المفتي.. سياسي في رداء واعظ
ناصر عنقاوي
يحتار المراقب لمواقف الشيخ عبد العزيز آل الشيخ ولهجته
الدينية من حيث تصنيفه على السياسي أم الديني. وهناك بسطاء
كثر يرون في خطاباته استجابة لمعتنقات دينية محضة، وأنه
يترجم التزامه بالعقيدة في هيئة مواقف لا يحيد عنها، حتى
وإن تركت آثارها المباشرة في السياسة. ولكن حين المقارنة
بين مواقف سابقة له أو بين انتقائيته تجعل من الصعب حمل
ما يقوله في السياسة على المعنى الديني حتى وإن كان مطرّزاً
بمفردات دينية مشبّعة وذات دلالة محددة.
أن يدعم المفتي آل الشيخ نظام ال سعود فتلك مهمة أوكلت
اليه وهي مقدّمة على كل ما سواها، بل ما سواها هو لدعم
هذه المهمة. وثمة ميزة يختلف فيها المفتي الحالي عن المفتين
السابقين هو استجابته الفورية لأي طلب من السلطة في توفير
الدعم المطلوب، ولفرط ما أفاض في دعم ال سعود فقد هيبته
وبات ما يقوله مبتذلاً وموضع تهكم، وفي نهاية المطاف بلا
أثر عملي..
في مطلع نوفمبر الجاري، حذّر المفتي من نشر ما وصفه
(الاراجيف) و(الشائعات) ودعا الى حسن الظن بين الراعي
والرعية. وقال في خطبة صلاة الجمعة بجامع تركي بن عبد
الله وسط الرياض، (أن المجتمع لا تنتظم حياته ولا تستقيم
أموره إلا إذا كان بين الراعي والرعية تبادل حسن الظن..).
هو لا يعنيه سوء ظن الراعي في الرعية، فهذا خارج مهمته
ولا يجوز له أن يشر الى ذلك، ولكن ما يعنيه هو توفير كل
ما يؤدي الى رسوخ السلطة وانغراسها في الرعية، ولذلك بالغ
المفتي في تصنيم ولاة الأمر الى حد منع مجرد انتقادهم
وطالب بدلاً من ذلك بالدعاء لهم في السر والعلن..!
في السياسة، يصبح الكلامُ عن قواعدَ في الفضيلةِ غير
ذي صلة، فمن ينخرطُ في مجالٍ شديدِ التداخل والتعقيد يدركُ
تماماً أنه ليس عَالَماً تحكمُه الفضيلةُ أو الأخلاقُ،
بل إن من السذاجةِ بمكان إخضاعِ الحوادثِ السياسية لمعاييرَ
أخلاقية، خصوصاً وأنَّ المنخرطينَ في هذه الحوادث لا يحتكمونَ
لمعاييرَ من هذا القبيل..
مفتي المملكة يطالبُ باعتماد مبدأ حسن الظن بين الراعي
والرعية، مبدأٌ يبدو في ظاهره أخلاقياً ومطلوباً لتأسيسِ
علاقةٍ متينةٍ بين المجتمع والسلطة، ومن شأنه أن يشيع
أجواءَ صحيّة بين الطرفين. ولكن هل بهكذا مبدأ تدارُ السياسةُ
اليوم؟ أو بالأحرى هل يمكنُ التعويلُ عليه لضمانِ حقوقِ
الرعيةِ بدرجةٍ أساسية..
ولأنَّ في التجاربِ علم مستحدّث.. فإن دعوةَ الناس
للالتزام بمبدأ حسنِ الظنِ تنطوي على إنكارٍ للواقع، إن
لم تكن تعبر عن سذاجةٍ سياسيةٍ، حتى لا نقولُ أكثرَ من
ذلك..
في العلاقةِ بين الراعي والرعية في هذا البلد يصبحُ
سوءُ الظنِ من حسنِ الفطن، لأن التجاربَ السابقةِ تفرضُ
هذا المبدأ، حيث الجورُ لا العدلُ هو الحاكمُ على العلاقةِ
بين الحاكمِ والمحكومِ، ومؤسفٌ أن يكون أهلُ الدين شركاءَ
في شرعنةِ الجور..
بعد أكثرِ من عامين على الأزمةِ السورية، يوجّه المفتيُ
العامُ للمملكة انتقاداً شديداً لبعضِ الدعاةِ الذي يحرّضون
الشبابَ على الجهادِ فيما لا يدعون أبناءهم له..
يفتحُ المفتيُ الشيخ عبد العزيز آل الشيخ جرحاً عميقاً
يمتدُ الى عقودٍ ثلاثةٍ حين انخرط الشبابُ في أول تجربةٍ
جهاديةٍ في أفغانستان وما تركته من تداعياتٍ منفلتةٍ من
عقالِها، والتي أفضت الى ظواهرَ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ وأمنيةٍ
بالغةِ الخطورة، ويكفي أن تكفي شبكةُ القاعدةِ منتجاً
رئيساً لتجربة الجهاد الأفغاني..
حينذاك، أراد النظامُ تفريغَ فائضِ الاحتقانِ الداخليِ
خارجِ الحدودِ، فدفع بالدعاةِ المحليين للتحريضِ على الجهادِ
بالأموالِ والأنفسِ، وحين عادَ هؤلاء الى الديارِ وبدلاً
من إدماجهم في مجتمعاتهم، خاضوا معركةً داخليةً، ولكن
انغمسوا في تشكيلاتٍ عسكريةٍ جديدةٍ قامت على مشاعرِ الانتقامِ
من حكوماتهم، وخصوصاً تلك التي كانت تقف وراءَ مشروعِ
الجهادِ الافغاني تمويلاً وتحريضاً..
بعد أكثر من عقودٍ ثلاثةٍ على التجربةِ الجهاديةِ الافغانية،
يبدو المشهدُ مختلفاً في العمق، فبرغم من لجوءِ فريقِ
المحرّضين من الدعاةِ وأئمةِ المساجد الى الوسائلِ ذاتها
في تشجيعِ الشباب على الهجرة إلى دار الرباط الجديدة في
سوريا، وجمعِ الأموال الطائلة بإسم دعمِ المجاهدين والمرابطين
فإن طائفةً كبيرةً من الأسئلةِ تدافعت محمولةً على شكوكٍ
في وظيفةِ الدعاةِ وأهدافهم، وصار السؤالُ لماذا نحنُ
وليس أبناءُ الدعاة، وإلى أين وصلت أموال التبرعات؟
|