سوريا.. قضية سعودية
محمد قستي
سوريا.. قضية محليّة سعودية بامتياز.
هي كذلك بالمعنى الحرفي للكلمة.
سوريا قضية سعودية بمعناها السياسي، او كقضية سياسية
بالنسبة للنظام السعودي.
وهي قضية سياسية مذهبية بالنسبة للنخبة الدينية السلفية
(الوهابية).
أشرس المقاتلين في صفوف المسلحين السوريين، قدموا من
السعودية ويحملون جنسيتها، وانضموا الى أشرس الجماعات:
داعش، وجبهة النصرة، الفصيلان التابعان بلا مواربة للقاعدة.
أكثر الإنتحاريين في صفوف داعش والنصرة هم من السعوديين،
سواء في العراق او سوريا.
أكثر التمويل للحرب الأهلية في سوريا جاءت من السعودية..
بل ان التمويل السعودي بزّ قطر وتركيا وباقي دول الخليج
ودول الاتحاد الأوروبي مجتمعة.
أكثر الفتاوى الدينية تأثيراً في الحرب في سوريا والتي
اتخذت منحى طائفياً جاءت من المشايخ السعوديين، أو السوريين
المقيمين في السعودية كالعرعور والمنجد وأضرابهم.
الفكر السلفي الوهابي التكفيري الذي يستبيح الدماء
والأعراض ويمثّل بالجثث، وينتهج قطع الرؤوس لم يهبط على
سوريا إلا من السعودية نفسها. هذا الفكر هو الذي لا يرى
الحرب إلا دينية طائفية، يجوز فيها حرفياً فعل (كل شيء)
بالخصم.
أكثر التشدد في رفض الحلّ السلمي جاء من السعودية كنظام،
ولازال التشدّد ومواصلة الحرب هو المنهج الأساس للسياسة
السعودية في سوريا.
شيوخ السعودية هم الأساس في تبرير عمل داعش والنصرة،
وهم يمثّلون المرجعية الدينية لهم، ليس فقط في الفكر،
وإنما في الموقف، وفي حلّ الإشكالات البينية. ولعلنا نذكّر
هنا بالشيخ العلوان، وبالشيخ يوسف الأحمد الذي لم تطرف
له عين وهو يحكم بين الخصمين القاعديين، ويصدر رأيه في
الأمر، في بيان علني، وكأنّه يجلس الى جانب الظواهري وهو
يصدر أحكامه.
حين نقول السعودية، فإننا نعني النظام السياسي، ونعني
محيطه الاجتماعي في منطقة نجد، مركز التطرف حيث خرج منها
المذهب الوهابي، وخرّجت للعالم التشدد والعنف، كما خرّجت
مشايخ لا يرون سماحة في الدين، ولا في نبي الإسلام الذي
يرونه مجرد (نبيّ الذّبح) لا (نبي الرحمة). نقصد نجد التي
خرج منها مسيلمة الكذاب، وسجاح، والتي وصفها رسول الإسلام
بأنها (قرن الشيطان).
لا نقصد كل السعودية.. فالوهابية أقليّة في السعودية،
والنظام السعودي النجدي يمثّل تلك الأقلية ويريد فرض مذهبه
على بقية المواطنين.
بمنظار الأمراء السعوديين: فإن سوريا قضية سعودية بحتة.
هي قضية مذهبية، والإنتصار فيها انتصار مذهبي، كما هو
انتصار سياسي، على خصوم مذهبيين وسياسيين، وعبر ذلك النصر
يمكن للرياض ان تعوّض خسائرها خلال العقود الأخيرة، وتستعيد
نفوذها، بضرب الحلف المواجه لها.
سوريا بالنسبة لآل سعود، الخندق المتقدم لإشغال الخصوم،
ولو احترقت سوريا بمن فيها. لا قضية ديمقراطية ولا حرية
ولا انسانية تهم آل سعود.
وسوريا بالنسبة لآل سعود، مكان للتخلّص من القاعديين
المحليين المعارضين لهم، فليذهبوا الى هناك، وليخففوا
الوطء عنهم بأن يقتلوا انفسهم وأن لا يعودوا أحياءً ولا
حتى في توابيت. فالقاعدة مطلوبة للعمل في أماكن، ومرفوضة
في اماكن أخرى يقررها ولي الأمر السعودي.
في السجون تجري المساومات مع سجناء معارضين: نطلق سراحكم،
ولكن لتذهبوا الى سوريا! فهناك الجهاد الحقيقي، مثلما
كان الجهاد في العراق وقبله في أفغانستان.
وسوريا بالنسبة لآل سعود مكان تفريغ التطلعات والآمال
بدولة العدل والحرية والديمقراطية. نسي الكثيرون ربيع
العرب الذي تحوّل الى ربيع داعشي. تخففوا من المطالبة
بالإصلاحات السياسية محلياً، وتوجّهت أذهانهم وآمالهم
نحو سوريا لتحقيق نصر مؤزر (مذهبي بالدرجة الأولى).
الجهاد والثورة يكون في سوريا، أما الإصلاح الداخلي
فمؤجل.
لا بدّ من نقل الشحنة المتفجّرة من الداخل الى الخارج.
لا بدّ من إشغال الرأي العام المحلي بقضية أكبر تلهيه
عن حاله. لا بدّ أن يقتنع المواطن بأن قضية أكبر في الخارج
تنتظر اهتمامه وعطفه ومشاركته حتى بالدم وليس بالمال فقط.
كيف يقتنع المواطن بأن قضية سوريا اهم من قضيته، مثلما
كانت قضية العراق، وافغانستان؟ ولماذا لا تكون قضية تونس
واليمن ومصر قضيته؟ لأنه يتعلم من مصر وتونس واليمن الثورة
على نظام حكمه، من اجل تحسين حياته السياسية والاجتماعية.
في حين أن سوريا تقدّم له نموذجاً آخر: انها الحرب الطائفية
السياسية المتوافقة مع مصلحة الأمراء، والتي لا تكلفهم
دفع اثمان الإصلاح السياسي، بل بالعكس تماماً تبعدهم من
دفع تلك التكاليف.
لذا لا بدّ أن يكون عنوان الحرب طائفياً، فلا شيء يغري
الوهابية أكبر من الحرب الطائفية، يتهافتون عليها كتهافت
الفراش على النار. ولهذا، ظهرت شعارات مبكرة على الحيطان:
(ستكون سوريا مقبرة للوهابية). يقال هذا ليس انتصاراً
لنظام الأسد، بقدر ما هي حقيقة يراد لها أن تُدرك.
باختصار الحرب في سوريا بالنسبة لنظام آل سعود، منحة
من السماء، فرصة لا تعوض لتغيير شكل المنطقة، ولإبعاد
ما سمي بالربيع العربي عن الخباء السعودي، ولقذف مجانين
الداخل الدواعش الى جهنم السورية، ولتأجيل الإصلاحات او
الغائها، ولضرب الخصوم السياسيين الإقليميين واستنزافهم،
ولاستعادة الحقبة السعودية التي دفنت حيّة منذ أكثر من
عقدين.
لهذا يصبح السؤال: لماذا اصرار السعودية على مواصلة
الحرب في سوريا، ولماذا هي منزعجة من مقولات الحلّ السلمي
فيها؟ يصبح هذا السؤال لا معنى له. فمن يعيش على مصائب
الآخرين، وينقل اليهم سمومه، يريد أن تستمر المحرقة السورية،
لأنها لم تحقق كامل الأهداف السعودية.
هذا على مستوى النظام، فماذا على المستوى السلفي المتشابك
مع آل سعود؟
سوريا بالنسبة لمشايخ الوهابية وأتباعها في السعودية
ـ مرة أخرى نقول أنهم أقليّة عددية ـ هي قضية مذهبية تغري
بالقتال وبذل الدم؛ لكن هذا وحده ليس كافياً، فقد كان
النظام الحاكم في سوريا صديقاً لآل سعود لعقود طويلة.
ولكن حين تغير مجرى السياسة السعودية، كان على الأمراء
تشغيل المؤسسة الدينية الوهابية بفتاواها وجمعياتها الخيرية
وبتحريضها الطائفي لخدمة خطهم السياسي، وكان على الواعظ
الوهابي ان يتحفّز لمعركة الإنتصار للوهابية مهما كلّفت
من أثمان.
من يقتل اليوم من السعوديين هم أتباع المذهب الرسمي،
ومعظمهم من نجد، معقل آل سعود ووعاظهم النجديين. وكلما
زاد عدد القتلى صارت الحرب في سوريا محليّة، ليس فقط في
أهدافها السياسية والمذهبية، بل في تأثيراتها الإجتماعية.
لذا تجد الإعلام الرسمي وكثير من الإعلام غير الرسمي حتى،
يتعاطى مع الشأن السوري كشأن محلي في ارتداداته وفي مشاعر
المشاركين فيه.
في أفغانستان كانت هناك محرقة. وفي العراق محرقة مازال
الأمير بندر يغذيها بالمال والرجال والفكر المتطرف وتوفير
الغطاء السياسي والإعلامي لها. وها نحن في محرقة أخرى
في سوريا، لا هدف ايجابي لها كانتصار لحرية او ديمقراطية
او دين، بل الإنتصار لمذهب الوهابية ولسياسة آل سعود.
هذا مختصر الحكاية.
الآن وقد وقعت الحرب بين فصائل القاعدة.. داعش وجبهة
النصرة، اضافة الى الجبهة الاسلامية التي يتحكم فيها الطيف
السلفي ممثلاً بزهران علوش الذي تعلم دينياً على سلفية
الوهابية وعاش في السعودية.
الآن وقد زاد القتل في صفوف السعوديين، في عمليات انتحارية،
او عمليات انتقامية مضادّة.
الآن وقد بدا الحلم السعودي يذوي في سوريا، تزداد التسهيلات
لمن يريد القتال في سوريا، لإبقاء الحرب مستعرة، لكن هذا
لم يمنع الارتدادات السياسية المحلية.
فالرياض تخشى أن جبهة عالمية واقليمية تتشكل لحرب القاعدة،
قد تقود الى محاربتها في الداخل السعودي، حيث المصدر التمويلي
والبشري والفكري.
لهذا وبعد ان هيأت البديل، تم الاستغناء عن داعش وتم
اعلان الحرب عليها في سوريا، مع استمرار دعمها في العراق.
وغداً قد تكون الحرب على زميلتها جبهة النصرة، في سياسة
تتكرّر مرات ومرات ولكن الجهلة لا يتعلمون.
حال آل سعود (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما
كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين).
تريد الرياض ان تظهر نفسها اليوم أنها تحارب القاعدة
في سوريا، وتريد في نفس الوقت ان تلقي باللوم على تركيا
وايران وأي أحد إن أمكن بأنهم هم من يدعم القاعدة. وأيضاً
فإن رسالة آل سعود المحلية، وتداركاً لتداعيات زيادة القتل
لمسلحين سعوديين في سوريا على الوضع النجدي ـ خصوصاً ـ
ومن ثم على النظام نفسه، تريد القاء التهمة على المشايخ
المختلفين مع آل سعود او حتى المؤيدين، بأنهم هم من حرّض
على (الجهاد) في سوريا خلافاً لرأي وليّ الأمر! ولذا ظهر
لنا الاعلامي الرسمي دواود الشريان في برنامج الثامنة
في قناة ام بي سي، متهماً العودة والعريفي والسوري العرعور
بأنهم السبب، وطالب بمحاكمتهم. فرد عليه العودة في تغريدة
في تويتر: (أخي داوود: رأيي منع الذهاب لسوريا أو غيرها،
وعليك الإعتذار علناً او الإثبات، أو الإستعداد للمحاكمة)!
بعد سنوات ثلاث من الحرب الطاحنة في سوريا، ومن مليارات
انفقتها السعودية لتمويل الحرب، ومن حملات محلية للإغاثة
والتبرعات، ومن عشرات بل مئات الفتاوى والدعوات للقتال
في سوريا، ومن جمع التبرعات عبر العرعور علناً، والتحريض
على الطائفية في وصال وصفا بأفواه سعودية وسلفية ومن داخل
البلاد، يأتي الشريان مدافعاً عن آل سعود ويقول بأن لا
دور لهم فيما جرى ويجري، بل ويستثمر ذلك ضد بعض المختلفين
مع النظام!
معركة سورية محلية شاركت فيها كل مؤسسات الدولة السياسية
والدينية والاعلامية والإقتصادية والمخابراتية والأمنية،
وكل أصدقاء وحلفاء النظام في الداخل والخارج، وتبعاتها
العنفية والسياسية ـ كما في المرات الماضية في افغانستان
والعراق ـ يتحملها ال سعود لا غيرهم. أحرق النظام ـ ولعقود
ـ خصومه في الداخل والخارج بمعارك طائفية وسياسية طاحنة
كان حطبها التيار الوهابي، والمال النفطي، ولربما تكون
الحرب السورية في تداعياتها آخر حروب النظام الكبيرة في
الخارج.
كثيرون يتوقعون اليوم أن يظهر القاعديون الدواعش في
مدن السعودية يفجرون ويقتلون.
وكثير من المحللين يتوقعون ان يرتدّ دعم الرياض للقاعدة
الى هجوم سياسي دولي على حكم آل سعود.
ما كل مرّة تسلم الجرّة.
|