قطر.. الطريق المعبّد في مواجهة الرياض!
سعدالدين منصوري
مع أفول، إن لم يكن انهيار، المشروع السياسي القطري
ـ التركي في المنطقة، تستيقظ المنطقة الخليجية على بدايات
إخراج السيوف من أغمادها من قبل الدوحة والرياض، بعد هدنة
استمرّت لسبع سنوات تقريباً.
قطر التي اتفق رئيس وزرائها ـ وزير الخارجية ايضاً
ـ السابق الشيخ حمد بن جبر آل ثاني، مع ولي العهد السعودي
الأسبق الأمير سلطان بن عبدالعزيز، على وقف قناة الجزيرة
حملاتها على السعودية، بعد فيلم (سوداء اليمامة)، مقابل
تعديل الحدود بين البلدين ـ حسب المصلحة القطرية ـ وعلى
أن لا تدعم قطر معارضين للنظام السعودي، او تستضيفهم،
وأن لا تبثّ مواداً ـ المقصود الجزيرة العربية ـ تعكّر
صفو العلاقات بين البلدين.
قطر هذه ومنذئذ، أواخر عام ٢٠٠٦، التزمت بالإتفاق الشفهي،
وأحْنَت رأسها للشقيقة الكبرى، وحصلت الأخيرة على مديح
غير معتاد من مسؤولي قطر، وهم الذين كانوا ينسقّون مع
القذافي لتفكيك مملكة آل سعود أو على الأقل إزعاجها.
سايرت قطر السياسات السعودية عامّة.
في الحقيقة لم يكن هناك قضايا حادّة اختلفوا بشأنها،
الى أن جاء الربيع العربي، والذي كان لقطر مالاً وإعلاماً
وسياسة واحتضاناً الدور الأبرز فيه، سواء كان ذاك في مصر
او في تونس او في اليمن، او ليبيا، او سوريا، أو حتى العراق
الذي يفترض ان يكون ـ وبالمقاييس الغربية ـ دولة ناشئة
باتجاه الديمقراطية. ومع هذا، كان الموقف القطري السعودي
متطابقاً إزاء العراق، وعدّته الدوحة بلداً من ضمن بلدان
الربيع العربي، أو هكذا توهّمت.
الربيع العربي ومشروعا قطر والسعودية
منذ الربيع العربي، ظهرت فجوات في المواقف السعودية
القطرية. بل في موقف قطر من دول وجماعات اعتبرت صديقة
او غير معادية، بما فيها ايران وسوريا وحزب الله وحتى
السودان. وبهذا المعنى يمكن القول ان قطر كانت قريبة من
الموقف السعودي.
لكن الذي حدث بسبب الدول الربيعية العربية الأخرى جاء
مختلفاً.
فقطر بلورت مشروعها السياسي على أساس (التغيير) ودعم
الثورات في اتجاهات معيّنة، حتى وإن جلب عليها العداء،
أو حتى خسارة أصدقاء شخصيين، كما بين العائلتين الأسد
وآل ثاني.
أما السعودية فكان قرارها أن تكون رأس حربة في الثورات
المضادّة، وبناء أحلام استعادتها لنفوذها في المنطقة على
وقع تدمير تلك الثورات او احتوائها، او استخدامها ضد الخصوم.
أصبحت الدوحة محجّاً للثوار!
وأصبحت السعودية ملجأً للزعماء والقادة الفارين من
محاكمة شعوبهم!
|
امير قطر الجديد
مع ابن الملك وزير الحرس |
ولكن ليس كل الثوار من دعمتهم قطر.. بل ثوار (الإخوان
المسلمون) والجماعات الإسلامية عامة، والتي تلتقي بصورة
أو اخرى فكراً ومنهجاً مع الإخوان، او هي خرجت من تحت
عباءتهم وتربّت على أفكارهم.
وبسرعة تحولت الدوحة الى مصنع للمفكرين والمخططين ورجال
الإستخبارات من كل دول العالم. وتدفق المال القطري غزيراً
على الكتاب والصحافيين والإعلاميين والباحثين عن المكانة
والزعامة، للإطاحة بأكثر من نظام عربي، ولازال.
وبالسرعة نفسها، تحوّلت الرياض الى ملجأ الزعامات الساقطة،
والمؤامرات مع الفلول وبقايا الأنظمة.
المشروع القطري تبلور على أساس اتفاق تركي أمريكي قطري
بأن يُسمح للقوى الإسلامية الناهضة (المعتدلة) بأن تتولّى
السلطة، او بمعنى أدقّ عدم الوقوف ضد الرغبة الشعبية ان
كانت ستوصل الإسلاميين للحكم، فهم القوة المنظمة، ومنعهم
من حقهم الطبيعي في الوصول الى السلطة عبر صناديق الإقتراع،
يعني المزيد من الفوضى والدماء لا تتحمله المنطقة.
وقد سوّق أردوغان وأمير قطر ووزير خارجيته هذا الأمر
لدى المؤسسات الغربية، وأقنعوها باعتدال القوى الإسلامية
(الرشيدة) وأنها لن تكون ضد المصالح الغربية، ولا حتى
ضدّ إسرائيل. وهكذا هيأت قطر لزعماء الإخوان والنهضة السفر
الى الولايات المتحدة الأمريكية لبثّ التطمينات من جهة،
وليؤكدوا على أولوية البناء الداخلي لا الصراع مع اسرائيل،
وكذلك على أن تجربتهم لن تؤدي الى مشابهة للتجربة الإيرانية..
بل أن بعض تلك القوى الإسلامية اعلنت أنها ضد التجربة
الإيرانية، وعبّرت بمواربة عن استعدادها لتبنّي وجهات
النظر الغربية ضد ايران، كما تعهدت قطر وتركيا بأن تخفف
القوى الإسلامية غلواء (حماس) في مواجهتها مع اسرائيل،
وأن تفكّ ارتباطها مع ايران وحزب الله والنظام السوري،
بل وحتى تعلن استعدادها لسلام طويل الأمد مع اسرائيل،
اذا ما تم فكّ الحصار عن غزة، واعترف الغرب بحماس كقوة
تمثيلية شعبية مرضيّ عنها، مثلما هي فتح، وهو ما قبل به
خالد مشعل في النهاية.
هذه التطمينات أقنعت الغرب عامة، ولكنها لم تُقنع الرياض،
التي لها حساباتها الخاصة.
تصادم المشروعين القطري والسعودي
إذا كانت السعودية غاضبة على الثورة التونسية التي
أطاحت بالصديق والحليف ـ صاحب نظرية تجفيف منابع الإسلاميين
ـ زين العابدين بن علي، وعبّرت عن ذلك بأن آوته، بعد أن
أضحى طريداً، بل وعمدت الى الإستفادة من خدماته الأمنية
ـ كما أشيع مؤخراً.. فإن الشارع التونسي بدا ممتعضاً على
الرياض، ولكن بدل أن تقدّم الأخيرة اعتذارها للشعب التونسي
وتسلّم الرئيس الهارب، جاء راشد الغنوشي، زعيم النهضة،
الى الرياض ـ بحجة اداء العمرة طبعاً ـ ليطمئنها ويسترضيها،
وهي التي فعلت به شخصياً الأفاعيل، وليقول بأن الثورة
التونسية ليست ضد المملكة ولا ضد مصالحها، ولا يوجد لتونس
الجديدة رغبة في الصدام مع المملكة، وأنها ترحب بالتعاون
معها في كل المجالات، وتفتح صفحة جديدة في هذا الشأن.
هذا لم يغيّر من الحال كثيراً الى اليوم. لكن السياسة
القطرية ـ التركية، وبنصيحة من واشنطن، تشابه النصيحة
الأمريكية للقيادة العراقية، وهي تقول بأن لا يتعرّض أحد
للرياض، وأن لا يواجهها، وان يتحمّل نزواتها وانفعالاتها،
كونها خسرت الحليف تلو الآخر.
وعلى هذا الأساس تحديداً، انسحبت تركيا من محاولة الدخول
على خط المفاوضات بين المعارضة البحرينية والنظام الخليفي.
وقال أوغلو ـ وزير الخارجية ـ لوفد من المعارضة البحرينية،
بأنه لا يستطيع المضي في هذا الأمر، لأن الرياض أصبحت
المرجع للشأن البحريني، حسب اتفاق ضمني تمّ مع وزير الخارجية
السعودي سعود الفيصل.
وعلى هذا الأساس أيضاً، لم يردّ الإخوان المسلمون على
تهكمات اعلام الرياض المحلي والخارجي والذي بلغ حدّه الأقصى
من التهور والسوء، بل بادروا بعد قضية الجيزاوي والتظاهرات
المصرية امام السفارة السعودية في القاهرة الى السفر للرياض
للإعتذار، ولتعيد الرياض في المقابل سفيرها الذي سحبته،
وتمتنع عن طرد العمالة المصرية التي تقدر بنحو مليوني
عامل.
وعموماً كانت الرياض تنظر بعين الغضب للحلف الذي تشكّل
وتدعّم خلال العامين الماضيين بين الدوحة واسطنبول، ليشكل
الإخوان المسلمون المنتصرون، ضلع المثلث الثالث.
|
اصدقاء الى
متى؟ |
السعودية تخشى من انتقال العدوى الى اراضيها. فهناك
متأخونون كما تقول. وهناك سلفيون بوجه اخواني استقطبتهم
قطر منذ وقت مبكّر عبر الشيخ القرضاوي، وظهروا على شاشات
الجزيرة وشاشات قطر التلفزيونية المحلية.
الرياض خافت أن يتحول السلفيون الى مرجعية سلفية مصرية
بدأت تكشف عن حجم قوتها وتقدّم تجربة سياسية أفضل من التجربة
السعودية في الحكم. لذا بادرت الرياض الى اعداد مؤتمر
تحصّن بها ارضها بعيد سقوط مبارك سمته: (السلفية منهج
شرعي ومطلب وطني) هدفه الوحيد هو التأكيد على مرجعية السعودية
لكل السلفيين في العالم، كونها تحمل النسخة الأصلية للسلفية،
وليس أولئك الذين في مصر او غيرها.
حين جاءت الثورة اليمنية ضد علي عبدالله صالح، المعروف
بأنه رجل السعودية.. افترقت قطر في موقفها عن الشقيقة
الكبرى ـ السعودية. الأخيرة كانت مع بقاء علي عبدالله
صالح، في حين أن قطر كانت تضغط من أجل الإطاحة به، وهو
ما شكا منه علي صالح مراراً وهاجم بسببه قطر اكثر من مرة.
وإزاء انهيار النظام، تقدمت السعودية بمبادرة حملت اسم
(المبادرة الخليجية) في حين لم تكن سوى مبادرة سعودية
محضة، لم تشأ ان تجعلها باسمها لأن الرأي العام اليمني
لم يعد يتحمل وجودها في صورة الوضع السياسي الجديد. المبادرة
السعودية هدفها الوحيد كان: إعادة انتاج النظام القديم
في اليمن بنفس الرجال، ولكن مع إبعاد علي عبدالله صالح.
وهو ما تمّ، مع أن قطر أعلنت صراحة انسحابها من تلك المبادرة.
ويومها كادت قطر أن تستولي على الإرث السعودي في اليمن
كاملة، من خلال تمويل القبائل، والضباط، والأهم تمويل
الحزب الإخواني (حزب الإصلاح) لكي يسيطر على المشهد بعد
سقوط النظام. وفي هذا الإطار عقد في الدوحة أكثر من لقاء،
واستدعي الحوثيين، ليعلنوا مباركتهم لحزب الإصلاح، لكنهم
لم يفعلوا، فاكتفت الدوحة بتهدئة الوضع بين الغريمين.
نجحت السعودية في استعادة زمام المبادرة في اليمن،
وتولّت الأمم المتحدة ـ ولازالت ـ عملية انتاج النظام
الجديد من خلال ما يسمى بـ (الحوار الوطني) الذي طال عمره،
دون أن يحقق اختراقاً ذي بال في أهم معضلتين: الشمال الحوثي،
والجنوب الإنفصالي!
من جهة اخرى، لا خلاف بين قطر والسعودية على تخريب
الوضع في العراق، بل ان الدوحة أكثر تشدداً في هذا الأمر،
حتى أنها لم تفتتح سفارة لها حتى الآن.. وأغلب القيادات
البعثية القديمة تقيم في قطر وتموّل منها، في حين اكتفت
السعودية بتمويل القاعدة شراكة مع الدوحة. لكن قطر ـ في
الموضوع العراقي ـ نسقت مع تركيا، للإطاحة بالنظام الجديد
عبر الإنتخابات، ودخلت السعودية عبر مرشحها علاوي لتكمل
العقد في الانتخابات البرلمانية الماضية، ولكن خرج الحلف
الثلاثي التركي القطري السعودي خاسراً، وتفكك الحلف الذي
حول اياد علاوي.
أيضاً لم تعترض السعودية على الإطاحة بالقذافي، لكنها
كانت أقل حماسة من قطر، والسبب مرة اخرى، هو ان السعودية
كانت تخشى من وصول الإسلاميين الى السلطة، كما لم يكن
بإمكان الرياض منافسة الحضور القطري المتقدم بمزيد من
الأموال والشحن السياسي والعسكري. بقيت قطر في الواجهة،
وسقط القذافي، وأنتج لنا نظاماً هزيلاً على مشارف حرب
أهلية، ولا يتوقع أن تكون التجربة الليبية مشرّفة لأي
أحد في المدى القريب والمتوسط.
بقيت العقدة الأساس، في سوريا. فقد استطاعت واشنطن
بداية الأزمة السورية أن تجمع الحلفاء الثلاثة: قطر وتركيا
والسعودية، لتقوم بدور التأجيج على اسقاط النظام، وتوحيد
المعارضة، وتمويلها، وتوفير الغطاء السياسي لها لتتولى
مقاليد السلطة. لكن الرياض حاولت دائماً ان يكون لها خطّها
الخاص الذي تدعمه على الأرض، وهو دعم الجهات السلفية القادمة
من وراء الحدود، وتطور الأمر الى عقد صفقات اسلحة مع الخارج
لتوريدها اليهم، كما الصفقة الأوكرانية مثلاً.
السعودية: اختطاف قرار المعارضة
من الدوحة
لكن ما بدا انه جهد مشترك، في بداية تشكيل التحالف
المضاد للنظام السوري، اختلف على من يقطف ثمرته وبشكل
مبكر. فالسعودية، ورغم قربها وحتى تمويلها من اخوان سوريا،
كما يحكي ذلك التاريخ والواقع، لم تعد تثق بهم، رغم سلفيتهم
المشابهة للسلفية الوهابية، والسبب من وجهة نظر الرياض:
اقترابهم الكبير من أردوغان وحاكم قطر. وللحق، فإن أردوغان
وحاكم قطر، تحمّلا السعودية ورعونتها في الموضوع السوري،
ولم يشآ ان يلخبطا الساحة بالرد على المهاترات، والتجاوزات
التي تقوم بها الرياض، التي كانت تدرك بأن الباب الى المعارضة
السورية على الأرض، صار بيد تركيا، وانه لكي يكون لها
يد، فيجب ان تفتح لها جبهة خاصة بها.
|
سبحان مغير
الأحوال.. ايام زمان! |
لهذا كان الضغط على الأردن، وترويعه بقطع المساعدات،
ان لم يفتح الحدود مع سوريا، وإن لم يُمكّن الأمير سلمان
بن سلطان ـ الذي اصبح الآن نائباً لوزير الدفاع ـ من عقد
الصفقات مع المقاتلين، والتحكم بهم على الأرض (محافظة
درعا تحديداً). رضخت الأردن بنحو كبير، وأقام الأمير سلمان
بن سلطان في عمّان، منسقاً للجهود، كما استطاعت الرياض
ايجاد موطئ قدم لها لدى جبهة النصرة ودولة العراق والشام
الاسلامية، اعتماداً على تواصل سابق لم ينقطع، كان رجال
استخبارات الرياض يقومون به منذ ٢٠٠٥، واعتماداً على مشايخ
سلفيين سعوديين وسوريين مقيمين في السعودية ويتبعون النظام،
تمكنوا من التحكم بجزء غير قليل من صناعة القرار، عبر
التمويل السعودي بالمال والسلاح، عبر الأراضي التركية
وغيرها.
ولم تكتف السعودية في سبيل التخلّص من ضغط الجغرافيا
والسيطرة على ورقة المقاتلين على الأرض، بفتح جبهة الأردن،
بل وفتح جبهة لبنان أيضاً، والتي لم تستفد منها قطر إلا
بشكل محدود.
السلفيون في طرابلس وشمال لبنان عموماً، كانوا هدفاً
لرئيس الإستخبارات بندر بن سلطان، عبر الحريري وجماعته،
حيث ذهب التمويل واجهزة الإتصال والسلاح وحتى المقاتلين
من لبنان الى سوريا. وقد تمّ هذا رغم ان الغرب عامّة لم
يكن يريد أن يضطرب الوضع في لبنان، لكن كان صعباً عليه
ايضاً كبح اندفاعة الرياض، التي ترى ان واشنطن لم تقم
بما عليها كفاية.
باستخدام الرياض لكافة اوراقها، أثمر ذلك سيطرة لها
على قرار المعارضة السورية (الائتلاف الوطني السوري المعارض).
ربما كان بإمكان قطر وتركيا المقاومة، لكنهما إزاء فشلهما
في توحيد الصفوف تركا للسعودية صناعة القرار على مضض،
رغم أن الجميع يعلم بأن السبب الأساس في عدم وحدة المعارضة
السورية هي السعودية نفسها، والتي كانت على الدوام ترفض
القرارات التي يتخذها الإئتلاف خاصة فيما يتعلق بتسنّم
المناصب العليا فيه، بما في ذلك منصب رئاسة الوزراء المؤقت
في المنفى، غسان هيتو، والذي تم تعيينه من الإخوان المسلمين.
الآن، سيطرت السعودية على رئاسة الإئتلاف، وتم تعيين
رجل سعودي أكثر منه سورياً، خلْقاً وخُلُقاً ومنطقاً لشغل
المنصب، وهو احمد الجربا، الذي صارت العواصم الأوروبية
خاصة باريس تفتح أبوابها امامه وتقدم الإجلال له، بعد
أن قبضت الثمن مالاً وعقوداً من الرياض التي تبدو متحمسة
في عملها الدبلوماسي حتى غطى على من سواها. وها هي السعودية
في طريق احكامها كاملاً على قرار المعارضة السورية بتعيين
طبيب أسنان سوري مقيم لديها، رئيساً للوزراء، وهو أحمد
طعمة.
مصر تقلب الموازين
إسقاط حكم الإخوان المسلمين في مصر مثّل بحق ضربة صاعقة
للنفوذين التركي والقطري في عموم دول الشرق الأوسط. سقوط
حكم الإخوان في مصر كان يعني انهيار المثلث الذي ابتني
عليه مشروع قطر في المنطقة، ولا يُحتمل أن يتم اسعافه
او ترميمه بعد تلك الضربة. معظم ما ابتنته قطر خلال السنوات
الخمس عشرة الماضية يكاد يذهب هباءً منثوراً، وكل أدوات
السياسة القطرية من مال وإعلام تكاد تتعطّل وتفقد فاعليتها.
ليست قطر وحدها من يملك المال. ولا الجزيرة كقناة هي
ذات الجزيرة التي كانت ملكةً للفضاء العربي عشية إسقاط
حسني مبارك. لقد استهلكت قطر مصداقيتها واموالها واعلامها،
وبدأ انحدارها سريعاً، ما يرجح معه عودتها الى وضعها الطبيعي
بعد طول انتفاخ (ورحم الله امرئاً عرف قدر نفسه)، في ظل
تكرار وتشابه للدور الكويتي الذي تمّ قتله هو الآخر ذات
يوم من أيام اغسطس ١٩٩٠.
الحلم القطري ـ وربما التركي ـ يتبدد وفي أحسن الظروف
هو يتآكل بصورة سريعة.
فقطر تكاد تخسر ما تبقى لها من مكانة في ليبيا، بعد
أن كانت اللاعب الأساس فيه والمحرض على ثورة لم تكتمل
فجاءت شوهاء، لا تريد الدوحة النظر اليها، او تسليط أضواء
قناتها على ما يجري فيها. فكل ما هنالك يبعث على الغثيان،
إذ لا يوجد سوى مسخ دولة.
|
هل اصابتهما
لعنة الفراعنة؟ |
وقطر، هي نفسها التي خسرت المعركة مع السعودية في اليمن،
وفي سوريا، ولم تربح شيئاً بدعم المفخخات والقتلة القاعديين
والبعثيين في العراق، ولم تستثمر شيئاً في البحرين.
هي نفسها قطر، التي بنت آمالاً على تحوّل ضد الملكية
في الأردن، يأتي بالإخوان على رأس السلطة، فسارع العراقيون
يبلغون الملك بالنوايا القطرية.
هي ذاتها قطر، التي كان لها تميّز في علاقاتها مع ايران
والسودان واليمن، تجد نفسها الآن أقرب الى العدو منها
الى الصديق او حتى المحايد.
لكن كل ذلك يمكن تعويضه، اللهم إلا أن تأتي ضربة ماحقة
مثل سقوط حكم الإخوان في مصر!
هذا امرٌ لا يمكن تحمّله. خاصة إذا ما جاء من الشقيقة
الكبرى: السعودية!
لماذا؟ لأن قطر نفسها هي التي هندست العلاقة بين السلفية
التكفيرية والإخوان المسلمون. القرضاوي هو من استقدم المشايخ
السعوديين من السلفيين لإيجاد لحمة بينهما تركز على الوصول
الى السلطة، والإنتقال بها الى معركة لا مع اسرائيل ولكن
مع التشيّع وإيران والعراق وحزب الله!
هذه الهندسة بالذات، ساهمت بأكبر قدرٍ من السقوط للإخوان
في مصر. فقد جرّتهم الى الاستفراد بالحكم وتقريب السلفيين
وتقديم التنازل لهم لمجرد ان يبقوا معهم في المركب إذا
ما جاءت عاصفة هوجاء، فيواجهوا بها الفلول من جهة، وزملاء
الثورة بالأمس، ثورة يناير نعني.
السلفيون بأفعالهم وتصرفاتهم خرقوا المركب، لم يعد
بإمكان أحد أن يميّز بين الإخوان المسلمين وبين التيار
السلفي المصري.
التكفير والتهديد وفتاوى القتل والسحل حتى ذاك الذي
حدث، كلّه كان سلفياً وبوجه إخواني!
وبالغ الرئيس مرسي أكثر، في استرضاء الغرب، وضيّق الخناق
على حماس، وأغلق من الأنفاق ما لم يكن في بال مبارك فعله.
وزاد بأن واجه ايران ـ الدولة الوحيدة التي كانت تعلن
علناً مدّ يدها للمساعدة. لكنه كان يريد استرضاء السعودية،
وامريكا واسرائيل؛ ليكمل المهمة بفتح المعركة وقطع العلاقات
مع سوريا، وليعلن الجهاد في جو طائفي مقيت لم يكن يوماً
هو خطاب الإخوان المسلمين ولا ضمن ثقافتهم.
سقط مرسي، فالسعودية لم تكن يوماً مع الإخوان إلا في
فترة خدمتهم لها ايام عبدالناصر. والسعودية كانت المحرّض
لسقوطه، كان لها وجهان: وجه تعزيز التعاون مع اجهزة الأمن
والعسكر والإعلام مما لم تصل يد الإخوان اليه؛ ووجه يشتم
ليل نهار اداء الإخوان سياسياً ويشنّع بهم.
هندسة القرضاوي أتت على الحكم المصري الإخواني، وكادت
تسقط حكم حزب النهضة في تونس الذي كان وحسب الخطة اياها،
يحاول التحالف مع السلفيين الذين هم في الغالبية قاعديين.
وبعد مقتل شكري بلعيد، نددت النهضة بالاغتيال، واتهمت
اجهزة استخبارات اجنبية! كل ذلك حتى لا يتضرر التحالف
ولا يشق النسيج الإسلامي! وحتى تتم مواجهة العلمانيين
كما تحدث الغنوشي ذات مرّة. لكن وبسبب التجربة المصرية،
سارعت النهضة الى فك الإرتباط بعد اغتيال البراهمي، لتوضح
بأنها شيء مختلف عن السلفيين القاعديين جماعة الشريعة!
وحسناً فعلوا.
سقوط الإخوان في مصر لا يعوّض. فقد تلقت الدوحة سهماً
بثلاثة رؤوس: ضرب جزيرتها الفضائية، وضرب خطابها الديني/
القرضاوي، وضرب مكانتها السياسية.. لصالح السعودية.
السعودية ظهرت منتصرة على كل من تركيا وقطر، وهي كذلك
فعلاً. وعموماً فإنه حتى في عهد مبارك نُظر الى تركيا
بعين الحذر والإمتعاض، كون دخولها على خط معضلات الشرق
الأوسط، يعني تهميشاً او اضعافاً لنفوذ الرياض والقاهرة.
وسيبقى هذا الأمر قبل وبعد الثورة على حكم الإخوان.
من هنا نفهم سر انزعاج أردوغان وتنديده بدول الخليج
لموقفها من الاطاحة بحكم الإخوان ـ عدا قطر طبعاً، فهو
كان يعتقد أن خسارته لدمشق، وحتى لبغداد، يمكن لمصر الجديدة،
الأخوانية ان تعوضها.
الذي حدث، هو خسارة مضاعفة للسياسة التركيا: خسارة
في مصر مؤكدة وكاملة تقريباً، وفي العراق جزئية او كلية،
وفي سوريا، وحتى في القضية الفلسطينية التي حاول اردوغان
ان يلعب بورقتها على العواطف، حيث أعاد العلاقات مع تل
أبيب الى سابق عهدها.
|
انهيار المشروع
|
عودة الصراع مع السعودية
ماذا تبقى لقطر؟
قيل أن التغييرات السياسية فيها، أي انسحاب حاكمها
لصالح ابنه، جاء على هذه الخلفية. يبدو الأمر ليس كذلك،
فالأرجح ان امير قطر يعاني من مرض عضال، ولم يكن القصد
فيما يبدو ديمقراطية مشايخ، او تجديد دماء، او ضغط اميركي.
فحتى الان لم تتغير السياسة القطرية، لا بشأن مصر ولا
سوريا ولا العراق ولا غيرها. والأرجح ان الإستمرار فيها
يعني المزيد من الخسائر. أقلّها عودة العداء بين القاهرة
والدوحة، كما كان الوضع أيام حسني مبارك، وقد يتطور الامر
الى قطيعة سياسية، لا تخسر منها قناة الجزيرة فحسب، بل
السياسة الخارجية القطرية كاملة.
أما الأمر المرجح فهو ازدياد شقّة الخلاف بين الدوحة
والرياض. والسبب ما جرى في مصر وسوريا تحديداً.
فالسعودية المزهوّة بتخريب المشروع القطري الأوردغاني
الإخواني، فتحت النار على الدوحة، وعلى العائلة المالكة
فيها. ومن يراقب الإعلام السعودي المحلّي والخارجي وما
يتم تسطيره من كتابات يكتشف النفس التحريضي والعدائي الذي
أخذ بالتزايد على السطح. في بعض الأحيان تأخذ الشتائم
طريقها عبر توجيه السهام الى قناة الجزيرة، ومنها يتم
التسلل الى السياسة القطرية نفسها.
لكن اقوى نقد علني ظهر كان في فبراير الماضي حين أقالت
السعودية قينان الغامدي رئيس تحرير جريدة الشرق اليومية،
الذي تخصص في شتم الإخوان المسلمين كبقية صحفيي النظام،
والسبب مقالة هاجم فيها قطر بحدّة، عنوانها: (جماعة الإخوان
السعوديين وقطر مرة أخرى) زايد فيه على موقف آل سعود أنفسهم،
واتهم الدوحة بدعم اخوان السعودية، ليصل الى (أقول للشعب
لسعودي إن هذا هو الخطر الذي يتربص بكم من الشقيق في حكومة
قطر وليس شعبها، ومن الأهل الإخوان في الداخل، أمَّا الحكومة
فهي قطعاً تعرف أخطر مما أعرفه، لكنها صامتة لأسباب لا
يعلمها إلاَّ الله، قد تكون سياسية وقد تكون حسابات أخرى)
مؤكداً ان الحكومة القطرية تتآمر لـ (إقتلاع شقيقتها حكومة
السعودية). لم تستطع الرياض تحمّل المقالة، فأقالته، لا
لأنها ترفض ما جاء فيها، ولكنها تدرك بأنها تتحمل مسؤولية
بقائه في منصبه، كونه موظفاً معيناً من وزارة الداخلية،
وان احداً لن يقتنع بأن الصحافة السعودية حرّة وغير ناطقة
باسم النظام!
ينبغي التذكير هنا بأن الصحافة السعودية لازالت تطلق
النار على الدوحة وعلى اسطنبول وعلى الإخوان المسلمين
(وتسميه بالحلف التكفيري!!) وتخصص مساحات واسعة جداً من
المقالات والأخبار والتغطيات. هذا غير مهاجمة القرضاوي
الذي سبق ان اتصل به الأمير سلمان ـ ولي العهد ـ مادحاً
موقفه من الشيعة، كما نشر في موقعه على الإنترنت!
ايضاً فإن الصحافة القطرية تهاجم قناة العربية، وزادت
الجرعة في الآونة الأخيرة من حيث التحرر في نشر بعض الأخبار
المتعلقة بمملكة آل سعود.
لكن الخطوة الأهم التي قامت بها قطر، هي دعوتها لمؤتمر
مدته يومان في ديسمبر القادم، تحت عنوان فاقع: (الوهابية
والسلفية.. الأفكار والآثار) دعا اليه منتدى العلاقات
العربية والدولية، وهو منتدى مقره قطر وممول منها، ويشرف
عليه سعودي مُنح الجنسية القطرية قبل اقل من عامين، وهو
الدكتور محمد الأحمري. فهل تخلّت قطر عن سياسة جمع المتناقضات:
اي جمع السلفية والإخوان المسلمون، بعد أن غدر الأولون
بالأخيرين في مصر، كما تقول؟
وهل استفزّت الرياض شقيقتها الصغرى قطر، حين سلبتها
مكانتها، وعيّرتها بصغر حجمها وصغر عقل قادتها، حتى ترد
عليها، اعلامياً، فنرى صواريخ تنطلق من قناة الجزيرة باتجاه
الرياض، وأخرى من العربية باتجاه الدوحة؟
يظهر، أن هناك مراجعة جزئية في السياسة الخارجية القطرية،
التي لم تتغير في عهد الأب ولا الإبن، وهي استجابتها الفورية
للتحدّي والإستفزاز السعودي، خاصة اذا ما جاء على خلفية
خسائر في مواجهات دبلوماسية.
السعودية هي ايضاً، تدفع بهذا الإتجاه، مستندة الى
انتصاراتها على الحلف الثلاثي في مصر او في سوريا، وكأنها
تفرغ ما بجوفها بعد سنوات الألم الداخلي وكأنها تقول:
الآن زمن اعادة الإعتبار للذات، ووضع الصغار عند حدّهم.
في كل الأحوال، فإن الهزيمة للحلف الثلاثي (القطري
ـ التركي ـ الإخواني) قد يكون لها ارتدادات على السعودية،
ليست بالضرورة حسنة.
لا نحتاج الى انتظار طويل، فالمعركة قد بدأت.
|