الدولة المستقيلة
قوامية الدول تكمن في قدرتها على الايفاء بحاجات الرعايا وإرساء نظام يدير شؤون الحياة المختلفة، ويتحقق فيه الاستقرار والأمن والرفاه. في مقابل ذلك، يحوز رئيس الدولة على ما وصف في تراث الفكر السياسي الاسلامي بصفقة اليد وثمرة القلب من الرعية. فالبيعة هنا مشروطة بقوامية الدولة، إذ لا يمكن تصوّر بيعة لحاكم يذيق المحكوم مرارة العيش، إذ أن شرط البيعة مفقود وهو القوامية. وإذا كانت بيعة الحاكم تسبق قواميته من حيث الزمن فإننا هنا لا نتعامل مع دول ديمقراطية بل مع دول قائمة على أساس توارث الحكم، فالبيعة هنا تكون مع الدولة أولاً ثم مع الحاكم تبعاً.
هناك من أولياء الأمر من يقدّمون البيعة على القوامية، إذ أن الحاكم يكون في فعله معذوراً أمام رعيته فيما لا معذورية فيه للرعية من التنصل من البيعة، وإن أسرف الحاكم في تنكيله برعيته، وجلد ظهورهم، وأذاقهم صنوف الحرمان..أليس هذا ما يخبرنا به بعض كتّاب القصر من السابقين. غير أن العبرة تكمن في النتائج وما نجمت عنه من كوارث في المجتمعات التي خضعت لولاة مستبدين، ألهتهم شهواتهم وأهواؤهم عما فيه صلاح رعيتهم ورغيد عيشها. فقد ورثت المجتمعات الاسلامية على مر التاريخ ذلاً يعقبه الاخفاق والهزائم المتكررة، وورث حكامنا تجارب الاستبداد والأثرة بالحكم، حتى فقدت الدولة معناها الحقيقي، فارتهنت بالكامل لرغبة الحاكم وإرادته في تسيير دفة البلاد والعباد.
إن الدولة التي ورثناها هي صورة طبقة الأصل لنموذج الدولة المخطوفة التي تعبّر عن إرادة فئة وليست إرادة الأمة، وعن مصالح مجموعة وليس الجميع..إنها دولة لا مسؤولة، لأن الطبقة الحاكمة فيها ترى بأن ما تقوم به إحساناً وليس واجباً، فإذا وهبت فإنما تهب مما تملك وإذا حرمت فليس عليها حساب. هذا هو الاساس الذي نشأت عليه الدولة في تاريخنا القديم والحديث، وإنغرس في وعي وأذهان المحكومين، فكل من يلوذ بها يحمل بداخله شعور الضعة والمسكنة لأنه يلوذ بمن بيده الخير وهو على كل شيء قدير!! هذا ما أشاعته الطبقة الحاكمة بين الرعية، وهذا ما يجب أن يترجمه سلوكها مع أهل الحكم.
في زمن الرخاء كانت الدولة تمنح العطايا وتقوم بما تعتقده شراء الذمم، فكانت ترى بأنها الواهب والمتفضل والمنّان على الناس، وكل ذلك قد حقق لها هيمنة على المجال العام، حيث كانت تمسك بمصادر الثروة وصناديق المال فتغدق على من تشاء لا لأن ذلك جزءا من وظائف مقررة عليها، وواجباً يجب عليها الاضطلاع به بل لأن ذلك يمنحها المزيد من الهيمنة والسيطرة على من تسود. ولذلك، ليس غريباً بأن يتحدث بعض الكبار عن عطايا(هم) وهباتـ(هم) وإنجازاتـ(هم) في ميادين التعليم والصحة والعمران والتنمية..فهم قد فعلوا كل تلك المعجزات من مدخرات قد ورثوها عن أسلافهم..
هذا كان حالهم فيما مضى من الايام، أما الآن وقد تبدّلت أحوال البلاد، فإن الحكام بقوا متمسكين بعقيدتهم في الحكم، إذ مازالوا مفتونين بنزعة الملك المطلق. إنهم وجدوا أنفسهم أمام مفترق طرق ويستبد بهم التردد في سلوك أي منها، من أجل الابقاء على الهيمنة المصاحبة للهبات والمنح..ولكن التاريخ لا يعود للوراء، فأزمات البلاد الراهنة قد ذهبت بأمجاد الطفرة، أضف الى ذلك أن أغلبية السكان هم من مواليد ما بعد الطفرة، فهم لم يتعرفوا على الدولة سوى من خلال إخفاقاتها المتتالية، ولم يحصدوا من سياساتها سوى الريح والألم والأمل المقتول.
هذه الدولة تعيش حالياً أزمة أخرى أشد خطورة وتأكل من قواميتها أولاً وأخيراً، فهي تكاد تختفي من ميادين المجد القديمة، فلا هي قادرة على وضع حلول لمشكلات في التعليم، والصحة، والتوظيف، والسكن والخدمات العامة ومشاريع التنمية الشاملة..حتى بلغ اليأس مداه بحيث لم يعد الناس يرجون منها الخلاص لمشكلاتهم. وأكثر من ذلك، أن الدولة تكاد من فرط عجزها أن تبوح جهراً للرعية بأنها لا تملك حلولاً لمشكلاتهم، وكأن القائمين عليها يخبرون عن وصية مودّع لا رجاء في شفائه.
دولاب الأزمات يدور والدولة تتعثر في سيرها، وتتخلى تدريجياً عن مسؤولياتها..وزاد العنف في الطنبور وتراً جديداً حين راحت الدولة تلهو بمحاربة جماعات العنف تاركة وراءها الواجبات الكبرى في إدارة مجتمع يضج بهمومه وآلامه، وإصراراً على السير نحو الاستقالة التامة، وإطفاء لغضب (الأخ الأكبر) الذي فرض عليها أن تحارب ظاهرة الارهاب وتهمل جذورها في الداخل.. تناست شبابها وهم يتدافعون بملفاتهم على أبواب مكاتب العمل والمؤسسات الخاصة والعامة بحثاً عن وظائف..وتناست آلاف المحرومين من مقاعد في الجامعات، وأهملت المستشفيات، والمراكز الصحية والخدمات العامة المتصلة بحياة المواطن اليومية، وأوقفت مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وفوق ذلك كله عطّلت مسار الاصلاح السياسي الشامل، الذي أصبح نافذة الأمل الوحيدة لدى المواطنين كيما يمر منها الهواء النقي..
كل ذلك ينبّه الى ما حذّر منه العلامة ابن خلدون حين تصل الدولة الى مرحلة الشيخوخة، حيث تفقد فيها ـ الدولة ـ القدرة على الحركة، ويستشري فيها الفساد، ويحتدم الصراع على السلطة داخل البيت الحاكم، ويكثر الطامعون في السلطة ممن هم خارجها، ويزداد عدد الناقمين والخارجين عليها، ويشيع المكر والخداع بين البطانة، وتجهر العامة بمخالفة القوانين، وتتراخى فيه الأواصر بين الحاكم والمحكومين، واخيراً يرون زوال السلطة فرجاً واندثارها مخرجاً.
|