هل يفجّر سحب السفراء من قطر مجلس التعاون الخليجي؟
(خليجنا) لم يكن ولن يكون واحداً!
عبدالحميد قدس
مفاجأة غير سارة لأكثر المواطنين الخليجيين الذين ناموا
على أناشيد (خليجنا واحد)؛ و(الاتحاد الخليجي) ليصحوا
مذهولين على وقع سحب السعودية والإمارات والبحرين سفراءها
من قطر، دون أن يعرف المواطنون الخليجيون المقدمات ولا
المسببات ولا أن يستنبطوا النتائج التي يفرزها هكذا قرار.
البيان الثلاثي الذي اصدرته الدول الثلاث عقب سحب السفراء
لم يجب على الأسئلة التي تدور في بال الجميع: تحديداً
ماذا كان جُرم قطر؟ إذ لا يكفي الحديث بعمومية وغموض عن
خروج قطر على الاتفاقيات الامنية، ومبادئ مجلس التعاون
الخليجي، والتدخل في الشؤون الداخلية، وتهديد امن دول
المجلس، ودعم الاعلام المعادي.. ما لم توضع النقاط على
الحروف، خاصة وأن قطر لم ترد بالمثل بسحب سفرائها، كما
لم تشأ التصعيد، واوضحت بأن لها الحق في انتهاج سياسة
خارجية مستقلة، وأن الخلاف لا علاقة له بشؤون مباشرة بدول
مجلس التعاون.
هذه المقالة ترصد أبعاد القرار السعودي بسحب السفراء،
ومسبباته، وآثاره المستقبلية.
القرار بسحب السفراء من قطر، هو قرار سعودي، وليس خليجياً.
فمؤيدو القرار السعودي دولتان هما الإمارات والبحرين؛
ومن يقف مع قطر او لم يتماشَ على الأقل مع القرار السعودي
دولتان اخريان، هما سلطنة سلطنة عُمان والكويت. وبالتالي
لا يمكن القول ان ما جرى يمثل (الإجماع الخليجي)، بل الأصح
أن القرار كشف عن (انشقاق خليجي) غير محدود بطرف واحد
هو قطر، بل بطرفين يكادا ان يكونا متكافئين، على الأقل
من حيث العدد.
خلفية لأسباب الخلاف
ليس قرار فتح الرياض ـ وبهذا الحجم غير المسبوق في
تاريخ الدول الخليجية ـ الخلاف على مصراعيه مع قطر أمراً
عادياً، رغم أن الرياض طالما كان لديها خلافات مع جيرانها
كافة وبدون استثناء، إما على الحدود والأراضي (مع عمان
والإمارات بشأن البريمي مثلاً؛ ومع الإمارات وقطر بشأن
الممر البري الذي كان يربط بينهما واستولت عليه الرياض؛
ومع الدولتين آنفتي الذكر بشأن الحدود البحرية؛ ومع الرياض
وقطر بشأن الخفوس والعديد؛ ومع البحرين بشأن جزيرتي لبينة
الصغرى والكبرى اللتان استولى عليهما السعوديون اضافة
الى جزيرة زخنونية التي سبق للرياض ان صادرتها؛ ومع الكويت
بشأن جزيرة قاروه، وقبلها بشأن الأراضي المحايدة المشتركة
التي عمد الى تقسيمها؛ بل وهناك بين الرياض واليمن خلافات
حدودية، مثلما كانت هناك خلافات مع العراق والأردن بشأن
العقبة وغيرها).. وهناك ايضاً، خلافات سعودية مع الجيران
بشأن المواقف السياسية؛ فخلال العقدين الماضيين برزت خلافات
واضحة في المواقف تجاه قضايا اقليمية عديدة اقتصادية وسياسية،
شملت حتى البحرين نفسها حين وقعت والولايات المتحدة اتفاقاً
بشأن التجارة الحرّة. وكذلك الخلاف السعودي مع سلطنة عمان
مؤخراً بشأن العلاقات مع ايران واحتضانها المفاوضين الأميركيين
والايرانيين دون ابلاغ الرياض؛ وايضاً الخلاف مع الكويت
حول العلاقات المفترضة مع النظام الجديد في العراق؛ وهكذا.
وبالنسبة لقطر فإن هناك خلافاً مع الرياض متواصلاً
منذ بداية التسعينيات الميلادية الماضية؛ بدأ بقضية المناوشات
العسكرية على الحدود بين البلدين، وتواصلت بمعارك اعلامية،
وبأن تختطّ قطر لنفسها رؤية سياسية خاصة بها، مستغلة ضعف
الأداء السعودي والمصري او غيابه على المستوى الاقليمي،
فمارست دوراً أخذ بالتوسع، بحيث دخلت في وساطات عديدة
في السودان ولبنان وغيرهما، ووثقت علاقاتها مع السودان
وايران وسوريا وغيرها، قبل ان تضعف مجدداً في مرحلة الربيع
العربي.
هذا الدور القطري بغياب الكبار، ازعج الرياض، ولطالما
انزعجت هذه الأخيرة من الكويت ايضاً والتي سبق لها ان
مارست دوراً مشابهاً لقطر حيث لم تتوقف عنه إلا بعد الغزو
الصدامي للكويت. ذلك أن الرياض ترى نفسها محرجة، فكيف
تكون زعيمة العالمين العربي والإسلامي (وان كان ادعاءً)
ثم تأتي دولة خليجية تمارس سياسة مستقلة (وليس بالضرورة
متعارضة معها) لتكشف للعالم ان الرياض ليست زعيمة حتى
في محيطها الخليجي؟!
وزيادة على ذلك، ظهرت قناة الجزيرة كواحدة من الأسلحة
والأدوات الرئيسية في السياسة الخارجية القطرية، لتواجه
آلة الإعلام السعودي الذي كان يتحرّش بقطر ويشوّه سمعتها
ودورها، خاصة بعد إفشال الدوحة لمحاولة انقلابية سعودية
ضد الشيخ حمد أمير قطر السابق. هذا الأمر اضطر الرياض
الى انشاء قناة العربية لتواجه قناة الجزيرة، ولكن في
النهاية خضعت الرياض الى تسوية امر الحدود مع قطر، مقابل
إيقاف تغطية الجزيرة لأية مواضيع سعودية. جاء ذلك عام
١٩٩٦، في اتفاق بين وزير الخارجية السابق حمد بن جاسم،
وولي العهد السعودي الأسبق الأمير سلطان بن عبدالعزيز.
لكن الأمور لم تهدأ، فقد اتاح الإتفاق لقطر ان تمارس
دورها السياسي، فيما السياسة الخارجية السعودية للتوّ
قد صحت بعد سبات استمر من ١٩٩١ الى ٢٠٠١، على وقع تفجيرات
القاعدة لنيويورك وواشنطن، لكن الرياض وطيلة السنوات التالية
لما سمي بـ (غزوة مانهاتن) ركزت جهدها على تفادي ارتدادات
تلك التفجيرات، واصلاح العلاقات مع واشنطن والغرب، ولم
يكن لها كثير جهد تبذله على قضايا أخرى، اللهم إلا من
زاوية التخريب على مشاريع الآخرين وليس لصناعة مشروعها
السياسي الذي انقطع.
بالنسبة لقطر فإنها حاولت التمدد الى مواطن النفوذ
السعودي او الفراغ الذي تركته السعودية، في السودان ولبنان
وشمال افريقيا وحتى اليمن، وكأنها تريد وراثة النفوذ السعودي،
مازاد من احتقان الامراء في الرياض.
وجاء الربيع العربي، الذي كشف عن توافق سعودي قطري
في الأهداف العامة فيما يتعلق بسوريا والبحرين؛ وان اختلفت
التفاصيل؛ فالغرض كان الإطاحة بالنظام السوري ليضاف الى
مطلب اسقاط النظام في العراق؛ والغرض بالنسبة للبحرين
ايقاف التغيير المطلوب وحماية حكم آل خليفة.
ذريعة دعم قطر لـ (الإخوان)
لكن المرارة الكبيرة بالنسبة للرياض والتي لا تستطيع
نسيانها، هي أن قطر ساهمت في إسقاط حليفين رئيسيين لها
في تونس ومصر. بالذات فإن اسقاط حسني مبارك كان كارثة
على الرياض، حيث لم يتبق لها من حليف، وحيث تفكك ما سمي
بحلف الإعتدال العربي وبقيت السعودية منذئذ وحيدة في الميدان
السياسي الإقليمي، في حين ان قطر نشّطت تحالفاً مع تركيا
وواشنطن بشأن مخرجات الربيع العربي.
ومما زاد الأمر سوءً بالنسبة للرياض، هو نجاح (الإخوان
المسلمون) في الانتخابات التشريعية التي الغيت، وثم نجاح
مرشح الإخوان للرئاسة. وتحمّل السعودية قطر مسؤولية ايصال
الإخوان الى الحكم. ولكن لماذا لا تريد السعودية ـ وهي
التي سبقت قطر في دعم الإخوان طيلة الستينيات والسبعينيات
والثمانينيات الميلادية الماضية ـ ان يصل الإخوان المسلمون
الى السلطة، وتصر على عودة النظام القديم؟
القضية بالنسبة للسعودية تشبه نثر الملح على الجرح؛
فالرياض لا تتمنّى وصول اي حكم بصفة اسلامية الى السلطة
في البلدان العربية وغيرها ان استطاعت. خاصة ان كان هذا
الوصول لكرسي الحكم جاء عبر الإنتخابات. هذا لا يمكن للرياض
ان تتحمله، لأن نموذجها الديني في الحكم سيكون باهتاً
متصاغراً امام أي نموذج اسلامي آخر مهما كانت عيوبه.
زيادة على ذلك، فإن الرياض شعرت بأن وصول الإخوان لحكم
مصر، والنهضة لحكم تونس يومئذ، قد ساعد الحركات الإسلامية
بمختلف ميولها على الإنتشاء في كل البلدان الخليجية، بما
فيها التيارات القاعدية نفسها. ولم يخف سلفيو السعودية،
او (السلفي اخوانيون) انحيازهم الى مفاهيم الديمقراطية
والانتخابات بعد ان كانوا يعتبرونها كفراً؛ ومن اولئك
سلمان العودة، والقرني، والحوالي، والعريفي، الذين سافروا
الى تونس ومصر وليبيا مرحبين بالثورات والديمقراطية بعد
ان كانت بنظرهم كفراً!.
كما ان امراء السعودية شعروا بالألم حين تمت مقارنة
نظام حكمهم الوراثي بأنظمة منتخبة وهم للتو قد تجرعوا
ألم المقارنة بوصول حزب العدالة والحرية في تركيا الى
السلطة، والذي لازالوا ينظرون اليه بريبة وعدائية، ويشهر
به في الاعلام السعودي المحلي والخارجي.
انتشت الرياض بمساهمتها الفعالة بإسقاط محمد مرسي من
الحكم، ليصار لاحقاً الى ملاحقة كل القوى الإخوانية على
امتداد العالم العربي ووصمها بالإرهاب.
لم تتوقف قطر عن دعم الإخوان بعد اسقاط مرسي، وأصبحت
الذراع الإعلامية المزعجة للحكم العسكري في مصر؛ مازاد
حنق الرياض التي تمنّت نهاية سريعة لمعارضة الإخوان والقضاء
على مستقبلهم السياسي لعقود قادمة، كما تمنت ان تعود العلاقة
مع مصر السيسي كما كانت مع مصر مبارك، وكأن ثورة لم تقم
وان شعباً لم يثر.. هذا يتطلب انتصاراً ساحقاً من النظام
القديم، وقضاء مبرماً على الاخوان وعلى مؤيديهم، كما يتطلب
استثماراً مالياً وسياسياً ضخماً للنظام الجديد، حتى يتمكن
من العودة السريعة الى حلبة السياسة الإقليمية داعماً
للرياض كما تتمنى.
ورغم ان هذه الأمنية السعودية بعيدة المنال في الوقت
الحاضر، إلا ان الرياض ترى في السلوك القطري، الإعلامي
والسياسي؛ إضعافاً لحليفها السيسي، ولجهدها المتواصل لحل
ازمات النظام المصري التي يبدو انها لا تنتهي. مع ملاحظة
ان الموقف القطري تجاه الشأن المصري هو الأقرب الى الغرب
حليف البلدين، وأقرب الى المواقف الدولية والافريقية بشكل
عام.
ماذا تريد الرياض؟
لقد استشعرت الرياض بعض القوة باستعادة مصر ـ ولو مؤقتا
او جزئياً. وزادت ثقتها حين اختطفت القرار من قطر بشكل
كبير فيما يتعلق بالشأن السوري؛ وفرضت رأيها تقريباً بشأن
الثورة اليمنية (في محاولة منها لاعادة انتاج النظام القديم)
من خلال المبادرة السعودية التي سميت بالمبادرة الخليجية،
التي وافقت عليها قطر ثم اعلنت انسحابها منها.. لهذا تحركت
الرياض لفتح معارك اخرى في اطار الثورة المضادة سواء في
تونس او ليبيا مع الاستمرار لوجود قواتها في البحرين،
ودعم القاعدة في العراق وسوريا. المكان الوحيد الذي يتفق
السعوديون والقطريون بشأنه تماماً حتى الآن هو العراق،
حيث الحرب الاعلامية والسياسية ودعم القاعدة وتفرعاتها
من كلا الطرفين.
كما ان الرياض تصورت بأنه قد حان الوقت لوضع حدّ للدور
القطري في المنطقة والذي استمر نحو عقدين من الزمان. فإذا
كان صدام حسين قد قضى على الدور الكويتي بشكل ساحق حين
احتل الكويت، فالسعودية يمكنها خنق قطر والغاء نفوذها
السياسي طوعاً او كرهاً تحت التهديد، وما سحب السفراء
إلا الخطوة الأولى في هذا الطريق، وهناك اغلاق الحدود
البرية والجوية بين البلدين، وربما يصار لاحقاً الى طرد
قطر من مجلس التعاون، وان كانت الرياض ترى ان السلطنة
والكويت لن توافقا على هكذا خطوة.
ما تريده الرياض من قطر هو (الغاء) دورها السياسي الخارجي
بشكل لا لبس فيه. نعم فإن قضية دعم الإخوان واحدة من القضايا،
وقد استثمرت تصريحات الشيخ القرضاوي التي تطعن في دعم
ابو ظبي والرياض للسيسي للتعمية على أصل القضية.
اصل القضية بنظر السعودية هو: ان يكون سقف دور قطر
تحت السعودية، وان تقبل قطر بما تقرره الرياض من مواقف
تجاه كل القضايا، وليس القضية المصرية فحسب. اي ان تتحول
وزارة خارجية قطر الى غرفة في وزارة الخارجية السعودية،
وهو ما رفضته قطر صراحة وعلانية في تصريحات لوزير خارجيتها.
تريد الرياض من قطر ان تغلق محطتها (الجزيرة) التي
صدّعت راسها، فهذا السلاح لا يجب ان يكون إلا في يد الرياض
(الرائدة في شراء الإعلام العربي) او لتتحول الجزيرة الى
محطة عادية شأنها شأن قنوات أم بي سي او روتانا او غيرها،
فلم تنس الرياض برامج قطر، واستضافتها للأمير طلال ليتحدث
عن تاريخه وتاريخ عائلته الأسود؛ ولا برنامج سوداء اليمامة؛
ولا اظهار بعض المعارضين السياسيين بشكل محدود في برامجها
قبل عام ٢٠٠٦، ولا استضافة من لا يعجب الرياض حضوره على
الشاشة.
تريد الرياض أن تسلم قطر كل أسلحتها الاعلامية والسياسية،
والخضوع التام لمنطق وموقف الشقيقة الكبرى، لتؤكد للعالم
أنها السيدة على باقي دول الخليج، وأنه من غير المسموح
لأي دولة خليجية أن تتمرد على ارادتها في أي موقف تتخذه،
حتى وان كان في غير الصالح الخليجي.
ان قررت الرياض الحرب او العداء مع ايران فيجب على
الجميع الخضوع؛
وان قررت سقف الموقف في لبنان او سوريا او العراق او
اليمن، فلا يجب ان يتعداه أحد؛
الرياض هي المعنية بالتنافس الإقليمي سواء مع ايران
او تركيا او مصر في المستقبل؛ فلماذا تدفع دول الخليج
ثمن مواقف الرياض؟
في الرياض تكمن المشكلة
تفتح ازمة سحب السفراء من قطر العين على مشكلة الرياض
نفسها. ففي الرياض تكمن المشكلة لا في غيرها.
اولاً ـ فإن الرياض لا تقبل بالتنوّع داخل مجلس التعاون
الخليجي بشأن المواقف خارج اطار مواضيع المجلس. حتى التمايز
القليل في شأن ما تنظر اليه الرياض كعمل عدواني موجه لها.
ومثل هذه الرؤية قد تتمدد الى مسائل أمنية وسياسية خاصة
بكل دولة. فالإتفاقية الأمنية الخليجية، تتعارض مع قوانين
محلية وقضائية داخل بقية دول المجلس، وكأن على هذه الأخيرة
ان تعدّل قوانينها ورؤيتها للأمن في داخل حدودها بما يتلاءم
والرؤية السعودية. ومن هنا جاءت الإعتراضات في أكثرها
من الكويت، الأكثر انفتاحا وتطوراً ديمقراطياً.
ولا تكتفي الرياض بهذا، ففي النهاية هي تريد تعميم
نموذجها للحكم وفرضه على بقية دول مجلس التعاون. هذا ما
يمكن فهمه حين ارسلت قواتها الى البحرين لدعم آل خليفة
واصرارها حتى الآن على تخريب اية اتفاق بين المعارضة والسلطة
يحوي تنازلاً متبادلاً. والرياض هي نفسها التي ضغطت فألغت
البحرين المجلس الوطني عام ١٩٧٥؛ وهي التي تدخلت فحلّت
الكويت مجلسها الوطني عام ١٩٧٦ ثم تكرر الأمر في الثمانينات
الميلادية من القرن الماضي؛ ولاتزال تضغط باتجاه ابقاء
النظم السياسية المحيطة بها متقاربة حتى لا تنتقل اية
عدوى الى الداخل السعودي.
وملخص القول هو ان الرياض التي لا تقبل بالتنوع والاختلاف
المحدود في القضايا والمواقف والسياسات داخل دول مجلس
التعاون، يحولها الى (قوة هيمنة) لا (شقيقة كبرى) وبالتالي
ستنفجر المشكلة مع الجميع.
لم تبدأ المشكلة بقطر حتى تنتهي عندها، وحتى قرار سحب
السفراء وتهديدات الرياض شبه العلنية، لا يحمل رسالة الى
قطر وحدها بل والى سلطنة عمان ايضاً وربما الى الإمارات
لاحقاً. وسبق ان كشفت الرياض عدوانيتها تجاه عمان بل وحولت
الاختلاف معها الى صراع مذهبي ضد الأباضية، وذلك حين تم
الكشف عن دور الوسيط الذي لعبته عمان بين امريكا وايران؛
كما انها شتمت بصورة فاقعة وزير خارجية الإمارات حين زار
طهران والتقى بالرئيس روحاني؛ وقبل هذا شنّت الرياض حملة
على رئيس وزراء الكويت الأسبق واتهمته بممالأة ايران.
هذا السلوك سيتكرر وسيؤدي في النهاية الى انفضاض من
تعتبرهم الرياض اشقاءها عنها، ولا يمكن لشقيق ان يقبل
هكذا ممارسة ولا هكذا امتهان.
ثانياً ـ تميّزت سياسة السعودية الخارجية خلال السنوات
القليلة الماضية بحدّية متصاعدة، تميل الى التخريب والتهديد
والضرب تحت الحزام، وغيرها. ان تخلي الرياض عن سلوك الحياد
الظاهري بعد عام ١٩٩١ فتح عليها الكثير من الجبهات؛ وها
هي تمارس ذات السياسة حتى بالنسبة لجيرانها؛ ولذلك نرى
ان علاقات الرياض متوترة ليس فقط مع قطر بل ومع العراق
وسوريا ومع جزء كبير من اللبنانيين والمصريين، ومع السودان
والجزائر وتركيا وتونس وغيرها.
الأخطر من كل هذا، ان الرياض وهي إذ تستعرض عضلاتها،
تعيش حالة من الضعف والترهل في كل سياساتها، وليس لديها
قدرة على اغلاق ملفات العداء التي فتحتها. فحتى الآن لم
تحل مشكلة مع احد، ويبدو انها غير آبهة إلا بمقارعة هذه
الدولة او تلك، في حين تتناسى ان قوتها العسكرية لا تساعدها
على ذلك، ولا سمعتها هي ذات السمعة في الثمانينات، ولا
تعاطف الشعوب معها كما كان سابقاً، ولا وضع النظام السعودي
محلياً مستقر كما كان، ولا الرياض تستخدم اموالها في الإسكات
ناجحة لأنها لا تستخدمها في اكثر الأحوال وتخلت عن هذه
السياسة منذ التسعينيات الماضية.
فلماذا يكون صوت الرياض العدواني عالياً كلما تلقت
ضربات وخسرت مواقع نفوذ؟ ربما يكون الجواب هو ان هذه العنتريات
التي تظهرها الرياض مؤشر على توتر داخلي بسبب خسارة نفوذها
في اكثر من بلد وتجاه اكثر من قضية.
وربما يكون توجه الرياض الى قطر بالعقاب، يحوي شيئاً
من تنفيس الآلام، وربما يكون جزءً منه تجاوباً مع ضغط
الحكومة المصرية. وايا كان الحال، فإن مواقف الرياض صارت
ممهورة بالتشدد والتوتر وتفتقد العقلانية كما سنرى.
هل الرياض تعاقب قطر أم نفسها؟
السؤال الأساس هنا، هل السعودية قادرة على وضع تهديداتها
موضع التنفيذ؟ وهل ما قامت به بالذات، باعتبارها المحرك
الرئيس، من سحب السفراء من قطر، والتهديد بالتصعيد، هو
من السياسات التي تخدمها؟ بمعنى آخر: هل العقوبات التي
تفرض بحق قطر ذات تأثير باتجاه واحد، وليس لها انعكاس
على السعودية نفسها؟
علينا ان ندرك ابتداءً الورطة التي يحتمل ان الرياض
لم تشعر بها بما فيه الكفاية حين سحبت سفيرها وهددت بالمزيد:
أولاً ـ أن الرياض حاصرت الدوحة بمطالبات كبيرة يصعب
على الأخيرة الإستجابة لها، بما يعقد الوصول الى حل يحفظ
ماء الوجه للطرفين. والمبالغة في المطالبات سلوكٌ سعودي
لم يستخدم مع قطر فحسب، بل ومع كل الدول التي تناصبها
الرياض العداء، ولهذا السبب، وجدت الرياض نفسها كما العواصم
التي تتلقى التهديدات والعداء والعدوان السعودي، انها
غير قادرة على ايجاد أرضية لحل مُرضٍ، بما يمنع اغلاق
الملفات السعودية المفتوحة مع اكثر من دولة.
ثانياً ـ ان الرياض تتجاهل حقيقة ثابتة واضحة يراها
اصدقاؤها وحلفاؤها ومنافسوها وأعداؤها وحتى اشقاؤها الخليجيون،
تفيد بأن مكانة السعودية الاستراتيجية تنحدر بشكل سريع،
وانها ليست تلك الدولة القوية التي اذا قالت سمع الآخرون.
هذا ليس عصر السعودية ولا حقبتها، ولا يمكن بالمواقف الحادّة
او الأصوات المرتفعة ان تستعيد ما خسرته من مكانة. وفي
وقت الذبول، يتجرّأ المتجرّؤون، ويتم تجاوز الضعفاء، وتتوجه
الأنظار الى القوى الجديدة الناهضة التي تقرأ العصر والتغيرات.
بمعنى آخر: هذا عصر انفضاض الأصدقاء والحلفاء عن السعودية.
فلمَ تقوم الأخيرة بتسريع عملية الإنفضاض عنها بنبذ
سلوك السلم والإحتواء واعتماد مبدأ الشراكة بدلاً من فرض
الرأي اعتماداً على قوة موهومة، وعضلات ضامرة؟
ثالثاً ـ إن الرياض تتجاهل حقيقة ان هناك بدائل لها
بين من تسميهم شقيقاتها الصغريات. فالضغط السعودي على
قطر او عمان او غيرهما، لا يؤدي بالضرورة الى (إعادة الدول
المتمردة الى بيت الطاعة السعودي) بل الأرجح ان يزيد ذلك
من هجران ذلك البيت وهجران القيّم عليه، او من وضع نفسه
قيّماً عليه.
هنا لا تستطيع الرياض فرض رأيها بالعقوبات او القوة.
قوة الرياض العسكرية محدودة ان فكرت ان تشنّ حرباً على
شقيقاتها او احداهن. لا ننسَ ان القواعد الأميركية والغربية
متواجدة في كل دولة.
تستطيع الرياض ايذاء قطر باغلاق الحدود البرية والجوية.
وتستطيع ان تشنّع بها اعلاميا وسياسياً. ولكن: الا تستطيع
قطر ان تعيد النظر في تحالفاتها الإقليمية؟ الا يمكنها
ان توثق علاقاتها مع ايران، وان تعيد علاقاتها مع العراق
وربما سوريا، مع توثيق العلاقات مع تركيا.
ليست الخسارة مادية هنا، فالدولتان: السعودية وقطر،
تمتلكان كثيراً من المال. الخسارة السياسية هي المهمة.
خسارة السعودية لقطر اكبر من خسارة قطر للسعودية.
ذلك ان خسارة قطر تهدد زعامة السعودية نفسها حتى في
بيئتها الخليجية (مجلس التعاون الخليجي). في حين ان خسارة
قطر للسعودية تعني المزيد من الاستقلالية عنها في القرار.
السعودية بقرارها هذا تقلص عدد اصدقائها، في حين ان الأمر
عكسي بالنسبة لقطر.
زعامة السعودية على مجلس التعاون الخليجي، ستنهار برحيل
قطر. بل ان مجلس التعاون نفسه لا أفق لاستمراره مع رحيل
او ترحيل قطر من عضويته، اذ من الأرجح ان يتبعها آخرون:
سلطنة عمان في المقدمة.
اعلام السعودية لا يستطيع ايذاء قطر (من خلال العربية
وغيرها من القنوات التي تمولها) بالحجم الذي تستطيعه قطر
باعلامها (الجزيرة والقنوات التي تمولها الدوحة).
ما هو المخرج؟
الى أين تتجه الأزمة القطرية السعودية؟ هناك ثلاثة
مستويات يمكن ان تتجه الأزمة اليها:
أولها: التجميد، بمعنى ان تتوقف الحكومتان عند القرارات
التي اتخذت، بدون تصعيد. وهذه إمكانية مفتوحة ريثما يكون
عامل الوقت مؤثراً في حلحلتها، إما من خلال تغيّر الظروف
الموضوعية في المنطقة والإقليم عامة، او من خلال وساطات
تعمل لتنقل واقع الحال من التجميد الى مرحلة الحل. ولكن
هذه الإمكانية ـ في الظروف الحالية ـ ليست متيسّرة من
الطرفين. ففي حين حاولت قطر في بيان ردها التهدئة، ولم
تعمد بالمثل الى سحب السفراء، فإن رعود وبروق الرياض مستمرة،
انعكست على البحرين ـ التي انزلت العلم القطري في اكثر
من موضع ـ والإمارات. التهديدات السعودية لا تفتح افقاً
للتجميد رغم امكانية تراجع الرياض في حال نجحت الوساطة
الكويتية؛ او في حال تدخلت الولايات المتحدة الأميركية
وعموم دول الإتحاد الأوروبي التي تجد نفسها اقرب الى مواقف
قطر منها الى السعودية، خاصة فيما يتعلق بالأزمة المصرية.
وثانيها: التصعيد، بحيث تنتظر الرياض استجابة من قطر
في فترة زمنية محددة ـ كما هددت ـ فإن لم تتراجع وتلبّي
المطالب المفروضة، فإنها تعمد الى التصعيد، كما اوضح ذلك
وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل. لكن ما قد يمنع التصعيد،
قبول قطر جزئياً ببعض الشروط السعودية؛ او ان تعمد الرياض
الى قراءة تبعات تصعيدها بصورة صحيحة لتكتشف بأن ذلك لا
يضرّ بقطر وحدها، بل يضرّ بها هي أيضاً. وقد يمنع التصعيد
الرئيس الأميركي أوباما المرجح تدخّله اثناء زيارته للرياض
أواخر هذا الشهر/ مارس. ومن المرجح ان يطلب من الرياض
ان تتصرف بحكمة وتهدئ الموقف، لأن واشنطن ضاقت ذرعاً بأساليب
الصغار والأطفال ولا تريد استنفاذ جهودها لحل مشاكل بينية
لحلفائها، فيما عينها مسلطة على مركز التنافس السياسي
والاقتصادي والعسكري في جنوب شرق آسيا.
وثالثها: الحلّ الكلّي، والذي هو أبعد ما يكون عن التحقق،
بدون تقديم تنازلات مؤلمة لأحد الطرفين. فالحل الكلي يفترض
ان تتراجع الرياض عن قراراتها وتهديداتها التصعيدية، او
أن تتراجع قطر فتقبل بما تمليه الرياض عليها. وكلا الأمرين
غير واردين. اما اذا كان الحل تدرجياً فسيبدأ بتجميد المواقف
وعدم التصعيد لفترة طويلة نسبياً قبل ان يتم التنازل من
كلا الطرفين حفاظاً لماء وجه كلٍ منهما.
في هذه الحالة، بل وفي اي اتجاه ذهبت اليه الأزمة،
فإن هناك شيئاً ما قد انكسر في منطقة الخليج. ستبقى آثار
ما جرى لفترة طويلة قادمة، وقد تنفجر المشكلة مرّة اخرى،
كما حدث في مرات عديدة سابقة. فأصل القضية هو ان قطر تمارس
دوراً مستقلاً لا تقبل به السعودية، وهذه الأخيرة لا تقبل
بأنصاف حلول ولم تبتدع حلاً سياسياً مرناً يتيح الخلاف
داخل المجلس حول قضايا خارجية لا تلامس العلاقات البينية.
الرياض تبحث عن حلول تأديبية ساحقة، وهذا الهدف حتى لو
تخلّت عنه الرياض في هذه المرحلة، فإنها لن تتنازل عنه
في المستقبل ان توفرت الفرصة، ما يجعل المشكلة مفتوحة
على المستقبل.
|