زيارة كيري للرياض
تنظيم الخلاف بين واشنطن والرياض
خالد شبكشي
بلغ الخلاف الأميركي السعودي ذروته، وبعثت الرياض رسائلها
عبر تصريحات ومواقفة مشاغبة من أجل لفت انتباه حليفها
الاستراتيجي..جرت محاولة سابقة في باريس بحضور وزير الخارجية
سعود الفيصل ونظيره الاميركي جون كيري وكان اللقاء صريحاً
الى حد كبير وكشف عن التباين بين الطرفين في مقاربة ملفات
المنطقة، وغادر الطرفان المكان مع مزيد من الخلاف حول
التسوية في سوريا وايران..
في المحصلة، حاولت الرياضِ أن ترفع صوتَ صراخِها لإحراج
الراعي الأميركي وأن تبدي قدراً مبالغاً من التفجُّع لما
أصابها من كسورٍ خطيرةٍ نتيجة الإستدارةِ المباغتة لعربةِ
السياسة الأميركية لتطال ملفَ الأزمةِ السورية، والعلاقةَ
مع ايران، وحتى في موضوعِ الاتفاقِ مع روسيا..مواقفٌ بالجملةِ
أربكت صنّاعَ السياسةِ الخارجيةِ السعوديةِ، لتؤولُ في
نهايةِ المطافِ الى أزمةٍ في العلاقةِ بين واشنطن والرياض،
وتصل الى حدِ تعريضِ معاهدة الحمايةِ والتي وقعت في أربعينيات
القرن الماضي للنقض..
كشفت الأزمةُ بين واشنطن والرياض عن ايرانوفوبيا لدى
أهل الحكم في المملكة السعودية، وأن العقدةَ الايرانية
في العقل الدبلوماسي السعودي أفضت الى إصابته بالشللِ
الكاملِ وراح يتصرف على أساسِ ردودِ فعل يومية وانفعالية
وليس وفقَ رؤيةٍ استراتيجيةٍ بعيدةِ المدى..وسواءٌ هدّدت
الرياضُ واشنطنَ بالطلاقِ أم مجردَ رسالةِ عتبٍ شديدة
اللهجة، فإن مستقبلَ العلاقة لن يكون في صالح السعودية
وعليها أن تحسمَ خياراتِها عمّا قريب، ما يجعل مصيرَها
على المحكِ في الأجل القريب..
بدا واضحاً، أن الخلاف بين واشنطن والرياض لم يعد تكتيكياً،
وليس بالذي يمكن إصلاحه بسهولة، أو حتى إيداعه في عهدة
الزمن كيما يحله بهدوء..وكان لابد من مبادرة ما، فجاءت
زيارة كيري الى الرياض في 4 نوفمبر.
قيل عنها زيارةُ ترضيةٍ أو تصويبِ مواقفِ أو إن شئتم
إعادةِ تموضعٍ، ولكن لا يغير من حقيقةِ الخلافِ النافرِ
بين واشنطن والرياض. أعاد الوزيرُ الأميركي التأكيدَ على
الشراكة الاستراتيجية بين واشنطن والرياض، وفي ذلك طمأنةٌ
للحليفِ المذعورِ والغاضب..
حفلةُ الطمأنةِ التي أقامها الوزير جيمي كيري على شرفِ
مُضِيفِه السعودي لا تحملُ جديداً في المواقف الأميركية
عموماً وفي الموقفِ المتغيّرِ من الأزمة السورية. فخلفَ
اللغةِ الملتهبةِ ضد ايران وسوريا وحزب الله، ليس هناك
ما يشيرُ الى أن الجانبَ الأميركيَ قرر العودةَ الى لغةِ
الحرب، بل على العكس من ذلك فقد بدت لغةُ الوزيرِ الاميركي
واضحةً في أن لا رغبةَ ولا سلطةَ قانونيةَ لدى الولايات
المتحدة في خوض الحرب في سوريا..وهو ما تبين لاحقاً.
فهم المُضِيفُ السعوديُ الموقفَ الأميركي جيداً، فكان
التركيزُ منصباً على مناورةِ الأسقفِ في مؤتمرِ جنيف إثنين.
فالتوافقُ الأميركيُ السعوديُ على رفعِ سقف الشروط سمحَ
بإطلاقِ مواقفَ تصعيديةٍ ضد النظام السوري وكذلك ايران
وحزب الله..وذلك مفهومٌ من نواحي عدّة، منها أن المكاسبَ
الميدانيةَ التي حقّقها النظامُ السوري حرمت الطرفين الأميركي
والسعودي من قدرةٍ تفاوضيةٍ وازنة، ما يتطلب تعويضاً في
السياسة والاعلام هذا أولاً، وثانياً أن شرطَ الترضية
الأميركية للحليف السعودي يتطلب التعويض عن الخيار العسكري
بلهجة متشدّدة في السياسة، وثالثاً، أن ثمة رسائلَ مطلوب
إيصالُها من واشنطن والرياض وحلفائهما في المعارضة السورية
الى خصومهم في مؤتمر جنيف إثنين، خصوصاً مع بدء التحضيرات
لانعقاده حيث التصعيدُ في الميدان والسياسة سوف يكون سمةَ
الأيام المقبلة..
ما يلفتُ في زيارة الوزير كيري للرياض أنها لا تندرجُ
في سياقِ تنسيقِ مواقف بقدر ما هي إعادةُ ترميمٍ للعلاقة
الاستراتيجية بين واشنطن والرياض. فقد غاب الطرفان التركي
والقطري عن جولة كيري، في ظل أحاديثَ عن رسائل منهما تحت
الطاولة الى دمشق وطهران وبيروت بهدف الوصول الى تسويةٍ
مرضيةٍ بعيداً عن الطرف السعودي الذي يجنح الى احتكار
الملف السوري والتفرّدِ بقرارِ المعارضة السورية بكل أشكالها..
لا ريب أن تصريحاتِ كيري في الرياض إزاء إيران وحلفائها
سوف تعتبر خارج السياق، لأنها لن تترك تأثيراتٍ سلبيةٍ
لا على ايران ولا حتى على الشريك الروسي الذي سوف ينظر
الى اللهجة التصعيدية للوزير الأميركي مجرد ترضية للرياض،
وليس على حساب التسويات الكبرى ولا على حساب جنيف اثنين
الذي يفترض أن تكون المشاركةُ فيه غيرَ مشروطة..في نهايةِ
المطاف ستفرضُ السياسةُ منطقَها بعيداً عن العاطفة..
زيارةُ كيري الى الرياض والتي ختمها بمؤتمرٍ صحافي
مشترك مع نظيرهِ سعود الفيصل أثارت أسئلةً قليلة ولكنها
جوهرية ومنها ما يتعلق بالمعادلةِ الذهبية في التحالفِ
الاستراتيجي بين واشنطن والرياض والقائمة على تبادلِ حمايةِ
العرش بالنفط، وكذلك على صعيد الملفات الساخنة في المنطقة.
فما أطلقه الدبلوماسيون الأميركيون ومسؤولونَ كبار في
البيت الأبيض ووزارتي الخارجية والدفاع من تصريحات حول
بدايةِ تباينٍ مفتوحٍ في المصالحِ بين الدولتين خلال الأسابيعِ
الماضية التي أعقبت التسويةَ الأميركيةَ الروسيةَ، عادت
لتوضعَ على المحكِ مجدَّداً، في ظل ما يشبه رغبةٍ متبادلة
بتبريد الخلافِ وتأطيره، قبل أن يأخذَ أبعاداً غيرِ منظورةٍ
في المستقبل تصعب السيطرةُ عليها..
مواقفُ الوزيرِ الأميركي في لقائه بنظيرِه السعوديِ
في باريس قبل الرياض هي لا ريب ليست نفسَها مواقفُه في
الرياضِ في 4 نوفمبر الجاري، خصوصاً فيما يتعلّق بتسويةِ
الأزمةِ السوريّةِ، حيث أكّد على الذهاب الى مؤتمر جنيف
إثنين بدون شروط، وخصوصاً تنحي بشار الأسد كشرطٍ لمشاركةِ
المعارضة، وهو ما كان نفاه كيري نفسه في توضيحه لما تمَّ
التوافقُ عليه في جنيف واحد..
في الرياض بدت لهجةُ كيري مختلفةً في أكثرِ من موضوع:
مصرُ ودورُ العسكر في إرساء الديمقراطية فيها، وشرطُ تخلي
الأسد عن السلطة ونقلها للمعارضة بحسب التفسيرِ السعودي
لجنيف واحد..
على أية حال، فإن الترجمةَ الأولية لتصريحاتِ الوزيرين
الأميركي والسعودي أن لا جنيفَ إثنين قريب، ولا تقاربَ
وشيكٍ أميركيٍ إيراني، فضلاً عن سعوديٍ إيراني..بل أمكن
القولُ أن التسويات باتت مؤجّلةً، ليس لأن خياراتٍ أخرى
باتت ناضجةً أو ناجزةً، ولكن لأن الطرفَ الأميركيَ لا
يملك أوراقاً تفاوضية قويةً في التسوية، ولذلك هو يلعبُ
بالورقةِ السعوديةِ لتأجيل جنيف إثنين..
كان كيري قد ذكَّر صاحبَه السعودي بأن التأجيلَ ليس
خياراً مناسباَ لأن الزمنَ بات في صالحِ معسكر الخصم.
تصريحاتُ كيري التي طالت إيرانَ وحزبَ الله الى جانب النظام
السوري قد تحقِّق هدفَ الترضيةِ للحليف الغاضب، ولكن تسييلُ
تلك التصريحاتِ قد يعني جولةَ دماءٍ ودمارٍ على حساب السوريين
وغير السوريين..وسوف تعودُ الأمورُ الى المربع الأول مجدداً،
ويبات الرافضون للحل السياسي كمن ينطحُ رأسَه بجبل صخري
ويصرُّ على تحطيمه ولو نزفَ دمَه وتهشّمت عظامُه..
الملفات الخلافية بين السعودية والولايات المتحدة باتت
معروفة وتتلخص في: تخلي واشنطن عن الخيار العسكري في سوريا،
المفاوضات مع ايران بشأن ملفها النووي والانفتاح السياسي
عليها، والثالث بقي خلافياً وغاضماً الى حد ما وهو الاطاحة
بحكم الاخوان المسلمين في مصر، رغم أن زيارة جيم كيري
الى القاهرة في 3 نوفمبر وإشادته بدور العسكر في الانتقال
الديمقراطي يثير شكوكاً بخصوص مواقف واشنطن عموماً من
حكم العسكر. ولكن أن تأتي زيارة وزير الخارجية الأميركي
جون كيري الرياض من البوابة المصرية يعني ذلك أن زيارة
الترضية المزدوجة تتضمن أيضاً إعادة احتواء وتموضع اميركي
في المنطقة.
تعهد السعودية بالمشاركة في جنيف 2 مقابل تأجيل موعد
انعقاده، جاء على خلفية طلب فرصة إضافية من قبل السعودية
لمحاولة تعديل موازين القوى في الميدان السوري، وخاصة
من الجبهة الجنوبية في درعا. في المحصلة، مؤتمر جنيف 2
لن يُعقد في 23 تشرين الثاني الجاري. اجتماع مجلس وزراء
الخارجية العرب قبل يوم من وصول كيري الى الرياض، جرى
الحديث عن ضرورة تأجيل المؤتمر إلى بداية العام المقبل.
وفي الخامس من نوفمبر أعلن الموفد الخاص للامم المتحدة
والجامعة العربية الى سوريا، الاخضر الابراهيمي، ان المحادثات
التي جرت في 4 نوفمبر في جنيف مع ممثلين عن روسيا والولايات
المتحدة لم تتح للأسف تحديد موعد لمؤتمر «جنيف 2». واعرب
الابراهيمي في مؤتمر صحافي عقده بعد الاجتماعات الممهدة
للمؤتمر «عن الامل» بالتوصل الى عقد «جنيف 2 قبل نهاية
العام الجاري» معتبراً ان «عملا مكثفا قد أنجز». وأعلن
أن اجتماعاً ثلاثياً ثانياً بينه وبين الاميركيين والروس
سيعقد في الخامس والعشرين من شهر نوفمبر الحالي. ما يبعث
على الاستغراب، أن الابراهيمي كشف عن موقف المعارضة السورية
وقال عنها بأنها غير جاهزة حتى الآن للمشاركة في جنيف
2. ولكن لحظنا تحلحاً في أماكن أخرى وسريعة.
فقد أعلن نائب وزير الخارجية الروسي غينادي غاتيلوف
أن مؤتمر «جنيف ــ 2» قد يعقد في نهاية العام الحالي في
حال كانت هناك تفاهمات بشأن هذا الجدول. وقال غاتيلوف
في أعقاب المشاورات الثلاثية أنه «يجب مناقشة المسائل
المتعلقة بمشاركة المعارضة السورية في جنيف ــ 2»، مشيراً
«الى أنه ليس هناك وضوح بهذا الشأن حتى الآن». وأضاف غاتيلوف
«أشرنا الى ان التصريحات الأخيرة من قبل بعض قادة المعارضة
مخيبة للأمل. كما شعرنا بأن ليست لدى الأميركيين أذرع
كافية للتأثير من شأنها أن توحد المعارضة». وتابع انه
«من الضروري أن نلفت هنا الى أنه يجب ليس فقط أن يكون
هناك تمثيل للمعارضة، بل مشاركة أكبر دائرة ممكنة من قوى
المعارضة، والأميركيون لم يفلحوا في ذلك حتى الآن».
أفادت قناة «روسيا اليوم»، بأنّ الاطراف الراعية للمؤتمر
لا تتوقع انعقاده هذا الشهر، «ولكنها تأمل عقده قبل انتهاء
العام 2013». وأضافت، نقلاً عن مصادر دبلوماسية في جنيف،
تحدثها عن توافق روسي ــ أميركي على تأجيل المؤتمر وسط
انطباع عام بأن نتائج المعارك في سوريا تفرض أجندة المؤتمر
وتحديد موعده. بدورها، نقلت وكالة «ايتار تاس» الروسية
للأنباء عن مصدر قريب من المحادثات قوله إنّ المؤتمر لن
يعقد هذا الشهر.
وفي السياق نفسه، توافرت معلومات من مصادرة مقربة من
الاجتماعات التحضيرية لمؤتمر «جنيف 2» أن دبلوماسيي روسيا
والولايات المتحدة والأمم المتحدة توافقوا على نص الدعوات
لجميع المشاركين في المؤتمر. وذكرت قناة «روسيا اليوم»،
أيضاً، إنّ «نص الدعوات تم التوافق عليه». ويدور الحديث
عن الرسائل التي سترسل إلى الأمين العام للأمم المتحدة،
بان كي مون، والحكومة السورية وقوى المعارضة والأطراف
الخارجية.
ما نجحت السعودية في تحقيقه من زيارة كيري هو تأجيل
موعد جنيف 2، ولكن ما هو أهم أنها قبلت مرغمة بمبدأ أصل
انعقاد المؤتمر. كسبت الارجاء بذريعة رفض المعارضة السورية
التابعة لها المشاركة في جنيف 2، ولكن حصلت واشنطن على
وعد بإقناع المعارضة السياسية السورية الممثلة في الائتلاف
الوطني بالمواقفة على المؤتمر، وهو ما تم فعلاً في 11
نوفمبر الجاري حيث وافق الائتلاف الوطني على المشاركة
في المؤتمر بشرط وجود حكومة انتقالية لا يكون النظام السوري
جزءاً منها..
تحرّك كيري على العواصم الحليفة للسعودية مثل الأردن
والامارات التي زارها تباعاً من أجل إقناعها بضرورة دفع
حلفائها للمشاركة في مؤتمر جنيف 2، فجاءت مواقف المعارضة
السورية سريعة في الموافقة على المشاركة، فيما تحاول الرياض
العمل في الساعات الأخيرة على إخراج الهزيمة السعودية
في الملف السوري.
|