اتفاق طهران وواشنطن
فزع سعودي من الاتفاق النووي
محمد قستي
بعد عشرين سنة من التجاذب الايراني الغربي على الملف
النووي، وضع الاتفاق الاولي في جنيف في 24 تشرين الثاني
(نوفمبر) الماضي الملف على سكة الحل الشامل. إتفاق اعتبرته
طهران انتصاراً تاريخياً، فيما نظرت اليه اسرائيل بأنه
خطأ تاريخي، وكذلك السعودية التي لم تخف مشاعرها عبر مسؤوليها
الى حد أن الوليد بن طلال أضفى صبغة مذهبية على الموقف
السعودي من الاتفاق، وراح يتحدث عن صراع بين أهل السنّة
بمساعدة اسرائيل في مواجهة ايران الشيعية.
قبل استعراض خواتيم الاتفاق، لا بد من العودة الى خلفيات
ما جرى طيلة سنوات التجاذب بين ايران والغرب. ففي عهد
الرئيس الايراني الأسبق محمد خاتمي جرت مباحثات مع الغرب،
وكان القرار حينذاك هو أن توقف ايران التخصيب بصورة كاملة
مقابل رفع العقوبات، ولم يكن الكلام حينذاك عن قنبلة نووية
يمكن أن تنتجها ايران، بل كان مجرد التخصيب يعتبر قضية
بالنسبة للغرب.
قررت إيران حينذاك وقف التخصيب طواعية، وفوجئت بقائمة
طلبات جديدة، تنتهي بوقف كامل لكل ما من شأنه أن يقود
الى تخصيب اليورانيوم، ولذلك طالب الغرب بوقف المعامل،
ومراكز الابحاث، وحتى التخصصات المتعلقة بالطاقة النووية
يجب إيقافها.
لحظ الايرانيون بأن الطلبات الغربية لا حدود لها وتستهدف
النيل من السيادة، فاتخذ القرار على مستوى قيادي بالتصدي
للضغوطات الغربية وتحمّل تبعات ذلك، وأصدر مرشد الثورة
الخامنئي قراراً باستئناف العمل في كل المنشآت النووية،
ولجأ الغرب الى المزيد من العقوبات، وكان القرار أن يتم
تعزيز الموقف التفاوضي، وحتى منشأة طهران تقرر رفع التخصيب
فيها الى نسبة 20 بالمئة، كي تحصل على وقود مناسب ما أثار
غضب الغرب، ولكن هذا القرار ترك أثره في المفاوضات مع
الغرب، وشكّل ورقة قوية، بحيث صارت المفاوضات تتعلق بتخفيض
نسبة التخصيب والتوقف عند 20%، وهو أساس المفاوضات في
كازاخستان، حيث صرح الغرب بقبول 20% ولمح الى حق ايران
في التخصيب.
الحكومة الجديدة برئاسة الشيخ حسن روحاني جلبت أجواء
جديدة للمفاوضات بين ايران والغرب، كونها حكومة محسوبة
على التيار الاصلاحي، في الشكل على الأقل. في المفاوضات
الأخيرة، شكّك الغرب في نوايا ايران في موضوع التخصيب،
وحاولت الأطراف الأوروبية وخصوصاً الفرنسية فرض شروط مثل
وقف العمل في منشأة فوردرو وتقليص عدد أجهزة الطرد المركزي،
ووقف عملية انتاج الماء الثقيل في منشأة آراك، ووقف التخصيب
لأكثر من 3.5% دون الالتزام من قبل الغرب بأي شيء.
الوفد الايراني اعتبر ذلك كله خطاً أحمر، وإن التفاوض
يدور فقط حول نسبة الـ 20%. فخرج الغرب بمكسبين في اتفاق
جنيف:
ـ إلزام ايران بعدم رفع نسبة التخصيب لأكثر من 5%.
ـ إلزام ايران بالزيارات المفاجئة للمنشآت النووية
من قبل فرق التفتيش الدولية.
ومن شأن هذين المقررين طمأنة الغرب حيال أي نوايا ايرانية
بعدم السعي الى انتاج قنبلة نووية.
أما بالنسبة لإيران، فإن المكسبين البارزين هما:
ـ تحقيق ما كانت تسعى اليه وهو اعتراف الغرب والعالم
بحق ايران في تخصيب اليورانيوم، وهذا من وجهة نظر ايران
انتصار كبير.
ـ وقف أي قرارات جديدة بخصوص العقوبات ورفع العقوبات
القائمة بصورة تدرجية.
وهناك 10 امتيازات أو بالأحرى مكاسب أخرى، ولكن تعتبر
من وجهة النظر الايرانية غير استراتيجية بالمقارنة مع
مكسب الاعتراف بحق ايران في التخصيب فهو لا يضاهيه أي
مكسب آخر.
بطبيعة الحال، فإن تجربة المفاوضات والتجاذبات بين
ايران والغرب والشروط والشروط المضادة جعلت من الثقة المتبادلة
أمراً بالغ الصعوبة، فايران من جهتها لا تثق بالغرب بسبب
تنصله من التزاماته في الغرف المغلقة، والغرب كذلك الذي
تعامل مع المشروع النووي منذ البداية من منطلق الشك في
النوايا، كونها أخفت سر العمل في المشروع منذ البداية.
في المحصلة، لا يزال الجدار بين ايران والغرب سميكاً،
بالنظر الى أن الملف النووي هو واحد من بين ملفات أخرى
عويصة، وهناك جولات عصيبة في الطريق منها: أنظمة الصواريخ
الباليستية التي تملكها ايران، والتكنولوجيا العلمية،
ودعم ايران لحركات المقاومة (حزب الله، وحماس، والجهاد..).
كان الإتفاق في حد ذاته على درجة كبيرة من الاهمية،
الى درجة أن مندوب الولايات المتحدة في مجلس الامن جون
بولتون وصف الاتفاق بأنه خسارة كبيرة للغرب وغباء، ما
اضطر الرئيس الاميركي باراك أوباما للرد عليه وقال بأن
ذلك ليس غباءً وإنما هي مفاوضات وتجري فيها تنازلات.
السؤال الكبير: لماذا اختار الغرب هذا الوقت بالذات
للاتفاق مع ايران؟ الجواب يحتمل متغيرات استراتيجية وأخرى
تكتيكية على النحو التالي:
ـ توصلت الولايات المتحدة الى قناعة بأن كثيراً من
ملفات المنطقة لا يمكن حلها بدون ايران بما في ذلك ملفات
(العراق، سوريا، اليمن، البحرين، لبنان، أفغانستان..)،
وإن أي مكان يتواجد فيه السعوديون والأميركيون هناك وجود
ايراني وله تأثير معنوي وسياسي كبير، ولا يمكن تجاوزه.
ـ سعى الأميركون الى اعطاء دور للسعودية تارة ومصر
تارة أخرى، ولكن هاتين الدولتين عانتا إما من عدم الاستقرار
كما هو الحال في مصر حالياً، أو من عدم الثبات على موقف
واحد كما الحال في السعودية. على العكس بالنسبة لايران
التي بقيت متمسّكة بمواقفها وثابتة على سياساتها ولم تدفعها
الضغوطات والتحولات الى تغيير مواقفها وسياساتها.
ـ هناك مثل أميركي يقول إن اليد التي لا تستطيع قطعها
عليك تقبيلها، وكانت مراكز الابحاث الأميركية قد رفعت
توصية للادارة بضرورة الانفتاح على ايران، لأن لا طائل
من القطيعة معها بعد أن أثبتت كونها قوة اقليمية وزانة
ومسؤولة عن الحفاظ على الاستقرار.
ـ إن الظروف التي تمر بها المنطقة، تدفع الغرب للبحث
عن مصادر الاستقرار فيها، خصوصاً وأن هذه المنطقة لا تزال
تمثل مركز الطاقة العالمية، ولا يمكن استثناء ايران من
أية ترتيبات مقبلة، حتى لو قررت الولايات المتحدة مغادرة
المنطقة، فلابد أن تؤسس لعلاقات مستقرة مع الدولة الكبيرة
فيها.
ـ في الملف السوري، بدا واضحاً بعد مشاركة العالم كله
في الأزمة السورية، حتى أن قوى كبرى وأخرى اقليمية كانت
تمني النفس بسقوط نظام بشار الأسد في شهر أو شهرين ولكن
بعد أكثر من سنتين ونصف اكتشف الغرب بأن النظام السوري
بات أقوى من ذي قبل وأشد تماسكاً والسبب في ذلك هو دعم
ايران له.
ـ العامل الاقتصادي: الحظر على ايران والعقوبات الاقتصادية
المفروضة عليها من قبل مجلس الامن، جلب المتاعب للاقتصاد
الأميركي والغربي عموماً، ووجد الغرب نفسه أمام خيارات
صعبة، حيث وجد بأن لا سبيل للتخلص من المشاكل الاقتصادية
سوى بمد جسر التواصل مع ايران.
نشير هنا الى ما نقله جيفري فيلتمان، المبعوث الأممي
عن الامين العام لهيئة الامم المتحدة، في تقرير عن زيارته
لطهران في أكتوبر الماضي ورفعه للإدارة الأميركية. كان
فيلتمان قد طلب من مضيفيه الايرانيين بأنه يرغب في التجوّل
في شوراع العاصمة طهران، فجاء الى منطقة تجريش شمال العاصمة،
وشاهد الأسواق العامة والمحال التجارية، وكتب تعليقاً
على مشاهداته بأن لا أثر للعقوبات المفروضة على ايران
فالحياة تسير بصورة اعتيادية وكل شيء متوفر في الأسواق.
الموقف السعودي/الاسرائيلي
لم يتأخر الموقف السعودي الاسرائيلي من الاتفاق الايراني
ـ الدولي على الملف النووي، فقد بدت مواقف الأمراء السعوديين
متطابقة وموتورة الى حد بعيد. ففي اليوم الذي أعلن فيه
عن الاتفاق، أطلق رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشورى
السعودي في مقابلة مع وكالة (رويترز) عبد الله العسكر
بأن النوم سوف يجافي شعوب الشرق الأوسط بعد الاتفاق بين
الغرب وايران على الملف النووي، وكان قد تزامن مع تصريح
لصحيفة (التايمز) اللندنية للسفير السعودي في لندن، الأمير
محمد بن نواف بن عبد العزيز يقول فيه: إن المملكة لن تقف
مكتوفة الايدي إذا فشلت الولايات المتحدة وبريطانيا وبقية
الدول الكبرى في كبح برنامج ايران النووي الطموح. واستعمل
السفير الامير لغة التهديد الاميركية قبل الاتفاق: (أن
كل الخيارات متاحة).
ترجمة الصحفة الغربية بما فيها التايمز تقول بأن المنطقة
مقبلة على سباق تسلح نووي في ظل حديث عن اقتناء الرياض
أسلحة نووية من باكستان. ثم جاءت مقابلة الوليد بن طلال
مع صحيفة (وول ستريت جورنال) لتكشف عن بعض ما يدور في
مجالس الأمراء من غضب وقلق، فقد تبدّل المزاج في واشنطن،
ولم تعد السعودية الدولة المدللة والأثيرة، التي تنال
أولوية ودلال رؤوساء البيت الأبيض وتكسب عناية خاصة، فقد
باتت الرياض كما يقول الوليد بن طلال تشكو من أن البيت
الأبيض لا يصغي اليها ولا يكشف عن نواياه الحقيقية.
لم يخف الوليد بن طلال تطابق موقف حكومة أسرته المالكة
مع نظيره الاسرائيلي، بل أشاد برئيس الوزراء الاسرائيلي
بنيامين نتنياهو، وبدا صريحاً هذه المرة بأكثر مما يمكن
توقّعه حيث قال ما نصّه بأن مصالح السعودية واسرائيل هي
في الغالب متماثلة، وأن ذلك يبعث على الدهشة.
بدا بعد الاتفاق النووي الايراني ـ الدولي أن ثمة ثنائية
كانت خافية على الرأي العام العربي والدولي كشفت عن نفسها
بهذه المناسبة، حيث ظهر الخوف المشترك لدى السعودي والاسرائيلي.
والغريب أن هذه الثنائية لا تثير حساسية من أي نوع لدى
آل سعود، وكأنها أمر واقع لابد من التعامل معه وتمريره،
وكأن التبدلات السريعة في المواقع والوقائع السياسية كشفت
الى حد كبير من هي الدول التي يمكن أن تتطابق مواقفها
ومن هي المرشحة لأن تختلف.
من الواضح أن حديث الوليد بن طلال عن تطابق المصالح
السعودية الاسرائيلية إزاء ايران يأتي كعنصر جديد في قصة
العلاقة السرية والطويلة بين الدولتين وسوف تكشف الأيام
عما هو أكبر وأعمق مما نشر حتى الآن.
بيان مجلس الوزراء السعودي الذي صدر في 25 نوفمبر الماضي،
أي بعد يومين من الاتفاق بين الغرب وايران حول الملف النووي،
خلا من عبارات الاشادة بل ترك الباب مفتوحاً على متغيرات
يرجوها آل سعود. جاء البيان بعد صدور بيانات من دول أعضاء
في مجلس التعاون الخليجي تشيد بالاتفاقية، وما تلاها من
انعكاسات في السياسة من قبيل دعوة البحرين لايران بالمشاركة
في لقاء المنامة، وزيارة وزير الخارجية الاماراتي عبد
الله بن زايد الى طهران، وزيارة وزير خارجية ايران محمد
جواد ظريف الى الكويت وعمان.. نشاطات دبلوماسية محمومة
فرضت نفسها على المشهد السياسي في المنطقة، وإن انشغال
السعودية في الحرب في سوريا، وتوقيف الماكينة الدبلوماسية
يجعلها عنصر مشاغبة، وقد يؤول بها الى خسارة الرهانات
كافة.
|