لن تتحمل الأكثرية طغيان وهيمنة الأقلية
..إنها أزمة (نجد) لا (الحجاز)!
محمد قستي
من مملكة حجازية مستقلة شاركت في تأسيس عصبة الأمم
المتحدة، عاصمتها مكة المكرمة، ولها عملتها، وعلمها، وجيشها،
ووزاراؤها، واداراتها، وصحافتها، ومؤسساتها الدينية، ومدارسها،
وحدودها، وحتى أحزابها، ويتواجد فيها ممثليات دبلوماسية
لدول عديدة عربية واجنبية بما فيها سفارة لبريطانيا واخرى
لهولندا وثالثة لروسيا.. الى مملكة حجازية تابعة لنجد،
بعد احتلالها وإقامة مجازر الطائف وغيرها بحق أهلها..
مملكة يرأسها ملك نجدي، خدع زعماءها ليهضمها ويحولها الى
جزء من مُلكه، ويعيد أسلمة مجتمعها على الطريقة النجدية؛
فصار فيها مجلس شورى حجازي، واستولى المحتلون على جيشها،
وعيّن ابن سعود ابنه فيصل نائب له ليحكمها، وجيء بقضاة
نجد الى جانب قضاة الحجاز ليسهلوا عملية الصهر والضم القسري.
شيئاً فشيئاً تتحول مملكة الحجاز الى جزء من مملكة
نجد برئاسة الملك السعودي، وليصبح مجلس شوراها الخاص بها
ودستورها الخاص بها الى شراكة مع نجد وملحقاتها (التي
هي في الواقع قلبها الاقتصادي/ ونقصد الأحساء والقطيف).
يختفي مسمى (مملكة الحجاز ونجد)، ليحل محله المملكة
العربية السعودية، وليسيطر النجديون على كامل مفاصل اجهزة
الحجاز، واعلامه، ومدارسه وحرميه الشريفين، ولينزوي رجال
الحجاز الى هامش الحياة السياسية، عدا قلة كانت ملحقة
بوزارة الخارجية او التعليم او الجيش الحجازي أصلاً، قبل
ان يوجه فهد لهم الضرب القاضية اواخر السبعينيات الميلادية.
يأتي بعدها قمع ديني فتسود الوهابية وتلغي كل المذاهب
الاسلامية، ويصبح الحرمين المنفتح بمدارسه ورواده ورجاله
وقضاته وخطبائه ومؤذنيه بيد مشايخ الوهابية في نجد.
تغلق نجد المدارس الدينية غير الوهابية، فينتهي الجيل
القديم من علماء الحجاز بلا تجديد او بدائل، فلا يوجد
من يرثهم سوى مشايخ نجد الذين نجدنوا الحرمين والمقدسات،
ونجدنوا القضاة، ونجدنوا الجيش، فعُزلوا منه، وتم تطفيش
معظم السفراء وموظفي الخارجية ليحل محلهم النجديون.
تتحول المدينة المنورة الى قلعة نجدية، ويستولي النجديون
على الأوقاف وعلى أملاك الناس، ويأتي آخرون فيحلوا ساكنين
مكانهم.
ترتفع مدارس نجد في قلب الحجاز، ويُمنع ذكر اسم الحجاز
واطلاقه حتى على مدرسة. بل ان النجديين صارت لهم مقبرة
خاصة بهم، فلا يدفنون موتاهم في مقابر اهل مكة وإن ضمت
صحابة وتابعين؛ لماذا؟ لأنها مقابر أهل الشرك! كانوا ولازالوا
بنظر الوهابية.
يستولي النجديون على الأراضي في مكة ويصادرون الكثير
منها بلا تعويض.
ترتفع الأبراج والفنادق خدمة للسيد النجدي.
ثم تتطور الأمور، فتُمحى هوية مكة والحجاز، ليس فقط
بعد تدمير النجديين الوهابيين لتراث الإسلام الخالد الذي
كان حيّاً طيلة التاريخ والى ما قبل الحكم النجدي، بل
بمحو حارات مكة بحجة تطوير الحرم، فيشتت أهل مكة، عاصمة
الحجاز، ويستولي الأغراب على الاراضي ليقيموا أبراجهم،
فيما يرحل المكيون عن بلدهم الى مدينة جدة.
يتواصل التدمير النجدي لكل معالم الحجاز، فبعد ان كادوا
ينهون نجدنة المدينة المنورة، يتم خلال سنوات قليلة فقط
نجدنة مكّة المكرمة بتشتيت اهلها ومصادرة الأملاك وتغيير
معالمها الجغرافية، الى حد تدمير الرواسي من الجبال وتحويلها
الى أملاك للأمراء ومشايخهم وتجار نجد الذين لا يشبعون.
ترى أي جريمة اقترفنا حتى يعاقبنا الله ويعاقب المسلمين
بهذا البلاء الوهابي النجدي؟
الجريمة كل الجريمة تكمن في كلمة واحدة: (الصمت) عن
جرائم آل سعود، والصبر الذي لم يعد فضيلة في بلد يسحق
الفضائل. انه سكوت عن الظالم ما شجعه على المزيد من الظلم
والإجرام.
إنها أزمة دولة تحكمها أقليّة
جذر مشكلة السعودية ليس فقط في الإستبداد بمعناه السياسي
العام فقط؛ بل في حقيقة انها لم تتحوّل الى دولة حقيقية
بعد.
كيف يمكن لأقلية نجدية لا يصل عدد سكانها الى ربع السكان
ان تحكم البلاد وتملك ما فيها وتسيطر على كل شيء من ثقافة
ودين واعلام ومال وسلطة وجيش وقضاء وتعليم وغيره، دون
ان ينبس احد ببنت شفة؟ والى متى يتوقع النجديون ان الأكثرية
ستبقى صامتة؟
بل كيف يتوقع طغاة آل سعود وحاشيتهم المناطقية أن يصدقهم
الناس في الحديث عن المساواة في المواطنة، وهم يستأثرون
بالسلطة والحكم والثروة، ويكفرون الآخرين ويستصغرون شأنهم
مناطقيا وقبلياً ومذهبياً كمبرر لإقصائهم؟
كيف تكون هناك دولة بلا هوية وطنية سوى هوية أقليّة
حاكمة تريد ان تفرض هويتها على الأكثرية.. هويتها المناطقية
وإرثها الديني المتعصب الذي يكفر الآخرين.
كيف يعتقد الحاكم النجدي وشلّة مشايخه التكفيريين استدامة
حكمهم بالقوة فقط، وقبول منطق الحكم لمن غلب؟
وحتى اذا استطاعوا ان يحكموا بالقوة، فإنهم أعجز ان
يفرضوا على الناس خياراتهم الثقافية، وأن يحوّلوا الهوية
النجدية الى هوية وطنية.. هذا مستحيل.
الأسوأ في كل هذا، أن يأتي آل سعود وطبّالوهم ليفتونا
في الوطنية، وليوزعوا صكوكها على من يريدون، وهم من يخرقها
طولا وعرضاً. والأكثر سخافة ان احداً حين يهمس ببنت شفة،
يعتبر عدواً للوحدة الوطنية!
لا غرو ان يصبح مجرد ان يلبس حجازي العمامة، نذير خطر
لدى الحكم الأقلوي النجدي الوهابي. وكأن العمامة أداة
احتجاج، أما العقال النجدي فمؤشر ولاء للحكم!
كل من يخرج على الحكم النجدي او يعترض عليه بأداة ثقافية،
ولو كان بنشر سطرين عن كيفية تحضير طبق طعام حجازي، عنصرياً
لدى علية القوم النجديين، الذين قسموا الشعب الى طرش بحر
(حجازيين) و (يهود زيود على حيود) و (شيعة روافض) ولم
يبق سواهم موحدين من ذوي الدم الأزرق!
لم يعد اليوم مقبولاً أن تفرض نجد خيارها الثقافي الأقلوي
على الشعب؛ فثقافة التكفير والقطيعة والتشدد لا يمكن ان
تستوعب شعباً متنوعاً.
ولم يعد اليوم مقبولاً ان تبقى السلطة وغنائمها في
يد أقلية نجدية. وسيعترض البقية وسيرتفع صوتها لأنها تمثل
الأكثرية.
يستحيل ان يسكت المواطنون على نجدنة الدولة، ووهبنة
الثقافة مهما كان القمع.
الوحدة القسرية التي جاءت بها نجد، لم تصبح اختيارية
بعد، ولن يختار عاقل أن تحكمه أقلية وتستفرد بالسلطة والثروة
وتجوّع بقية المناطق، وتفرض خيارها المذهبي الطائفي وشوفينيتها
المناطقية.
هذا الكلام الصريح المؤلم هو ما يجب أن يسمعه طغاة
نجد الدينيين والسياسيين معاً.
واذا لم تتم المراجعة، فلا هوية وطنية ستقوم، ولا وحدة
ستدوم. لأن ما يجري خلاف قدرة المرء على التحمّل، فكيف
بأكثرية تتعمّد أحياناً الصمت، وهي تغلي كالمرجل؟!
حين يفتح الحجازي فمه معاتباً أو متألماً من الضيم
والقهر.. تقوم قيامة السيّد النجدي وأدواته؛ ذلك ان الحجازي
الجيّد هو الحجازي الميّت الذي يتعامى عما يجري حوله،
ويقبل بسيادة الأقلية؛ ويصمت عن تدمير تراثه وهويته.
مجرد النقد الخفيف، يؤدي الى حشد رسمي نجدي في الصحافة
والإعلام، وتبدأ الإتهامات العنصرية، وكأن الحجاز صارت
جزءً من نجد؛ ويصبح سكانها أجانب يجب طردهم، وليس طرد
الغازي المكفراتي. وفجأة تستيقظ لغة الوطنية عند أعدائها
وأعداء الشعب، يصبح كل الشعب غير وطني إن رفض المهانة،
ويصبح ممزق الوحدة الوطنية، والمستولي على خيرات البلد،
هو الوطني؛ ويصبح المكفراتي ممثلاً للإسلام الصحيح. ثم
تبدأ التهجمات بالعمالة للأجنبي ضد من يقف بوجه هذا النظام
الطاغي، فلا تبقى له من كرامة، باعتباره عدواً للوحدة
الوطنية؛ وكأنّ هناك وحدة أصلاً، غير وحدة السيف والقمع.
مشكلة الحجاز مع نجد قديمة قبل الإسلام حتى.
مشكلة نجد مع الجميع، فهي تريد ان تسود بمذهبها وبرجالها
وثقافتها على الآخرين دون أن تمتلك من المؤهلات سوى (السيف
الأملح) والمذهب التكفيري الذي يبرر قتل الآخر والإستيلاء
على أرضه وهتك عرضه، وهو ما فعلوه في كل المناطق التي
احتلوها.
مشكلة الحجاز مع نجد ليس استبداداً سياسياً فحسب، بل
الهيمنة النجدية والإستحواذ، وفرض الثقافة الواحدية على
الأكثرية.
لازال الحجاز أكثر تعداداً في السكان؛ ولازال أكثر
تحضراً، وأكثر قرباً من روح الإسلام، وحضارة الإسلام،
ورحمة الإسلام.
أقصي الحجازيون عن أجهزة الدولة، ومنذ عهد فهد صارت
البلاد كلها نجدية، وكلها مفتوحة على مشاريع الوهابية
النجدية المتعاضدة مع المستبد السياسي السعودي.
هذه هي أزمتنا جميعاً!
منطقة تستولي على كل المناطق وتريد ان تواصل حكمها
لها بالقوة معتمدة على أحقية تمثيل الدين الصحيح! وعلى
(حُكم الغَلَبَة) الذي لا يمنح شرعية لحكم ولا لسلطة ولا
لمؤسسة دينية رسمية لاتزال يستفزها أن أكثر اهل الحجاز،
بل أكثرية المواطنين، ترفض أن تكون ممثلاً لهم.
تتعالى الأصوات النجدية في الفترة الأخيرة ضد ما تسميه
(الخطر الحجازي). لكن الخطر الحقيقي على دولة النجديين
ليست من الحجازيين بقدر ما هو الخطر آتٍ من أنفسهم.
هم من يرفضون التنوع الثقافي في البلد.
هم من لا يقبل بالشراكة الدينية.
هم من يقوّض أيّ محاولة لبعث هوية وطنية.
هم باستئثارهم بالسلطة بكل حمولتها من يؤجج طغيان القمع.
هم بمذهبهم من يخنق المجتمع ويبعث على الكراهية والعنف
ويصدّر الفائض منه الى الخارج.
هم من يدمر تراث الإسلام في الحجاز، ويشرد أهله، في
عمل يشابه مذابح الهوية التي شهدناها في أكثر من بلد من
العالم، من أجل إضعاف الآخر، وتأكيد الهوية النجدية على
كل شبر من الأرض.
هذه معادلة لا يمكن قبولها.
إما أن تتغير نجد ان كان فيها من عقلاء؛ وإلا فلا ينتظرون
من أحدٍ تحمساً لوحدة قسرية تهيمن عليها أقلية ظالمة.
ما هكذا تُبنى الأوطان أو تحفظ.
وما هكذا نقبل بعد اليوم أن تعيش أجيالنا بعد قرن من
الضيم والحرمان والإمعان في إضطهاد الآخرين.
|