رهانات هالكة
ربح كامل أو خسارة كاملة
من يراقب الاداء السياسي السعودي في الخارج العربي
يدرك بأن آخر ما يمكن أن تحرّكه هي الحكمة، فثمة رهانات
مقطوعة ونهائية، فإما أن تكسب الرهان كله أو تخسره
كله، ولا مجال للتسويات أو المقايضات
فريد أيهم
السعودية اختارت أن تضع نفسها في مواجهة مع كل من يختلف
معها، وكأنها لا تطيق العيش مع غيرها. هي بالتأكيد سياسة
قديمة، وتعود الى نشأة الدولة، فهي قامت على خصومة مع
ال الرشيد والأشراف والأدارسة والدولة العثمانية والهاشميين
ومن ثم الناصرية، وكانت تضمر خصومات جمّة ضد شعوب وحكومات
ومنظمات وشخصيات.. ولكنها تلوذ بالمواربة والمخاتلة والخداع
في أحيان كثيرة.
أما اليوم، فإن السياسة الخارجية السعودية تتسم بالمباشرة
والشراسة والصدام، وكأنها تملك قوة جبّارة على إنهاء وجود
خصومها دولاً وحكومات وجماعات، وهي اليوم في وضع لا تحسد
عليها من حيث كثرة الخصوم، وخصوصاً مع الشعوب، فضلاً عن
الحكومات.. وأينما صوّبت نظرك لا تجد سوى ضلوع مباشر وسافر
في شؤون الدول الأخرى، ولا ترضى بغير تصفية خصومها بديلاً
أو عزلهم أو اغتيالهم معنوياً ومادياً.
في لبنان، المثال الذي سوف يكون حاضراً بكثافة في هذه
المقالة، شهد تحوّلاً مفاجئاً بعد استدراج رئيس حكومة
تصريف الاعمال نجيب ميقاتي الى خدعة رئيس كتلة اللقاء
الديمقراطي البرلمانية وليد جنبلاط بتقديم استقالته كرد
على رفض التمديد للواء أشرف ريفي، مدير قوى الأمن الداخلي
السابق، وبذلك خسر ميقاتي باستقالته حلفاءه السابقين في
14 آذار وأصدقاءه اللاحقين في 8 آذار. على أية حال، فإن
الاستقالة فتحت الباب أمام عودة النفوذ السعودي بعد تراجع
أصوات الموالاة الجدد لصالح تيار المستقبل، فطار تمّام
سلام الى الرياض ليعود منها رئيساً مكلّفاً بتشكيل الحكومة،
بعد زيارات تنسيقية بين جنبلاط وبندر بن سلطان، رئيس الاستخبارات
العامة، والمسؤول المباشر عن الملف اللبناني.
منذئذ، شهدت الخطة السعودية مرحلتين:
|
عسيري: البحث
عن تشققات في 8 آذار |
الاولى ـ الانفتاح غير المشروط على
الأطراف كافة، تطبيقاً لكذبة (المملكة تقف على
مسافة واحدة من جميع الأفرقاء). وكانت تقوم الخطة على
أن النظام السوري يشارف على السقوط، ولابد من تهدئة الأوضاع
في لبنان الى حين يتحقق الهدف وبذلك تؤكل لبنان وسوريا
معاً. كانت لافتة تصريحات سفير ال سعود في بيروت علي عواض
عسيري حول حزب الله، وانفتاحه عليه، ودعوته له بزيارة
المملكة، وخروجه على شاشة (المنار) التابعة للحزب، أعقبها
تصريح لرئيس تيار المستقبل سعد الحريري وهو يوصّف حزب
الله بأنه قوة وازنة في لبنان. إنفتاح لافت، ولهجة وديّة
غير مسبوقة. كان الهدف من تلك التهدئة هو إنجاح مهمة تمّام
سلام في تشكيل حكومة انتخابات حتى يعود فريق 14 آذار الى
السلطة، وبذلك يعود النفوذ السعودي قوياً الى لبنان. وبسقوط
النظام السوري يكون النفوذ قد شمل منطقة واسعة تمتد من
الرياض الى بيروت ويقضي على المعسكر الايراني.
الثانية ـ المقاطعة والعزل،
حيث وقعت معركة القصير فتبدّل كل شيء، وكأن مشروع
بندر قد انهار بصورة كاملة. وكأن القصير كانت الحجر الذي
كان يحفظ قوام البنائين اللبناني والسوري، وحين سقطت القصير
في يد النظام السوري بدعم من مقاتلي حزب الله، تبدّد الحلم
السعودي، فانهار على الفور مشروع تأليف الحكومة، وتبدّلت
اللهجة، وبدأ السفير السعودي عسيري هجمة شرسة على حزب
الله، وراح يفتّش عن أي تشققات في جدار 8 آذار للنفوذ
منها وإضعاف الحزب. وفي هذا السياق جاءت زيارة عسيري الى
زعيم التيار الوطني الحر ميشال عون، التي فهمها الجميع
معارضة وموالاة على أنها استثمار للخلاف الطارىء بين الحزب
والتيار. ثم أعقب ذلك حملة واسعة النطاق من قبل شخصيات
فريق 14 آذار وبلغة مذهبية غير معهودة، محمولة على شعار
عدم مشاركة حزب الله في الحكومة، تتوجت بخطاب الإفطار
الذي ألقاه سعد الحريري والذي لم يأت بجديد، فقد كرّسه
للهجوم على حزب الله، وختمه بعرض يتّسم بالطفولية السياسية،
ويندرج في سياق عزل الحزب، حيث اقترح عدم مشاركة الأخير
وتيار المستقبل في الحكومة العتيدة.
منذ سقوط القصير، أصبحت فكرة عزل حزب الله عن العملية
السياسية في لبنان محور تحرّك فريق 14 آذار، بل لا يكاد
يوجد هدف آخر غيره.. وهذه الفكرة ليست ابتكاراً لبنانياً،
بل سعوديا بامتياز، لا يوازيها سوى فكرة عزل (الاخوان)
عن الحياة السياسية في مصر، وتونس، وليبيا، والاردن وغيرها.
منذ سقوط القصير، أصبحت فكرة عزل حزب الله عن العملية
السياسية في لبنان محور تحرّك فريق 14 آذار، بل لا يكاد
يوجد هدف آخر غيره.. وهذه الفكرة ليست ابتكاراً لبنانياً،
بل سعوديا بامتياز، لا يوازيها سوى فكرة عزل (الاخوان)
عن الحياة السياسية في مصر، وتونس، وليبيا، والاردن وغيرها.
من يرى التحوّل الدراماتيكي في الموقف السعودي لا يصدّق
كيف أن ال سعود الذين اعتقدوا للحظة بأن استقالة ميقاتي
وتكليف تمّام سلام بتأليف الحكومة أفضى الى إمساكهم مجدداً
بملف لبنان، ولكن التطوّرات اللاحقة في الميدان السوري
قوّضت تلك الآمال سريعاً.
داخلياً، تغيّر المشهد السياسي السعودي، ثمة تحرّكات
عاجلة وتقارير مستعجلة وصلت الى رأس الهرم في السلطة،
وروايات نسجت حول حقيقة ما رافق العودة المفاجئة للملك
عبدالله من المغرب الى الديار.. تحليق مكثّف لطائرات (الأواكس)
في سماء البلاد، وتحركات عسكرية شهدتها إحدى أبرز القواعد
العسكرية الجوية في شمال المملكة (تبوك). صحيح أن الأميركيين
يمسكون بزمام المفاصل الأمامية، ولكن قلق آل سعود مقيم
حتى إشعار آخر.
لعب بندر دوراً رئيساً وربما تعويضياً في إحباط محاولة
انقلاب أخيه خالد بن سلطان على عمّه الملك عبد الله. وبندر
الذي وضع نصب عينيه تعزيز الشراكة الاستراتيجية مع الولايات
المتحدة، يتصرّف بوصفه وكيلاً عنها، ومعتمدها في صراعات
المنطقة. فهو في نظر واشنطن يحقق انجازات على الأرض، خصوصاً
وقد أخلى القطري مكانه بعد استقالة الأمير وصديقه اللدود
حمد بن جاسم، رئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق، وتراجع
الدور التركي الى الوراء بفعل: الاحتجاجات الشعبية داخل
تركيا، وسقوط حكم الاخوان في مصر، الحليف لأنقرة.
|
جنبلاط: التنسيق
مع الأمير بندر |
حاول السعوديون تحقيق اختراق سياسي في الملف السوري،
ونقلت صحيفة (السفير) في 26 يوليو الماضي خبراً يفيد بأنه
قبيل رمضان من العام 2012، بعث الملك عبد الله برسالة
واضحة (عبر موفد سوري) إلى بشار الأسد مفادها: (فُكّ ارتباطك
بالإيرانيين.. ونضمن لك بقاءك في السلطة وإنهاء الحراك).
وتضيف الصحيفة: ولسبب لا يملك الايرانيون تفسيراً له حتى
الآن، فإن الأسد استمزجهم الرأي في ما وصله، وكان ذلك
سبباً كافياً كي يتركوا له هامش اتخاذ القرار الذي يعتقد
أنه الأنسب، قبل أن يفاجأوا بأنه أعطى جواباً سلبياً للسعوديين،
كان كافياً كي يصبح شعار إسقاط النظام أولوية خليجية،
فكانت معركة دمشق في رمضان 2012 ومن بعدها، قرر الإيرانيون
ومعهم حزب الله، الانخراط في المعركة مهما كانت الكلفة
عالية.
ومنذاك، بدأت السعودية تسلك طريقاً مختلفاً بل مدمّراً
في التعامل مع النظام السوري، خصوصاً بعد أن أمسك بندر
بن سلطان بملف سوريا السياسي والتمويلي والتسليحي. كان
بندر يعتمد كثيراً على أخيه غير الشقيق سلمان بن سلطان،
نائبه في الشؤون الأمنية والاستخبارية، والذي عيّن مؤخراً
في منصب نائب وزير الدفاع، وكان يدير (غرفة العمليات السورية)
من العاصمة الأردنية، عمّان.
منذ خسارة بندر معركة القصير، تراجعت حماسته لقضية
تأليف الحكومة، وكل من زاره من اللبنانيين لم يسمع ما
يسرّه من القول في هذا الصدد، بل اكتشفوا بأن لبنان قضية
ثانوية، وأن العين كل العين على سوريا، فإن ربحها ال سعود
ربحوا ما سواها، وإن خسروا الحرب فيها خسروا أيضاً ما
سواها.
اللبنانيون لحظوا ذلك في غياب السفير السعودي عن الساحة
اللبنانية طيلة شهر رمضان، ما يعني أن لبنان ليس أولوية
سعودية. تنقل (السفير): قالها بندر ومدير مكتبه لكل من
راجعه لبنانياً: والسبب هو معركة القصير. ما لم تقله الصحيفة،
هو أن وائل أبو فاعور، الوزير وعضو اللقاء اللديقراطي
بقيادة جنبلاط، سمع كلاماً واضحاً من بندر بن سلطان الذي
قال له بأن خط الرجعة مع بشار محتمل والصلح مع إيران ممكن،
ولكن من المستحيل أن نفعل ذلك مع حزب الله. سعود الفيصل
وصف الأخير بأنه عدو.
وذكرت (السفير) بأن الإجراءات العقابية ضد الحزب من
قبل مجلس التعاون الخليجي كانت بمثابة ورقة ضغط على الأوروبيين.
ونقلت عن مسؤول سعودي كبير لوزير خارجية دولة أوروبية
قوله: (هل يُعقل أن تصنف دولنا «حزب الله» إرهابياً وأنتم
تصرّون على التعامل معه بعدما قاتل الى جانب النظام في
سوريا؟). وكانت تلك كافية لتبديد تحفظات تلك الدولة وغيرها
من دول الاتحاد الأوروبي، وجاء الضغط الأميركي والإسرائيلي
ليجعل المستحيل على مدى عشر سنوات، ممكناً في أقل من عشرة
ايام.
على أية حال، فإن لبنان برمته لم يعد يكتسب أهميته
التي كان عليها قبل سقوط القصير، وبالتالي تراجعت اهميته
سعودياً ما يجعل تشكيل الحكومة أمراً مستبعداً لأن الدوافع
وراءه ضعيفة، ولأن لبنان في نظر ال سعود مجرد ملحق في
الخارطة الجيوبوليتيكية السورية.
هذه المقاربة تزعج حلفاء آل سعود في لبنان، خصوصاً
فريق 14 آذار الذي مهما بلغ مستوى النفاق السياسي لديه
فهو ينظر الى السعودية كصرّاف آلي ضخم، ولذلك يفتعلون
الخصومات والمعارك وتضخيم القضايا وتكبير الأحجار، والهدف
واضح: المال السعودي. رفع اليد السعودية عن لبنان يعني
وقف تدفق المال، لأن آل سعود يرون بأن (مصير لبنان يتحدد
في سوريا) بحسب ميسم رزق من صحيفة (الأخبار) في 2 أغسطس
الجاري. وتنقل رزق عن مسؤول في 14 آذار تفجّعه من توقف
المال السعودي: (كيف يتهمنا خصومنا بتلقي المال السعودي،
فيما المملكة توقفت عن دفع المال لمؤسسة خيرية سنيّة هي
جمعية المقاصد الواقفة على حافة الإفلاس؟). ونقلت رزق
كلاماً عن أحد أنصار تيار المستقبل حول (الدعم السّعودي
الاستثنائي المالي والسياسي، وحجم الأموال التي ضُخّت
في جيوب من قرّروا ركوب موجة النضال ضد سلاح حزب الله،
بين عامي 2005 و2008). ولكن في نهاية المطاف (تكتشف السعودية
أن عاطفتها تجاه 14 آذار لا تؤتي ثمارها، سوى أنها تزيد
من حجم كروش الزعماء، وتجدّد موديلات سياراتهم، وتزيد
من حجم حراستهم)، بحسب ما يقول.
في كل الاحوال، يبدو أن لبنان ساحة حرب جديدة في المعركة
الكبرى في سوريا، وهذا أقصى ما يخطط له بندر، فهو لن ينظر
الى لبنان باعتباره كياناً مستقلاً يجب التعامل معه بعيداً
عن أي حسابات أخرى. ال سعود اليوم يقودون ثورة مضادة على
امتداد خارطة الوطن العربي، ولن يترددوا في فعل كل ما
من شأنه الحفاظ على تفوّقهم أو درء أخطار قد تصيبهم في
أي بقعة..
الرياض لديها مشاريع طموحة بأن تفرض نفوذها على مصر
وتونس وليبيا واليمن والبحرين والعراق ولبنان وسوريا.
ولكن هل تستطيع هضم كل هذه الدول العريقة في تكوينها وتجاربها؟
نشك في ذلك، ولذلك فإن لبنان الضعيف في بنيته سوف يبقى
عصيّاً على الهضم، وهو اليوم يربك بل يعطل مشروع اسقاط
النظام السوري!
|