السعودية: الأزمة السورية والسقوط الأخلاقي
ناصر عنقاوي
قبل الدخول الى صلب الموضوع، لابد من تثبيت حقائق:
الاولى ـ أن النظام السياسي السوري، كبقية الأنظمة
السياسية العربية بلا استثناء، مستبد وشمولي، ولا يعتبر
ذلك تبرئة لبقية الأنظمة فهي جميعاً في الاستبداد والانحطاط
سواء..
الثانية ـ الشعب السوري، كبقية شعوب الشرق الأوسط،
جدير بنظام سياسي ديمقراطي تعددي يحّقق مبدأ المشاركة
الشعبية، والتداول السلمي للسلطة. وليس في هذا الموقف
انتقاصاً لحق الشعوب العربية الأخرى في نيل هذا المطلب،
وخصوصاً شعوب الخليج التي جار عليها الأقربون والأبعدون،
حتى ظّن العالم بأسره أن الخليج لا يعدو مجرد خزّان بترول
أو مكتب عمل.
الثالثة ـ الثورة السورية جرى اختطافها في مرحلة مبكرة
من قبل دول إقليمية على رأسها السعودية وقطر وتركيا، وقوى
دولية على رأسها الولايات المتحدة وفرنسا، وتنظيمات إرهابية
مثل القاعدة.
هذا يعني بكل بساطة أن الثورة السورية لم تعد قائمة
اليوم، وما يوجد هو حرب بين قوات النظام السوري بتشكيلات
قديمة وحديثة (اللجان الشعبية وقوات الدفاع الوطني) مدعومة
من روسيا والصين وايران وحزب الله، في مقابل تشكيلة واسعة
من الجماعات المسلّحة المدعومة مالياً وتسليحياً من السعودية
وقطر وتركيا والمؤلفة من جبهة النصرة بعناصرها القادمين
من كل أرجاء العالم إلى جانب العناصر العسكرية المنشّقة
عن الجيش النظامي والمندرجة تحت عنوان (الجيش السوري الحر)،
وبين العنوانين عشرات الرايات والتشكيلات الفرعية..وتبقى
المعارضة السياسية في الخارج مجرد واجهات تابعة من الناحيتين
التمويلية والسياسية لمحور إقليمي ـ دولي تقوده الولايات
المتحدة..
الرابعة ـ الحرب الدائرة في سوريا لا صلة لها البته
بالديمقراطية أو الشعارات التي رفعت في بداية الثورة،
بل هي حرب محاور دولية، وصراع دولي لجهة السيطرة على سوريا..
وإن التشديد على العنوان الثوري والديمقراطي لا يغيّر
من الحقائق الميدانية، بل يضرّ بصدقية الأطراف المتناحرة
كافة.
الخامسة ـ تتحمّل الولايات المتحدة والغرب عموماً مسؤولية
أخلاقية وقانونية في إجهاض الثورة السورية السلمية عبر
إقحامها في إتون حرب طاحنة، وكذلك دعم دول شمولية مثل
قطر والسعودية بذريعة الحرب على سوريا، الى حد التغاضي
عن سابق إصرار عن الانتهاكات الفاضحة لحقوق الانسان، وجرائم
قتل أو اعتقال ضد ناشطين حقوقيين وإصلاحيين. هذا ما حصل
في البحرين، والسعودية، المشارك الرئيسي في الحرب في سوريا.
ندخل الآن الى موضوعنا الرئيس، وبنفس القدر من الصراحة
والجرأة نقول بأن ما يجري الآن في سوريا وعليها وفي صميم
أزمتها وتخومها لا يحيد عن عنوان السقوط الأخلاقي المريع
وغير المسبوق، وإن الأغلبية الساحقة من المتصارعين على
سوريا لديهم أجندات خاصة لا صلة لها بأمن سوريا ولا استقرارها..
ولا ديمقرطتها!
ما تعكسه الشاشات التلفزيونية، ومقالات الصحف، والمنتديات
الحوارية زعماً، ومواقع التواصل الاجتماعي، وتصريحات المعنيين
زعماً بالمسألة السورية، يفصح وبكل وضوح عن مجون سياسي
وأخلاقي..
عمليات استئصال معنوية وجسدية متبادلة بين الأطراف
المتناحرة.. ونفي متبادل، أي نفي كل طرف لحق الطرف الآخر
في الوجود، يترجم في صورة شتى، ويعبّر عنّه بلغة بذيئة
تخرج الإنسان من آدميته.
في هذا السقوط، لا فرق فيه بين أحد.. رجال الدين والدنيا
على قدم المساواة في هذا السقوط..
الدين يستعمل كمسوّغ للقتل ولانتهاك المحرّم الاخلاقي
والانساني.. يستحضر الاستئصاليون آيات الاثخان في القتل،
وإنزال الرعب، لا السكينة، في قلوب الخصوم.. ينتزعون عداوة
افتراضية لله ضد خلقه.
ينزل أصناف من البشر الى الشارع: المثقف، الداعية،
المفتي، الكاتب، الصحافي، الاكاديمي، المفكّر، المقدّم
التلفزيوني والاذاعي وحتى الأطباء وملائكة الرحمة.. بات
هؤلاء في الشارع لغة، وسلوكاً.. الجميع سواسية في البذاءة،
والكذب، والطيش. حفلة مجون ليس فيها ما يدلّ على جنس بشر
سوى الهياكل العظمية بجماجم فارغة يتردد فيها صدى الأفكار
المجدبة.
وطالما هو (آخر) يجوز بحقه كل شيء..لا فاصلة بين الأدنى
والأقصى في معاقبة الخصم، فقد يكون الموت هو الأدنى عقوبة
في التعامل مع أبسط اختلاف في الأفكار. شيء واحد يترجمه
هذا المشهد المنفلت: أن الانسان كائن عدواني.
الشيخ يوسف القرضاوي يصدر فتوى بتكفير الطائفة العلوية
ويعتبرها أشد عداوة من اليهود وتصبح في جو شديد الاحتقان
فتوى عادية ومقبولة، تماماً كفتوى اللحيدان بجواز قتل
ثلث الشعب السوري كيما ينعم الثلثان بالحياة، ففي مثل
هذه الانحطاط القيمي يصبح الدين نفسه مكوّناً قبيحاً في
صراع شديد الانحطاط..هل تسأل حينئذ عن سر تفشي ظاهر الالحاد
في بلاد المشرق ـ السعودية بالذات؟!
فتاوى في اتجاه واحد تترجم بأمانة عالية العبث وبازدراء
فاضح بكل ما هو قيمة أخلاقية.. وحين يكون آل سعود وراء
فتوى تصدر عن علماء الأزهر.. فلا بد أن تنكّس الأعلام
حداداً على كرامة أمة يكون فيها آل سعود عنوانها!. قاتل
الله المال النفطي الذي يتقيأ على لسان من يؤمّل فيهم
تمثيل الأمة، وليس (أهل السنة والجماعة)، المصطلح الوهابي
المفروض، عنوة وابتذالاً، على علماء الأزهر، بعد أن كانت
الأمة عنوان خطابهم.
في ظل الاستقطاب السياسي والطائفي على خلفية الأزمة
السورية، لا معنى فيه للإنسان، و للقانون، فثمة غطاء محوري
كفيل بتبرئة الجرائم الاخلاقية والسياسية الأمنية.. تمجيد
عمليات إرهابية، وتكفير الخصوم، المحرّض على ارتكاب جرائم
القتل. ثمة صحف تحوّلت الى ما يشبه مراكز أمنية تتوّعد
جمهور القراء بعقاب جماعي، وثمة شاشات تلفزيونية تبّث
حوارات عقيمة تنضح كراهية وتحرّض على الفتنة.
تشابك الديني بالسياسي وبالعكس، والتصويب على المذهب
من القناة السياسية، يبطن عن لا أخلاقية على الإطلاق إذ
تؤخذ طائفة بأكملها بموقف شخص ينتمي إليها.
نشاطات جماهيرية تحت عناوين شتى، سياسية وفنية وأدبية
(مدفوعة الثمن سلفاً) لا تمّت بصلة إلى الإبداع الفني
وحرية التعبير، بل هي جزء من حرب المحاور، لا تلبث أن
تنقلب إلى فاصل هلوسة جماعية مضمخة بكل مفردات وصور البذاءة..
في مثل هذا الأرضية عالية الخصوبة للنزعات الوصولية
يصبح (التنفّع) سمة الصفقات القذرة، فاستدراج عروض فتنوية
هنا وهناك لا يتطلب سوى العثور على القناة المناسبة الموصلة
الى المال النفطي، الملوّث بدماء الأبرياء، وعرق الفقراء
والمعدمين، وبصمات العمالة لكل ما هو أجنبي، استعماري.
للتذكير فحسب، يكتشف البعض بأن الاستعمار والصهيونية حملان
ودودان!
ليس ثمة محظور أخلاقي، فكل ما له صلة بالدم والكرامة
الإنسانية وتحت العنوان السوري أيضاً بات (برسم البيع)..
* * *
اللهم هب أهل الدين التقوى واخرج حب الدنيا من قلوبهم
ولا تجعلها أكبر همهم ومبلغ علمهم، وامنح أهل المروءة
النبل، وأهل العروبة الشهامة، اللهم لا تسلب هذه الأمة
روحها، ولا تسلّط عليها من لا عهد له بالكرامة، ولا سابقة
له في العزّة وشرف الاستقامة، ولا تجعل أئمة الفتنة لسانها.
اللهم أخرج هذه الأمّة من قبضة الاستبداد، وربقة الاستعمار،
وفتنة الأشرار، وكيد الفجّار. ياعزيز يا غفّار.
|