الدولة المتآكلة
لا تنهار الدول بالضربة القاضية، وحتى الثورات الشعبية
المفضية الى إطاحة النظام لا تشتعل فجأة، بل هي ثمرة مراكمة
ثقافية وسياسية واجتماعية واقتصادية تغذي السخط العام
وتتحيّن لحظة تاريخية مناسبة للتعبير عن نفسها في هيئة
انفجار شعبي عارم يتموّج على امتداد مساحة بلد الثورة
وصولاً الى إسقاط النظام..
يتحدث كثيرون عن القدرات الاقتصادية لدى الدولة السعودية،
فيسرد البعض خصائص الأخيرة على المستوى الاقتصادي، منها
أن السعودية تشكّل 20% من الدخل القومي في الشرق الأوسط
وشمال أفريقيا، وعضو مجموعة العشرين، وأن البورصة السعودة
تمثّل أكثر من 50% من تداول بورصات الشرق الأوسط وشمال
أفريقيا، وانها الدولة الثالثة في العالم من حيث الاحتياطي
النقدي البالغ 850 مليار دولار، وأنها الدولة الأولى المصدرة
للنفط في العالم، وأن الثروات الشخصية تزيد على خمسمئة
مليار دولار.
تلك هي الصورة الوردية التي يرسمها بعض المتكفّلين
بطلاء الوجه السعودي وإزالة البقع السوداء التي تغطي مساحة
كبيرة منه. من يقرأ مثل تلك الاحصاءات، سوف يتفاجأ بالاحصاءات
المقابلة مثل عدم وجود مقار ثابتة لـ 20 جامعة، وان هناك
عدداً كبيراً من المستشفيات الحكومية تفتقر لميزانية تشغيلية
وكفاءة عاملة.
وما لا يعرفه هؤلاء أيضاً أن نسبة البطالة تصل الى
معدلات قياسية ومخيفة حيث بلغت 24 في المئة، 12 في المائة
بين الرجال و30 في المائة بين النساء، وقد اعترف وزير
العمل قبل أكثر من عام بوجود مليوني عاطل عن العمل.
أما في ملف الفساد، فإن فاتورة الفساد حسب تقارير البنك
الدولي حوالي 2 تريليون دولار، وأن ما ينفقه القطاع الخاص
بالسعودية على الرشاوي يتراوح ما بين 20 ـ 30 مليار دولار
سنوياً، بحسب المدير العام للبحوث والدراسات الاقتصادية
في مجلس الغرف التجارية الدكتور مغاوري شلبي، ما يضع السعودية
في المرتبة السادسة في مؤشر الفساد على مستوى دول الشرق
الأوسط وشمال أفريقيا.
لم يحدث إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في 13
ربيع الثاني 1432 تغييراً جوهرياً في معدلات الفساد المضطّردة،
فقد أخذ أشكالاً متعدّدة الى حد أن الفساد يغمر مؤسسات
الدولة كافة. فقد اكتشفت الهيئة في يناير الماضي عن وجود
306 قضايا فساد واهمال وتلاعب في أكثر من 400 مشروع قامت
الهيئة بالتحرّي عن أوجه الفساد المالي والإداري في عقودهم.
ومن بين القضايا: 64 قضية إلى وزير الصحة، و59 قضية إلى
وزير الشؤون البلدية وأمناء المناطق، و58 قضية إلى وزير
التربية والتعليم، و30 قضية إلى وزير المياه والكهرباء
والجهات التابعة للوزارة، و23 قضية إلى وزير النقل، و12
قضية إلى وزير الداخلية والجهات التابعة للوزارة، و6 قضايا
إلى وزير التعليم العالي ومديري الجامعات، ومثلها إلى
وزير المالية والجهات التابعة للوزارة، وإحالة 4 قضايا
إلى وزير الشؤون الإسلامية، ومثلها إلى وزير العمل والجهات
التابعة للوزارة، كما جرى إحالة قضية واحدة إلى كل من
وزير الزراعة ووزير الشؤون الاجتماعية، بالإضافة إلى 8
قضايا تم إحالتها إلى جهات أخرى.
ولابد من التذكير هنا أن هذه القضايا المحالة لا تغطي
مجمل مساحة الفساد في كل وزارة ومؤسسة، بل هي القضايا
التي اشتغلت عليها الهيئة. وكانت دراسة ظهرت في ديسمبر
من العام الماضي، 2013، تفيد بأن 63.4% من المواطنين في
المملكة السعودية يرون أن الفساد المالي أصبح أكثر انتشاراً
في الوقت الراهن مما كان عليه خلال السنوات الخمس الماضية.
لن نطيل الكلام عن التناقض بين الدخل العام للدولة
وموازناتها الفلكية، والفائض النقدي المتراكم الذي فاق
تريليوني ريال من جهة، وبين الآثار الاقتصادية السلبية
مثل ارتفاع معدلات الفقر حتى تجاوز عدد الفقراء ثلاثة
ملايين مواطن في التقدير الأدنى، فيما 73% من المواطنين
يعيشون في بيوت مستأجرة، وأن 70 بالمئة من المدارس هي
في الأصل بيوت سكنية ويفتقر كثير منها للبيئة الصالحة
للدراسة، أما البنى التحتية (المياه وتصريفها، وتعبيد
الطرق والجسور وصيانتها، والمؤسسات الخدمية عموماً) فقد
تحدّثت السيول التي غمرت كثيراً من مناطق المملكة عن نفسها
وبصراحة فائقة.
كل ما سبق لا يعني شيئاً ما لم نستشكف دلالة ارتفاع
معدلات الفساد، ولماذا تفقد كل خطط مكافحة الفساد مفعولها.
الدلالة الكبرى التي لا بد من الاضاءة عليها هي أن الدولة
تآكلت، وفقدت صدقية بقائها ودوامها، وأن الفساد استشرى
في كل مؤسساتها لأن من يعتقد بهذه الدولة باتوا قلة وهم
في تناقص مستمر. ولذلك، فإن أي قرار يصدر بتخصيص ميزانية
لأي مؤسسة في الدولة، تمر بدورة فساد طويلة بحيث تتآكل
الميزانية الى ان تفقد في حال وصولها الى المحطة النهائية
أكثر من 75% من المشروع في الحد الأدنى. فالملك يقتطع
حصة لنفسه من الثروة الوطنية، وكذلك ولي العهد والأمراء
الكبار، ثم تنزل الى الوزيرالذي يقتطع حصته من ميزانية
وزاته، وتبدأ عملية القضم من وكلاء الوزراء، والمدراء،
ونوّابهم، والموظفين الى أن تصبح الميزانية مجرد خبر.
وهذه العملية تنسحب على كل الوزارات بلا استثناء..ببساطة
لأن غالبية العاملين في الدولة من الملك ونزولاَ الى صغار
المدراء ينظرون الى الدولة باعتبارها مصدراً للإثراء.
كل خطط مكافحة الفساد تفشل، وهذا طبيعي بل وحتمي، لأن
القضية ليست في وجود هيئة بل في وجود دولة فقدت مصداقيتها
وهي تنهار ولكن ببطء، وإن مجرد وجود أموال طائلة في حوزتها
قد يصبح مثل الورم الذي لا تمثّل زيادة حجمه ظاهرة صحية..فحال
المملكة السعودية كما المثل المصري الشعبي (بيت أبوك خرب،
قوم خد لك طوب)!
|