السعودية ولبنان: مأزق الحلفاء والخصوم
توفيق العباد
صرّح النائب عن كتلة المستقبل نهاد المشنوق لإذاعة
(صوت لبنان) في 6 أكتوبر الجاري بأن (لا وجود لسياسة سعودية
في لبنان منذ 4 سنوات) ووصف تحرّكها في لبنان بأنه يقوم
على قاعدة (معاقبة الحلفاء ومراضاة الخصوم). وأوضح بأن
الرياض ألغت زيارة رئيس الجمهورية ميشال سليمان لأنها
(لا تريد أن تكون بريد رسائل من لبنان الى إيران أو العكس).
ببساطة إن تصريحات كهذه تكشف عن الاحباط الشديد الذي
أصاب فريق 14 آذار، وتيار المستقبل فيه على وجه الخصوص،
كونه خسر كثيراً في السنوات الأخيرة ليس فقط بسبب رفض
الرياض عودة رئيس التيار سعد الحريري الى لبنان، ولكن
بسبب بروز قوى سياسية داخل المجال السني أكلت من رصيد
المستقبل وبيت الحريري والمناصرين له.
من وجهة نظر الكاتب العوني جان عزيز، مدير البرامج
السياسية في قناة (أو تي في) في مقاله في صحيفة (الاخبار)
اللبنانية بعنوان (السعوديون ليسوا أغبياء) في الأول من
أكتوبر الجاري، فإن تأجيل زيارة الرئيس اللبناني ميشال
سليمان للسعودية كان منطقياً لأن كل الاعتبارات والحسابات
السياسية تقود، من وجهة نظره، الى استحالة حصول الخطوة
في هذا التوقيت، لا بل الى خلوصها الى نتائج سلبية بالنسبة
إلى المضيف. ويرجع عزيز ذلك الى أن السعوديين منكفئون
بشكل كبير عن الملف اللبناني (لا يتابعون تفاصيله، ولا
يهتمون بحيثياته وتعقيداته. مع أنهم يعتبرونه في الأصل
ضمن مجالهم الحيوي ويشملونه بعباءة هيمنتهم الطموحة).
يضع عزيز ذلك في سياق تحولات خارجية منها استعادة الرياض
للملف السوري من قطر، وإقحام تركيا في دهاليز الوضع السوري
بعد إبعاد الاخوان عن الحكم، ومذذاك قرر السعوديون فرض
حلهم للأزمة اللبنانية من الخارج، لا من الداخل، أي أن
المكاسب الاقليمية التي يحققها السعوديون من شأنها أن
تفرض نفسها على المعادلة اللبنانية الداخلية، أي (إملاء
ما يريدون في بيروت، عبر حسمهم للوضع في دمشق)، وهو ما
سعى بندر بن سلطان الى تحقيقه، ولذلك انشغل بمشروع اسقاط
بشار كيما يسقط من يليه في لبنان بل وحتى في العراق وايران.
مصدر الضيق لدى حلفاء السعودية في لبنان يكمن في أن
الراعي السعودي تعامل معهم وكأنهم ملحق وطرف ثانوي في
الأهمية، فيما كان الصف القيادي الأول والثاني في 14 آذار
يستعرض كل ما يملكه من مهارات المشاغبة واستقطاب الاهتمام
للحصول على مغانم سعودية ولكن بلا جدوى ولسان حال الرياض
بحسب عزيز: نحن الآن مشغولون بإسقاط بشار. وقد أصبحنا
في الأمتار الأخيرة من شوطنا في هذا المضمار. فأوقفوا
شكواكم ونحيبكم وتوسلكم قليلاً، ودعونا ننجز الأساس، بعده
يكون كل ما تتطلعون إليه مجرد تفصيل.
|
جان عزيز: السعوديون ليسوا
أغبياء |
حتى السفير السعودي علي عواض العسيري الذي بدا ناشطاً
في دورة زياراته الداخلية وراح يتصرف بطفولية أحياناً
في اطلاق التصريحات الاستفزازية ضد قوى سياسية محلية،
متحللاً من أصول العمل الدبلوماسي الذي لا يليق برجل ردّد
مرات ومرات العبارة المعلّبة (المملكة تقف على مسافة واحدة
من جميع الأطراف في لبنان)، وإذا به يجوب مقرّات القيادات
السياسية في لبنان، بمن فيهم زعيم التيار الوطني الحر،
ميشال عون، الذي حاول السفير استثمار الخلاف بينه وبين
وحزب الله على ملفات داخلية من بينها التمديد لقائد الجيش،
الا أن عسيري ما لبث أن غادر لبنان لأكثر من شهرين ثم
عاد بسلسلة تصريحات هادئة بتطبيق مبدأ المسافة الواحدة
ولكن بخلفية مختلفة، حيث أكّد على أن المملكة لا تتدخل
في الشأن اللبناني، وأن مسألة تشكيل الحكومة هي شأن داخلي
وأن المملكة ليس لديها اعتراض على أي طرف يشارك في الحكومة..
حتى ما قيل عن عودة العلاقة الحيوية بين وليد جنبلاط
والرياض فإنها لا تبدو كما يتصوّرها بعض اللبنانيين أو
حتى ما يريد فريقه تصويرها، فقد اقتصرت على لقاء واحد
في نهاية مارس الماضي مع بندر بن سلطان وكان يدور حول
تسميّة تمّام سلام، وأن اللقاءات اللاحقة كان يقوم بها
تيمور إبن وليد جنبلاط، والوزير وائل أبو فاعور، ولهما
أن يرويا المعاناة الطويلة والشديدة لهما في تلك اللقاءات
سواء على صعيد إنعقادها ووقتها والانتظار الطويل في فنادق
الضيافة قبل موعد اللقاء، وإن ما كان يدور في هذه اللقاءات
هو أيضاً يستحق التأمل، لأنها لا تتضمن بالضرورة أحاديث
عن لبنان، بل قد يقتصر اللقاء على النيل من طرف لبناني
ثم يختتم بدفعة على الحساب..وحتى الآن لم يكن يجري اللقاء
المرتقب بين وليد جنبلاط والملك عبد الله رغم الوعود المتعاقبة
بحصوله قريباً..
ما قاله عسيري ذات لقاء مع الجنرال عون بأن العلاقة
مع السعودية تمرّ عبر سعد الحريري يحمل إشارة واضحة بأن
الأخير هو الحليف الاستراتيجي الذي لا يمكن التفريط فيه،
رغم أن وليد جنبلاط يحاول كعادته إمساك العصا من منتصفها،
ومع ذلك فإن المستقبل هو الآخر لا يعيش وضعاً مريحاً هذه
الأيام، وما قاله المشنوق في مقابلته مع (صوت لبنان) يكشف
عن سوء حال تيار (المستقبل). وحتى الصراع المحتدم بين
مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني مع فريق المستقبل
وتحديداً مع فؤاد السنيورة لم يدفع السعودية للتدخل لإيجاد
حل حاسم له، فقد تركت الطرفين يخوضان الصراع وينقلناه
للعلن، ويصبح موضوع تداول في الصحافة.
وكان فؤاد السنيورة، رئيس كتلة المستقبل، قد بعث برسالة
في 15 نوفمبر 2012 الى السفير السعودي علي عسيري يحرضه
فيها على المفتي قباني ويطالب بموقف سعودي ضده. وجاء في
مقدمة نص الرسالة:
(ان التحولات الطارئة في مواقف
الشيخ رشيد قباني والتي ليس آخرها الامتناع عن إطلاق فتوى
تحض الشباب السني على واجب الجهاد وتقديم المساندة والدعم
للأشقاء الثائرين في سورية، وابتعاده عن المواقف المعلنة
للمشايخ أمثال الشيخ أحمد الأسير والشيخ محمد الجوزو والشيخ
خليل الميس التي دعت إلى مناصرة الشعب السوري المظلوم.
ألحقت الضرر الشديد بمكانة دار الفتوى وقوتها لدى الأوساط
التابعة لها وأثارت استياء الكثيرين من أبناء الشارع السني
. وحدت من اندفاعهم واستعدادهم للالتحاق بصفوف المقاتلين
عبر الحدود ، فتراجع الكثير منهم لعدم وجود فتوى أو موقف
واضح صادر عن دار الإفتاء).
|
نهاد مشنوق: لا وجود لسياسة
سعودية في لبنان |
وانتقد السنيورة تقارب المفتي قباني مع فريق 8 آذار،
خصوصاً مع اقتراب الانتخابات النيابية (ولزوم تحفيز الشارع
السني وحشده وإعادة الزخم القوي إليه وبث روح التأييد
بين أنصارنا) على حد قوله.
السنيورة الذي لفت الى موضوعات شخصية مثل ملفات الفساد
في دار الفتوى والتجاوزات المالية والمخالفات القانونية،
انتهى الى قرار تحالف قوى 14 آذار بـ (ضرورة تنحيي المفتي
قباني وإسناد منصبه الى إحدى الشخصيات الداعمة لتوجهاتها
السياسية أمثال الميس أو الجوزو)، ولكن السعودية طالبت
بالتريث وعدم الاستعجال لدراسة الأمر قبل اتخاذ ردود فعل
غير محسوبة. السنيورة وجّه دعوة الى السفير السعودي عسيري
بلعب دور في المعركة بينه وبين المفتي قباني وقال ما نصّه
(أرجو التكرم بالموافقة على التوسط لدى الأخوة المسؤولين
في السعودية لاتخاذ قرار سريع بإقصاء المفتي واستبداله.
كما أن اعتماد هذا القرار سيساهم بشكل فاعل في رفع الشرعية
الدينية التي يضيفها قباني على نجيب ميقاتي وهذا قد يثير
القلاقل بين مؤيديه الأمر الذي يسهل مهمتنا الانتخابية
في مناطق نفوذه).
سقطت حكومة ميقاتي، ولكن المفتي قباني بقي في منصبه
رغم التهويل ومحاولات التشويه لسمعته، والإنكار عليه..
وما أحبط المستقبليين هو عدم اكتراث السعودية لطلبهم في
اقالة المفتي قباني، ببساطة لأن الملف اللبناني برمته
لم يعد بالأهمية التي كان عليها قبل معركة القصير، وقبل
أن يسقط مشروع بندر بن سلطان في السيطرة على سوريا ومن
ثم لبنان..
انتظر اللبنانيون من فريق 14 آذار أو من الفريق الذي
يطلق على نفسه التيار الوسطي تشكيل الحكومة، ومباركة السعودية
له، إلا أن كل التشكيلات المقترحة فشلت في السابق لأنها
تقوم على قاعدة إقصاء الآخر، وبرغم من تكرار المحاولات
الا أن النتيجة كانت دائماً هي ذاتها، وحين اقتربت ساعة
الحرب الاميركية على سوريا، وضع بندر بن سلطان الملف اللبناني
في الثلاجة، بانتظار النتائج الحالمة، التي سوف تغيّر
وجه المنطقة، ولكن ذلك لم يحصل، وعادت الأوضاع الى سابق
عهدها بسنوات طويلة..
حرّض السنيورة (سيّده) أوباما على الحرب كما في مقالته
(سيدي الرئيس..إضربوا سوريا) المنشورة في مجلة (فورين
بوليسي) المنشورة في 10 سبتمبر من أجل ما وصفه (تغيير
المسار)، ولكن التحريض جاء في الوقت الضائع، فقد بدأت
دبلوماسية التسوية تنشط خلف الكواليس، وخسر المراهنون
على الحرب..
|
السفير عسيري:
أكثر من تأجيل زيارة سليمان |
الحكومة في لبنان لم تعد شأناً سعودياً بعد سقوط خيار
الحرب، وبات لأطراف أخرى، أبرزها الايراني دور رئيس فيه،
ولذلك لم يكن استقبال ميشال سليمان مجدياً إذا كان الأمر
متعلقاً بتأليف الحكومة، لأن الفشل الذريع سوف يكون حتمياً
وسريعاً..
أصيب فريق 14 آذار وتيار المستقبل بصدمة الغاء زيارة
سليمان التي خطّط لها بأن تكون الضربة القاضية لفريق 8
آذار بتشكيل حكومة الأمر الواقع، التي لم تتم، وقد رفضت
من الجميع لأنها حكومة أزمة. حسبت السعودية المتغيرات
الاقليمية والدولية بصورة سريعة وخرجت بنتيجة ألا إمكانية
قائمة لتشكيل حكومة ثلاث ثمانيات بعد التسوية الاميركية
الروسية واستبعاد خيار الضربة العسكرية، وتجاوز ايران
في الملف اللبناني.
استوجب الأمر كبح أية اندفاعة سعودية غير محسوبة جيداً
في أي من هذه الساحات، ولذلك كان قرار تأجيل زيارة الرئيس
ميشال سليمان، وربما تراجع الحماسة السعودية لتلبية رئيس
ايران الجديد الشيخ حسن روحاني دعوتها لتأدية الحج، من
دون اغفال احتمال وجود علاقة بين مجريات نيويورك وما يجري
من حراك في بنيان فصائل (المعارضة السورية) في شمال سوريا
ومحيط دمشق، وكذلك التفجيرات التي اصابت وبشكل مفاجئ العمق
الكردي في العراق.
يقود ذلك الى الاستنتاج أن السعودي لم يكن جاهزاً للذهاب
مع الرئيس سليمان الى حد تشجيعه على وصفة حكومية محددة،
خاصة أن لكل وصفة تداعياتها المحتملة، سواء بتثبيت صيغة
الثلاث ثمانيات، وما قد يسفر عنها من تداعيات قد تؤدي
الى خسارة سياسية غير محسوبة جيداً، أو التخلي عنها لمصلحة
الصيغة الجنبلاطية (9+9+6) التي تعني في مضمونها تراجعا
لا بل هزيمة لكل منطق السعودية وحلفائها منذ التكليف حتى
الآن، أو اعتماد صيغة تمام سلام (الحكومة الحيادية) التي
تنصل منها رئيس الجمهورية ووليد جنبلاط.
من هنا، كان إبقاء الأمور على حالها أفضل خيار متاح
في انتظار ما يجري من مساومات دولية واقليمية، فيكون لزاماً
على السعودية وباقي دول مجلس التعاون الخليجي أن تفاوض
مع الايراني في كل الساحات، قبل أن تقدم اية التزامات
لميشال سليمان او غيره.
في كل الأحوال، لم يكن بامكان ملك السعودية أن يستقبل
رئيس لبنان، في غياب المسؤولين عن ملف هذا البلد العربي
الصغير: بندر بن سلطان في أوروبا يحاول الاستفادة مما
تبقى له من مهلة سماح غربية في الملف السوري، قبل الإقدام
على خطوات على طريق «جنيف 2»، وسعود الفيصل في واشنطن
يجري فحوصا طبية ويواكب أعمال الجمعية العامة المستمرة.
وكان السفير السعودي في بيروت علي عواض العسيري، قد
أوضح في بيان رسمي بعد أن كثرت الانتقادات لقرار التأجيل
وما صدر عن مقرّبين من بعبدا من مواقف مستنكرة لقرار التأجيل
واعتباره توهيناً لمقام رئيس الجمهورية، وقال بأن تأجيل
زيارة سليمان الى المملكة (تم بناء على التشاور بين القيادتين
السعودية واللبنانية، وذلك الى موعد قريب يحدد لاحقاً).
وليس اللاحقاً هذا سوى القرين الشيطاني للإلغاء، الذي
يعني لا زيارة مطلقاً بخصوص ملف تشكيل الحكومة اللبنانية،
إلا إذا وقعت حوادث أخرى تعيد الأمور الى المربع السعودي..
ولن تعود!
|