ثعالب وثعابين في لبنان
جنبلاط يلتقي بندر في الرياض لإدارة معركة الإنتخابات
هاشم عبد الستار
كلام السفير السعودي في لبنان علي العسيري عن المسافة
الواحدة من جميع الفرقاء، وهي العبارة الأكثر حفظاً من
قبل السفراء السعوديين خلال العقود الثلاثة الماضة، تسقط
مع أي زيارة لشخصية سياسية لبنانية من فريق 14 اذار أو
المقربين منه أو حين يدور الكلام عن أهداف الزيارة ويتعلق
الأمر بقضية لبنانية داخلية محضة..
والكلام هنا حين يدخل حيز التنفيذ عن زيارة الزعيم
الدرزي وليد جنبلاط الى المملكة ولقائه برئيس الاستخبارات
السعودية العامة بندر بن سلطان، الذي دخل على خط الأزمة
اللبنانية ويسعى لإدارة اللعبة المحتدمة بين فريقي 8 و14
آذار..
للعلم فحسب، علاقة بندر بلبنان قديمة، فكان يمارس نفوذه
فيه وعليه عبر بيت الحريري. ينقل أحد الاعلاميين اللبنانيين
بأنه كان برفقة رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري
(أغتيل في 14 فبراير 2005)، فجاءه اتصال من الخارج على
هاتفه الخليوي ولم يكن حينذاك أحد يمتلك هاتفاً خليوياً،
وفجأة دلف الى سيارته الخاصة، وأمضى وقتاً طويلاً في الحديث
مع الطرف الآخر الذي تبيّن في وقت لاحق بأنه السفير السعودي
في واشنطن، الأمير بندر بن سلطان..يقول المصدر نفسه بأن
الاتصال من الأخير بالرئيس رفيق الحريري كان شبه يومي،
ما يشي بارتباط الملف اللبناني في السعودية بالأمير بندر
بدرجة أساسية..
في جلسات الحوار الوطني التي جرت في المجلس النيابي
اللبناني في النصف الأول من العام 2006 باقتراح من رئيسه
نبيه بري، وبحضور زعماء التيارات والاحزاب السياسية، لوحظ
أن سعد الحريري لا يقطع في أمر دون أن يتصل بالأمير بندر
بن سلطان، الذي كان يبادر أحياناً بالإتصال به وإبلاغه
الموقف الذي يجب عليه تبنيه. يقول مصدر لبناني بأن الرجل
لم يكن مثل والده الذي يخفي خضوعه للنظام السعودي ولتعليمات
الأمراء الكبار، فقد كان سعد الحريري حتى بعد أن أصبح
رئيساً للحكومة يتصرف حين يهبط بطائرته في أحد مطارات
المملكة، كمواطن تابع لسلطة آل سعود..
اختار الحريري الابن لنفسه هذا الدور، وسعى أن يربط
فريق 14 آذار بأكمله بقناة تواصل واحدة تلتقي عند بندر
بن سلطان الذي يعجبه هذا النوع من التواصل، بحيث يتصرّف
كما لو أنه الجوكر في المعادلة اللبنانية..فلا سمير جعجع،
قائد القوات اللبنانية، ولا أمين الجميل، زعيم حزب الكتائب،
ولا حتى زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، ولا
الصغار من بيت كميل شمعون أو حرب أو سلام، أو حتى ميقاتي
وصفدي..كل هؤلاء أريد لهم ومنهم محو شخصياتهم وإراداتهم
من أجل تثبيت مرجعية بندر بن سلطان عبر بوابة سعد الحريري.
لن نعود للوراء، فاليوم تبدو الصورة أشد وضوحاً، فالرجل
الذي اعتقد بأنه اسقط السعودية في لبنان ثم عاد وأرجعها
بإسقاط حكومة نجيب ميقاتي، هو نفسه الذي سعى طويلاً كيما
يكسر الجليد المتراكم حول الأبواب السعودية، وأمضى زمناً
من التودّد وتدوير الزوايا كيما يضاء الأخضر له..وليد
جنبلاط لم يكن بالضرورة يتميّز بالذكاء السياسي، فقد نبّهت
تقلباته الخصوم والحلفاء الى آلية محددة في التعامل معه،
وصارت التجارة معه بالمفرّق والتجزئة، فليس هناك اليوم
حليف دائم له في الفريقين المتخاصمين: 8 آذار و14 آذار،
وبات الجميع يحذر منه أكثر من حذرهم من بعضهم البعض..
المعركة في لبنان تبدو طويلة، فلا تمّام سلام الذي
ذهب الى الرياض نائباً وعاد رئيساً مكلّفاً نجح في اقتناص
مواقف مؤيدة من الحلفاء والخصوم، بالرغم من محاولته وبعناد
ساذج تهريب تشكيلة حكومية الى رئيس الجمهورية ميشال سليمان
الذي رفض التشيكلة فوراً وحذّر سلام من مقاربات من هذا
القبيل لأنها تؤدي الى تفجير الوضع في الداخل اللبناني..
ترتيبات جنبلاط مع بندر لاختيار سلام بدلاَ من اللواء
أشرف ريفي، لم تسفر عن نتيجة حاسمة، وكانت «تخبيصات» تمّام
سلام في تشكيل الحكومة وكلام نصر الله عن الاحجام النيابية
كمعايير في توزيع الحصص الحكومية، عجّلت في زيارة أخرى
مفاجئة لرئيس اللقاء الديمقراطي وليد جنبلاط الى جدة للقاء
الأمير بندر بن سلطان..
سفر جنبلاط في 11 مايو وصف بأنه دليل فشل مساعي سلام
والحاجة الى تدخل سعودي عاجل للحيلولة دون انفراط الوضع،
لأن كما يببدو فإن جنبلاط حمل رسالة من نوع آخر الى بندر
بن سلطان، كون سلام ينوي تشكيل حكومة تتجاوز مطالب الأكثرية
السابقة، الممثلة في فريق 8 آذار. وبحسب صحيفة (النهار)
في 12 مايو عن متابعين لاتصالات جنبلاط فإن الأخير يسعى
الى اجراء مشاورات في ضوء معطيات تشير الى قرب اتخاذ الرئيس
المكلّف قراراً بتشكيل حكومة (تتجاوز مطلب الاكثرية السابقة).
المكتب الاعلامي لرئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري
الذي كان قد استقبل جنبلاط في بيته في جدة أوضح بأن (البحث
تناول المساعي التي يجريها رئيس الحكومة المكلف تمام سلام
لتشكيل الحكومة ومختلف المشاريع المطروحة لقانون الانتخابات..)،
ما يعني أن موضوع زيارة جنبلاط واضح لا لبس فيه، وهي
أن الحكومة المراد تشكيلها يجب ان تستند على احجام نيابية
بحسب فريق 8 آذار، وهو ما يرفضه سلام وفريق 14 آذار وكذلك
الفريق الوسطي المؤلف من جنبلاط ورئيس الجمهورية..هذا
ما يحاول فريق 14 آذار الترويج له، وإبقاء جنبلاط بمثابة
الوسطي والوسيط بين الفريقين.
صحيفة (السفير) نشرت في 11 مايو تقريراً على صفحتها
الاولى وصفت زيارة جنبلاط الى السعودية بمثابة انقلاب
على تعهداته لفريق 8 آذار وخصوصاً أنه لن يشارك في حكومة
لا تكتسب صفة وطنية أو بالأحرى حكومة وحدة وطنية، أي أنه
لن يقبل بحكومة استفزازية، وقد جرّب سلام ذلك مع رئيس
الجمهورية..
حكومة الأمر الواقع، الخيار الذي يميل اليه سعد الحريري
ومن ورائه بندر بن سلطان، سقطت في خطاب نصر الله الذي
شدّد على حكومة الاحجام النيابية، أما جنبلاط الذي قطع
وعداً لحزب الله وحركة أمل بعدم السير في خيار حكومة الأمر
الواقع، حاول تدوير الزوايا داخل الفريق الشيعي، ولكنه
فوجيء بأن نبيه بري كان متماهياً مع موقف نصر الله، بل
أسمع بري ممثل جنبلاط، وائل أبو فاعور كلاماً حاسماً بـ
(أننا بنينا قرارنا السياسي بالسير في تسمية تمام سلام
على أساس التزامك السياسي معنا، وحتى هذه اللحظة نحن ما
زلنا نبني عليه لا بل نعوّل عليه لمنع أخذ البلد الى الفتنة
الكبرى). وضع بري الكرة في يد جنبلاط وطلب منه أن يقذف
به في الاتجاه الذي حدده سلفاً، أي بأن يلزم رئيس الجمهورية
وفريق 14 آذار بل وحتى السعودية بحسب الوعود الذي قطعها
على نفسه فلا داعي لأن يضيع الوقت في الانقلاب على الوعود
بطريقة ذكية..كان بري واضحاً في كلامه للوزير أبو فاعور
بأن أي صيغ أخرى غير الصيغة التي تم الاتفاق عليها سوف
تقود لبنان الى انفجار كبير وستكون الصيغة السياسية من
أبرز ضحايا، بحسب السفير في 11 مايو الجاري.
الميثاقية شرط لازم لنجاح تشكيلة أي حكومة، هذا ما
يصر بري ومن ورائه فريق 8 آذار، وجاء خطاب نصر الله حول
الاحجام النيابية كيما تضع النقاط على الحروف لجهة اعتماد
مبدأ الاحجام في تشكيل حكومة ميثاقية مكتملة الشروط..بالنسبة
لفريق 8 اذار فإ تسمية وزراء شيعة من خارج الثناني الشيعي
اي حزب الله وأمل يدل على عدم الميثاقية لأنها تخالف مبدأ
الاحجام النيابية كما تخالف مبدأ التمثيل الشعبي، وأن
رد هذا الفريق على انتقاد فريق 14 آذار بخصوص تعيين ستة
وزراء سنة في الحكومة السابقة كانوا من حلفاء سعد الحريري
في الانتخابات والسياسة قبل أن ينقلبوا عله..
العقبة الأخرى التي تواجه جنبلاط هي قانون الانتخابات
حيث لا يزال يتمسّك بقانون الستين الذي يضمن حصوله على
نسبة وازنة ومؤثرة نيابياً وبالتالياً حكومياً، بينما
يصرّ أغلب الفرقاء على أن هذا القانون دفن ولا يمكن اعتماده،
وهو ما يحاول جنبلاط تعويمه مجدداً فيما يهدد فريق 8 اذار
بطرح القانون الآرثوذكسي خصوصاً وأن هناك فرقاء في 14
آذار يميلون داخلياً الى تأييده مثل الكتائب والقوات،
وأن لا حل سوى القانون المختلط الذي يقترحه نبيه بري من
أجل انقاذ الفريقين ولبنان.
لم تنجح طبخة بندر جنبلاط، وأن الرهانات على اختراق
جبهة 8 آذار سقطت عبر تصريحات مخاتلة من جانب السفير العسيري
بالترحيب بزيارة حزب الله الى الرياض، وتصريحات ايجابية
من سعد الحريري حول حزب الله باعتباره مكون هام في لبنان..فهم
الحزب هذه التصريحات على أنها محاولة لإحداث انقسام داخل
جبهة 8 آذار، وإحياء هواجس زعيم التيار الوطني الحر ميشال
عون إزاء التحالف الرباعي الذي تمّ في انتخابات 2005.
جنبلاط الذي أبلغ السعوديين بأنه قادر على استمالة
نبيه بري، صدم بتشدّده أكثر مما كان يتوقّع، وقد عبّر
بري عن خيبة أمله في أداء سلام إزاء خصوم 14 آذار، وفي
الوقت نفسه شعر جنبلاط بأن ثمة ترتيبات معدّة في حال قرر
جنبلاط الانقلاب على تعهدّاته للثنائي الشيعي.
أكثر من ذلك أن جنبلاط والسعوديين جميعاً تبلغوا بأن
تشكيل حكومة غير ميثاقية ستدفع بري الى الغياب عن جلسة
منح الثقة، ما يعقد الأمر ويضع جنبلاط في زاوية حادة،
رغم أن الأخير يقال بأنه يميل الى السير مع سلام في تشكيل
حكومة في أسرع وقت ممكن.
فريق 8 آذار يميل الى تصنيف جنبلاط على فريق 14 آذار،
وأن ترتيباته مع بندر بن سلطان لا يمكن أن تكون بريئة
وأنها تأتي ضمن عملية استكمال الانتقال التام لفريقه القديم.
أحد أدلة هي عودة المخصصات المالية له بعد أن توقفت لسنوات،
وأنها باتت تصل من دون مرورها عبر قناة سعد الحريري، الأمر
الذي يعني أن المياه رجعت الى مجاريها وليست هناك حاجة
الى قناة أخرى في التواصل أو الدعم.
مهما يكن، فإن بندر بن سلطان الذي يدير الملف اللبناني
في الجانب السعودي يحاول استغلال أكثر من معطى لفرض وترسيخ
معادلة تثبت النفوذ السعودي:الأزمة السورية التي أخرجت
الطرف الرئيس اللاعب في المعادلة اللبنانية، وبالتالي
خرجت سين من السينين وباتت السين الأخرى منفردة في معادلة
السين سين، وفي ظل أزمة مستفحلة تعيشها سوريا ولا أفق
مرتقب لخروج قريب منها بعد أن بلغ الدمار حداً يستحيل
معه أن يتعافى هذا البلد في غضون عقد أو عقدين، فإن الملف
اللبناني يصبح خارج نطاق النفوذ السوري طويلاً..المعطى
الآخر: قرب موعد الانتخابات الرئاسية في ايران، وانشغال
الأخيرة بالمنافسات بل والتحديات والأخطار المحدقة بها
في مرحلة المنافسة الانتخابية والخوف من تكرار تجربة 2009
حين شهدت إيران تصدّعات بنيوية خطيرة هدّدت كيانية الجمهورية
الاسلامية لولا تدخل المرشد الخامنئي والحرس الثوري وقوات
التعبئة التي تدخلت للحيلولة دون انفراط العقد الايراني..
في المقابل، يشعر فريق 8 آذار بأن الرهان على هذه المعطيات
لا يبدو ناجحاً، خصوصاً في ظل متغيرات جديدة ميدانية في
سورية لصالح قوات النظام، وكذلك الترتيبات الاحتياطية
التي قامت بها الحكومة الايرانية للحيلولة دون تكرار تجربة
2009..
مهما يكن، فإن السباق السعودي الايراني في لبنان لا
يبدو أن له نهاية سريعة..ولبنان هو الآخر لا يبدو أن سوف
يبقى على حاله في ظل عالم شديد التغير والتفجّر..فهل يكون
الانفجار منه، في ظل تكالب الثعالب والثعابين عليه من
الجوار وأبعد منه.
|