العودة ومنعطف المنزلقات السعودية
خالد شبكشي
حين ينكفيء النظام على نفسه داخلياً بفعل الخسارات
السياسية المتلاحقة في الخارج، لا يقوم ـ حسب التجربة
ـ بإصلاح وضعه الداخلي، بل بمعاقبة المواطنين الذين شهدوا
انكفاءه، وترقيع صورته عبر استخدام العنف والقبضة الأمنية.
هذا هو المتوقع في هذه الحالة أيضاً، فقد يكون عام 2014
عام القمع بامتياز، اكثر منه عاماً مشحوناً بآمال الإصلاح.
عام القمع، لأن ألسن المواطنين ستتطاول أكثر على (ولاة
الأمر) وهم يشهدون هزائمهم وخسائرهم وفشلهم الداخلي والخارجي،
ولذا لا بدّ من تلقينهم درساً بأن حكم آل سعود لازال قوياً،
وأن قبضتهم الأمنية شديدة.
في كل منعطف أو أزمة تمرّ بها السلطة، يتجرّأ عليها
الجمهور بالنقد.
وفي كل منعطف أو أزمة تمرّ بها سلطة آل سعود في الخارج،
تقوم باستخدام هراوة أمنية أكبر من سابقتها ضد الشعب.
المعادلة واضحة.. فالمواطنون، خاصة المثقفين منهم،
ممن يراقبون الأحداث من حولهم، يدركون أن جزءً من تغوّل
النظام السعودي يعود الى قوّة تحالفاته الخارجية، والى
نفوذه في بلدان عديدة، بما يسبغ عليه ـ داخلياً ـ صفة
النظام القوي المحترم من الاخرين والعالم. وفي وقت تتغير
هذه المعادلة ـ قليلاً أو كثيراً ـ في الخارج، فيضعف نفوذ
النظام في الدول المجاورة، ويبدأ بالتخبّط في العداوات
لكل من كان يعدّ صديقاً له. وفي وقت رأى المواطنون غضب
الأمراء على حماتهم الأمريكيين والبريطانيين والغربيين
عامة، ومسارعتهم للبكاء والنحيب والعتب على من باعهم وتخلّى
عنهم.. في هذا الوقت، وبحساب صحيح، عرف المواطنون ان النظام
بدأ يفقد مكانته الاستراتيجية لدى مشغّليه الكبار، وبدأت
الدول المجاورة تتعامل معه كقزم منبوذ، وتشتكي علناً من
عنجهيته وميله الشديد للعنف والإنتقام ضدهم.
الانهيارات في السياسة الخارجية السعودية، قزّمت ـ
بهذا المعنى ـ أمراء الحكم في أعين المحكومين بالقبضة
الأمنية. فقد شهدوا حالة ضعفه بكل وضوح، او على الأقل
بدون شك هذه المرة، وربما استمتعوا بحالة الوجوم والقلق
بل والرعب الذي سيطر على المسؤولين، وحاشيتهم، وكتابهم.
حتى ان البعض نصح هؤلاء الكتاب بأن يتأخروا اسبوعاً في
الكتابة عن الإتفاق الإيراني مع الخمسة زائداً واحداً،
حتى يكونوا قد أفاقوا من هول الصدمة، وبدأوا التفكير ومن
ثمّ الكتابة بطريقة صحيحة.
منذ ذلك الإتفاق النووي، وقبله إيقاف الضربة العسكرية
الأميركية ضد سوريا، وما أعقب الإتفاق من صواريخ خليجية
تطايرت على الرياض، من سلطنة عمان التي رفضت الاتحاد الخليجي،
وتوسعة درع الجزيرة، ومن الإمارات وقطر وحتى البحرين التي
يحاول ملكها زيارة طهران، فلم تُفتح له الأبواب. منذ ذلك
الإتفاق والسعوديون ـ مواطنين وحكاماً ـ يعيشون مرحلة
جديدة في السياسة، فهذا هو النظام الأرعن ينجرف الى الأدنى
ويشعر بخطر وجودي لم يسبق له الشعور به، حتى أحداث سبتمبر
2001 لم تشكل تحدياً وجودياً لآل سعود وتمكنوا بحكم علاقتهم
الخاصة بعائلة آل بوش من تجاوز تبعات التفجيرات تلك.
وتحكي الكتابات والتعليقات لبعض النخب والناشطين السياسيين
حول هذا التحوّل، شماتة بالنظام ورموزه من جانب، وآمالاً
بأن إدراك النظام للضعف والخذلان والخوف من المستقبل الذي
هو فيه.. قد يفتح كلّه أفقاً نحو تراجع الأمراء باتجاه
التهدئة والإصلاح السياسي الداخلي، او ـ ربما ـ رحيل النظام
نفسه، ان لم يقم بذلك.
احتمالات الإصلاح السياسي ضئيلة، ومع تكاثر الدعوات
اليوم الى الإلتفات للشعب، والتحصّن به في وجه التحولات
السياسية الراديكالية، إلا ان أذن العجين الملكية لا تسمع
على الأرجح.
الشيخ سلمان العودة عوّدنا على اقتناص الفرص. فكلّما
ألمّت بالنظام سانحة، بادر الى اطلاق بعض التصريحات، او
التغريدات في تويتر، تحوي شيئاً من النصح، وشيئاً من الآمال،
وشيئاً من النقد، أو كما يقول: (لا يمكن أن نصلح ما لم
نشرع أبواب النقد).
في مرة سابقة تحدث وكانت المناسبة تعاظم كرة الثلج
بشأن السجناء السياسيين المعتقلين بلا محكامات؛ وهذه المرّة
عنون كتاباته (أصيح بالخليج)! وفي الحقيقة فإنه يصيح بحكام
بلده دونما سواهم، فهم المعنيون الأساس، ولا نظن ان العودة
يطرح نفسه زعيماً خليجياً، دينياً أم سياسياً.
لم يأت العودة بجديد، فكل ما قاله كلام مكرور. أهميته
تنبع من قائله، وليس المقال بذاته، كما تنبع من توقيته
ومناسبته.
يبدأ العودة بكليشة معتادة، فالمقصود مما يكتب هو النصيحة
(لولاة الأمر) دون أن ينعتهم بذلك، ووحدة المصير من خلال
حديث السفينة وحمايتها من الغرق، يستدعي منه ان التحدث.
تصفعك تغريدة للعودة تقول: (لا يقبل مخلص أن يصبح وطنه
مثل سوريا أو العراق، ولا يمكن تجنّب هذا المصير بغير
إصلاح جاد تعلن عنه السلطة). ويضيف: (البرد والتشرد والجوع
والاقتتال والخوف لا وطن لها وهي سريعة الانتقال سريعة
العدوى.. والعاقل يخاف). فالسعودية ليست بعيدة عن ملاقاة
مصير مؤلم صنعته لغيرها وقد تقع فيه. المشترك بين السعودية
ودول عربية اخرى، هو سيادة الديكتاتورية والقمع. والمشترك
هو عنف القاعدة الذي يعصف بالبلدين العراق وسوريا وغيرهما
قتلاً وتقطيعاً، والسعودية مصدّر للقاعدة بل مقرّها الرئيس،
منها تستقي الفكر والرجال والمال، فلماذا تشذّ السعودية
وتنجو بنفسها؟ والمشترك هو التدخّل الأجنبي، الغربي والإقليمي،
والسعودية يمكن أن تتحوّل من محميّة أميركية لصالح حكم
آل سعود، الى بلد مفتوح على التدخلات الخارجية ضد الحكم
نفسه.
الحل لمنع تحول السعودية الى مزرعة للعنف والتدخل الخارجي
والفوضى والقتل القاعدي، هو أن تعمد الحكومة الى الإصلاح
السياسي، يقول العودة، وهذا من الكلام المكرور أيضاً،
إذ ان الطغاة لا يتعظون بمن سبقهم في معظم الأحوال. والسعوديون
ـ ونقصد الأمراء ـ يعتقدون بأنهم حالة خاصة، لا تنطبق
عليهم سنن الكون (حنّا غير)!
لذا يقول العودة مقاطعاً: (دول الخليج ليست استثناء
من سنن الله في خلقه، وسنة الله ماضية لا تحابي أحدا).
مرة اخرى يراد التعويم، فالمقصود هنا السعودية وليس دول
الخليج الأخرى في مجملها، فهي ـ أي السعودية ـ أكثر من
يستخدم الدين ويتلاعب به، وهي أكثر من غيرها بعداً عنه
وعن سنن الله في الكون.
الأمراء لا يعتقدون أنهم جامدون فاسدون لا يحبّون الإصلاح
ولا المصلحين ولا الناصحين، لذا فإن قول العودة: (حالة
الجمود تؤذن بالخطر مهما كانت أسبابها).. لا تعني للأمراء
شيئاً، ولسان حالهم يقول: (سمعنا بذلك من قبل، وها نحن
على كرسي الحكم، وجالسين على قلب الشعب)! وليس في نيتهم
(إعادة الاعتبار للشعب، ورعاية الحقوق الشرعية لكل أحد
كائناً من كان) كما يطلب العودة.
لكن الجملة الأخيرة (رعاية الحقوق الشرعية لكل أحدٍ
كائناً من كان) تفتح الكثير من الأسئلة ولا تجيب على سؤال
كيفية الخروج من الإستبداد. جملة (الحقوق الشرعية) تذكرنا
بلجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية التي وقع عليها العودة
وزملاؤه من مشايخ السلفية، وهي لا تعني مساواة في الحقوق
على اساس المواطنة، ولا مساواة في الحقوق على أساس الإسلام
الجامع بين المواطنين، بل تعني ان الحقوق الشرعية مخصصة
لصحيحي الإسلام من التيار السلفي (وهو أقلية في السعودية)
واما البقية فهم غير مسلمين ومشركون، ونحن نعلم أن العودة
لا يرى أن المواطنين الشيعة والإسماعيليين والصوفيين ولا
اتباع المذاهب الأخرى مسلمون.
فأية حقوق شرعية لهم وفق المنهج السلفي الوهابي؟ ربما
حق الحياة فحسب كما يقول صديق العودة، وهو سفر الحوالي.
فيحق للسلفي الأقلوي ان يأخذ حقه كاملاً وأن يسيطر على
الدولة اليوم تحت راية ال سعود، وغداً تحت راية السلفية
الخالصة، اما اكثرية الشعب فحقوقهم أدنى من الناحية (الشرعية
الوهابية)! ولا تعني (كائناً من كان) سوى اعطاء غير المسلمين
من المواطنين حقوقاً ما في الاقتصاد والتنمية لا أكثر،
وهو ما كتب عنه الوهابيون كثيراً. وان من يوزّع الأرزاق
والحقوق ليس رب العالمين، بل اصحاب الدم الأزرق في نجد!
ومع ان العودة يعتقد بأن (توظيف الدين للسياسة يفسد
الدين والسياسة معا!) في إشارة الى الأمراء السعوديين،
فإنه يلزم القول بأن بعض المشايخ يفعلون ذات الأمر، وبعضهم
يعتقد بأنه يستخدم السياسة خدمة للدين، وهذا ما أفسد الوضع
في السعودية عموماً. فهل العودة يؤمن بفصل الدين عن السياسة؟
لا. وإنما يقصد بأن استخدام الدين لتغطية سوءات النظام،
او لتبرير أفعاله وجرائمه، لا يخدم النظام، كما لا يخدم
الدين نفسه، وفي هذا رسالة الى وعاظ السلاطين الذين يقفون
مع الجلاد ضد شعبهم.
ويحذر العودة النظام السعودي بأن (الأجيال الجديدة
لها رأي مختلف لا بد من اعتباره)، وأن الشعب أخذ بالتنمّر
على النظام: (للصغار أظافر تنمو أكبر مما يتخيل الكبار)،
وأن الثقة باتت معدومة بالأمراء ووعاظهم فـ (الشعوب لا
تمنح ثقة دائمة حتى لمن يستحقها) فكيف بمن لا يستحقها؟.
قد يبدو هذا الاقتراح ساذجاً: (يجب أن يشعر الأمير
والمسؤول بأنه مواطن وأن يشعر المواطن بأنه مسؤول) فالقضية
أكبر من المشاعر، وحتى المشاعر نفسها يصعب تغييرها خاصة
لدى الأمراء الذين اعتادوا ان يروا انفسهم انصاف آلهة
يملكون الأرض ومن عليها وما تحتها. ويعتقد العودة بأن
الاصلاح السياسي يستدعي (تحديد الفرق بين الوطن/ والدولة/
والحكومة/ والأسرة الحاكمة/ وتحديد الاختصاصات بوضوح).
والحقيقة ان الاصلاح السياسي يستدعي ان تقف النخب على
رجليها وان تتخلى عن جبنها وتواجه النظام ورموزه، وتحرك
الشارع للإطاحة به أو فرض الإصلاح عليه، وحينها يمكن الحديث
عن مفردات الإصلاح وأدواته.
وبناء على هذه الملاحظات التي تحوي قدراً من السطحية
السياسية، فإن كاتباً في جريدة الشرق السعودية وهو سعد
الوهابي، اقترح على الحكومة احتواء العودة، وتعيينه وزيراً
ليثبت كفاءته ويلبي تطلعاته، وقد سخر العودة من ذلك.
أياً يكن الأمر، فإن المتفق عليه هو أن النظام السياسي
في السعودية ينحدر الى مستنقع خطير، وقد يجرّ الدولة معه
الى الفوضى والخراب والدمار وعدم الإستقرار. واياً تكن
الحلول المطروحة من قبل النخب والنشطاء السياسيين، فإن
حلاً واحداً هو الذي يؤمن به آل سعود: المزيد من القمع
والعنف!
|