الدولة الضدّية
إذا أمكن تقديم خلاصة مكثّفة لتقييم الدولة السعودية،
فإنها ظاهرة ضدّية في التاريخ العربي والاسلامي، لأنها
قامت على أساس التناقض مع المحيط والانفصال عنه، والانقضاض
عليه، أي بلغة دينية تكفير المحيط ثم هجرته وثالثاً إعلان
الجهاد عليه. وهذا الثالوث (التكفير والهجرة والجهاد)،
يحقق فكرة الدولة الضدّية، إذ لو عدنا الى الأدبيات الوهابية
منذ إعلان الشيخ محمد بن عبد الوهاب دعوته في نجد ومن
ثم في خارجها فسوف نجد أن فكرة الضدّية كانت راسخة في
كتاباته ورسائله وكذا الحال بالنسبة لأبنائه وأحفاده وأهل
دعوته. فقد قامت رؤية الوهابية على اعتبار أن المحيط غارق
في الكفر منذ قرون، وتحديداً منذ وفاة الشيخ إبن تيمية
في القرن الثامن الهجري وصولاً الى زمان الشيخ محمد بن
عبد الوهاب في القرن الثالث عشر الهجري، وهو ما عبّر عنه
بعض أقطاب المذهب حين زعموا بأن الناس لم تكن على شيء
منذ غياب شمس الشيخ إبن تيمية وأن ظهور الشيخ محمد بن
عبد الوهاب عاد الى الدين رسمه وقامت للإسلام رايته وأركانه..
النزعة الضدّية رافقت الدولة السعودية الوهابية منذ
النشأة، وكانت تحقق وجودها عبر تمرّدها على الأغلبية الساحقة
من المسلمين الذين أخرجهم محمد بن عبد الوهاب وأحفاده
من بعده من دائرة الاسلام، وراح يبعث بالرسائل والوفود،
متقمّصاً شخصية رسولية مزعومة، الى المناطق القريبة والنائية
يدعوهم الى اعتناق دعوته والإنضواء تحت قيادته، وقد استهجن
ذلك كل علماء المسلمين الذين نظروا اليه باعتباره مدّعياً
وليس داعياً، يريد بسط سلطته بإسم الدين، وشرعنة الدولة
السعودية عبر تكفير المجتمعات الاسلامية التي لا تدين
بالوهابية، وهذا ما ظهر في فتاوى تكفيرية صدرت عن مشايخ
المذهب في القديم والحديث طالبت المدارس والتيارات والمذاهب
الاسلامية الكبرى من المعتزلة والاشاعرة والماتريدية دع
عنك المذاهب الشيعية الامامية والزيدية والاسماعيلية إلى
جانب مذهب الاباضية..
وحين قامت الدولة السعودية الثالثة العام 1932، لم
يكف آل سعود عن النزعة الضدّية بل جرى توظيفها في السياسة،
فخاض عبد العزيز معاركه مع الاشراف والادارسة والهاشميين،
وبعد موته دخل آل سعود في معارك مع الناصرية التي مثّلت
حلم تحرر لكثير من الشعوب العربية، والتي على أساسها وقعت
تغييرات ثورية انقلابية في ليبيا والعراق واليمن وسوريا
ولبنان وكادت التغييرات تستوعب السعودية لولا تدخّل الاميركيين
وتوليد مشروع ديني ضدّي لمواجهة القومية الناصرية، ولاذت
المؤسسة الدينية الوهابية الى خطاب التكفير لمواجهة انبثاث
الناصرية في العالم العربي..في تقارير إستخبارية وسياسية
مصرية وأميركية كلام كثير حول تنسيق سعودي اسرائيلي للتصدي
المشترك للناصرية سواء عبر حرب 1967 أو حرب اليمن لمشاغلة
الجيش المصري بعيداً عن السعودية واسرائيل..
انحسر ظل الناصرية مع رحيل الزعيم جمال عبد الناصر
العام 1970، وجرى الحديث عن (الحقبة السعودية)، التي مثّلت
انتكاسة في تاريخ الأمة العربية في العصر الحديث، ولعب
العامل النفطي دوراً مركزياً في احتواء كل الثورات العربية
من شمال أفريقيا ونزولاً الى جنوب الجزيرة العربية وصعوداً
الى العراق في الشمال..
اندلعت الثورة الايرانية في منتصف 1978 وأسقطت الشاه
بعد شهور من اعلانها وتشكّلت الجمهورية الاسلامية العام
1979 بقيادة آية الله الخميني، ووجدت السعودية فيها مشروعاً
ضدّياً ليس فقط على أساس مذهبي (شيعي/وهابي) بل وعلى أساس
فكري وحركي، حيث لأول مرة في التاريخ الحديث تقوم دولة
دينية منافسة للدولة الوهابية، وتأتي بتفسير ثوري للإسلام
يتناقض مع التفسير المحافظ الذي جاءت به الوهابية، مع
فارق كبير تمثّل في أن الاسلام الثوري طال الاستبداد الشاهنشاي
والاستعمار الغربي بكل أشكاله كما تردد في شعارات الشعب
الايراني..
الضدّية مع المشروع الثوري الايراني وفّرت مبرر الحرب
على الجمهورية الناشئة، فتولى آل سعود مهمة توفير كل متطلباتها،
فكانت الاموال والأسلحة تتدفق بسخاء غير معهود الى نظام
صدام حسين الذي تلقى دعماً مفتوحاً لوقف ما أطلق عليه
(تصدير الثورة) الايرانية الى دول الخليج، تحت عنوان (حماية
البوابة الشرقية) للعرب..
دامت الحرب ثماني سنوات، وحصدت مليون قتيل ومائة وخمسين
مليار دولار، وتوقفت بعد انهاك للجيشين الايراني والعراقي،
وحين عاد الأخير من الجبهات لم يجد المكافأة، بل على العكس
انفجر نزاع الحقوق النفطية مع الكويت، ولم تنجح اجتماعات
جدة بحضور نائب الرئيس العراقي الأسبق عزّت الدوري في
حل المشكلة، وما لبث أن دخلت القوات العراقية الكويت في
الثاني من آب أغسطس 1990، وتلى ذلك تشكّيل تحالف دولي
بقيادة الولايات المتحدة حيث قدمت قوات مؤلفة من 500 ألف
جندي الى الجزيرة العربية، وهنا انفجر الخلاف الداخلي،
أو بالأحرى ضدية ذات طابع محلي، وخرج ما عرف بتيار الصحوة
ليعلن تمرّده على انحراف مشروع الدولة السعودية..
تيار الصحوة ولّد فروعاً ضدّية ووفّر بيئة ثقافية واجتماعية
لنشأة القاعدة، ولا يزال يخرج ضدّيات متناسلة منه تعود
في جذورها ومبرراتها الى ضدّية المشروع السعودي الوهابي
نفسه..
اعتقد آل سعود بأن ضدّيتهم قد أنقذت بعد ضربة الحادي
عشر من سبتمبر التي كادت أن تودي بالدولة السعودية، وعملت
لسنوات من أجل احتواء تداعيات الوضع عبر صفقات الأسلحة
وشراء الولاءات، ولكن بعد أقل من عقد من الزمن انفجر الربيع
العربي وبدت الأنظمة العربية كأحجار الدينمو تتساقط الواحد
تلو الآخر، وكان النظام السعودي مرشحّاً على الدوام لأن
يشهد تلك الخضّة الشعبية التي تطيح به، لولا تدخل الأميركيين
والمال النفطي وعوامل الانقسام الاجتماعي الذي اشتغل ال
سعود على تعزيزها عبر اثارة الغرائز الطائفية..
اليوم يشهد المشروع الوهابي السعودي أسوأ حالاته من
خلال تفجير أقصى ما يمكن أن تصل اليه ضدّيته، والتي من
المرجّح أن تقطع السبيل بهذا المشروع الذي لا يمكن أن
يعيش في محيط ضدّي بأكمله، لأن المشكلة هذه المرة ليست
مع أنظمة بل مع شعوب، فهل ينجو من يكون الشعب خصمه؟!
|