بعد (زمن العرائض)
التغيير من الشاشة الى الساحة
يحي مفتي
ربما قلّة تتذكر اليوم آخر عريضة رفعت إلى (المقام
السامي)، ليس بسبب ترهّل الذاكرة الجماعية، ولا بسبب توقّف
الناس عن المطالبة بالتغيير، ولكن هو التحوّل الكبير والعميق
الذي حصل في مجالي: وسائل الاحتجاج وهوية المحتّجين، فثقافة
العريضة تتوارى تدريجاً وتنحصر في فئة تنتمي الى جيل سابق،
أي جيل ما قبل العولمة الاتصالية، أو ما يعرف شعبياً بجيل
الانترنت والتويتر والفيسبوك..أما أولئك الذين مازالوا
يخضعون تحت نفوذ الثقافة التقليدية، فإنّهم لا يعدو أن
يخلون الساحة لجيل من الشباب الذي يغمر الساحات بأفكار
في الاحتجاج، في التعبير، في التمثيل الشعبي..
على مدى عقود عدّة سابقة، كانت (العرائض) الوسيلة الوحيدة
التي يلوذ بها دعاة الإصلاح والناشطون السياسيون من أجل
الدفع باتجاه إحداث تغييرات سياسية جزئية في بلدانهم.
هذا كان حال الإصلاحيين في المملكة، رغم أن النتائج كانت
في الغالب متواضعة إن لم تكن سلبية. ولطالما اكتفى دعاة
التغيير بـ (رفع العريضة) الى القيادة السياسية ملكاَ
أم أميراً عن غيرها من الوسائل ما سهّل احتواء أو حتى
ضرب أصحابها، ببساطة لأن الإصلاحيين وضعوا رهانهم بالكامل
على استجابة القيادة السياسية لما ورد في عرائضهم من مطالب،
وهو ما لم يحصل في أي من هذه البلدان.
ولو رجع الإصلاحيون إلى إرشيف عرائضهم، وتأملوا في
المطالب الواردة فيها، وما تم إنجازه على الأرض، فسيصيبهم
الحزن والإحباط لأن الحكومة إما: تجاهلت العرائض بصورة
تامة ولم تكترث لما فيها من مطالب، أو أنها استعملت إسلوب
الخداع بشكله القديم بإضفاء تغييرات شكلية وتجميلية على
النظام السياسي، أو أنها لجأت الى التنكيل بالشخصيات الفاعلة
والمحرّكة لـ (العرائض). وإن أقصى ما تطوّر في أساليب
الحكومة هو الجمع بين التغيير الشكلي والقمع حتى لا يعرّض
الحكّام حلفاءهم في الغرب لمواقف محرجة، إذ لطالما تردّد
في وسائل الإعلام الأميركية والأوروبية أن الغرب هو من
يوفّر كل أشكال الدعم للديكتاتوريات في الشرق الأوسط،
وعلى وجه الخصوص مشيخات النفط.
الآن، برز مشهد جديد في المملكة ومنطقة الخليج بصورة
عامة، بعد هبوب رياح التغيير وانطلاق الربيع العربي في
الشرق الأوسط، إذ لم يعد خيار (رفع العرائض) ضمن مفضّلة
الشعوب في هذه المنطقة، يعزّز ذلك استمرار الحكومة في
استعمال ذات الأسلوب القديم في التعاطي مع المطالب الإصلاحية.
وأبرز مثال الآن هو ما يجري في السعودية التي شهدت ذات
مرحلة ما يمكن أن نطلق عليه (حراكاً عرائضياً) للمطالبة
بـ (ملكية دستورية)، فجاء الرد الرسمي مخيّباً وبائساً
وإن أقصى ما بلغته درجة الاستجابة الرسمية هو السماح للمرأة
بالتصويت (وليس الترشيح) في الانتخابات البلدية، إلى جانب
بعض التقديمات الإجتماعية التي لا صلة لها بالمطالب السياسية
الكبرى.
ما يمكن الخروج به من قراءة التجارب المطلبية في السعودية
التي تقترب من لحظة الفعل الإحتجاجي الشعبي، رغم محاولات
حثيثة للنأي بنفسها عن أي تأثيرات الحراك الثوري العربي،
أن الشارع بات خياراً ناجزاً، وأن انعدام الثقة بين الشعوب
والحكومات يجعل الشارع ميدان الحسم والتغيير، ولابد أن
يتنبّه الإصلاحيون الى أن الحكومة عاجزة حد الشلل عن إصلاح
ذاتها ولابد من أن ينتزعوا زمام المبادرة من أجل فرض التغيير
عن طريق الاحتجاج الشعبي السلمي، أي الشارع.
لقد تبدّلت أدوات التعبير عن المطالب، وأن لغة العرائض
باتت من الماضي، ويفترض أن الإصلاحيين توصّلوا الى هذه
الحقيقة والقناعة كما أن النظام نفسه بات عصيّاً على حتى
قبول هذا النوع من المطالب..الشيخ الصحوي ناصر العمر تحدّث
بعد سنوات طويلة من الحادثة عن رد فعل مستشار الملك عبد
الله إزاء عريضة رفعها الصحويون للمطالبة بتغييرات في
النظام السياسي والتشريعي وفق رؤية التيار الديني السلفي.
الإصلاحيون ومنذ قيام السلطات الأمنية باعتقال الرموز
الاصلاحية في مارس 2004 أصيبوا بخيبة أمل كبيرة، ولم يعد
هناك ما يبرر استئناف لغة العرائض، لأن الثمار المرّة
التي حصدوها كانت كفيلة بأن تجعلهم يكفّوا عن هذا الأسلوب،
فقد ذاقوا الأمرّين سجناً وتعذيباً وقمعاً الى جانب تشكيلة
واسعة من العقوبات على المستوين الفردي والجماعي.
اليوم باتت الشاشة، سواء التلفزيونية أو الالكترونية
هي بمثابة عريضة شعبية تفاعلية، يشارك فيها عدد كبير من
الناس قد يصل الى مئات الآلاف من المواطنين، وإن هذه العريضة
تبقى مفتوحة لمزيد من المطالب والاعداد، وأن الحكومة معنية
بالجواب عنها عملياً أو للشعب عبر قرارات مقنعة، وفي غير
هذه الحالة فإن الشاشة تبقى مفتوحة، لمزيد من المطالب،
ولكن الأهم من ذلك أن ما يقال على الشاشة ينتقل في بعض
الأحيان الى الساحة.
|