعودية هي اشكالية التعاطي
مع القيادات الجنوبية التي تريد العودة الى الدولة السابقة
المستقلة ما قبل الوحدة. السعودية كما هو معلوم كانت ضد
الوحدة، لذات الأسباب التي ذكرناها في مقدمة المقالة.
والسعودية هي التي مولت الجنوب في حرب 1994 لتفكيك دولة
الوحدة. لكن السعودية اليوم غيرت سياستها وانقلبت على
حلفائها الجنوبيين الذين كانوا قبل ذلك أعداءً شيوعيين!!!
لانتاج نظام سياسي جديد لا يمكن إلا استيعاب الجنوب
وحركته. الإستيعاب يعني تقديم تنازلات كبيرة جداً، تهون
معها تنازلات الحوثيين. وإلا فإن الوضع سيبقى مضطربا،
ولن يخرج سوى نظام سياسي مشوّه غير مستقر. وفيما يبدو
فإن السعوديين يميلون لانتاج نظام سياسي بمن يتوفر من
الموالين، وأن يقمع المخالفين.
ان كان هذا هو الرأي ـ كما حللنا ـ فاليمن سيبقى ضعيفا
غير مستقر كما أراده مؤسس الدولة السعودية وخلفاؤه من
الأبناء والحفدة.
|