مواقف المجتمع من السلطة
أي وطن نتحدث عنه؟
في غمرة الاهتزازات العنيفة التي أحدثتها الانفجارات المتوالية في
الرياض الى جانب المناوشات العسكرية المتقطعة في مكة المكرمة وجدة والحدود
الجنوبية، كثر الحديث عن الوطن والوحدة الوطنية، في إشارة غير مباشرة
الى أن التهديد الذي تحدثه دورة العنف يتجه بدرجة أساسية الى تصديع أسس
الدولة والبناء السياسي فيها. وهذا يفرض سؤالاً جوهرياً وهو كيف ينظر
المجتمع الى السلطة، بل والى الدولة بصفة عامة؟. إن الهدف من السؤال
هو إستكشاف العلاقة بين الدولة والمجتمع من حيث كونها علاقة قائمة على
تبادل المنافع، وأثر تلك العلاقة على وحدة الدولة، هذا مع التذكير بأن
دولاً عديدة في العالم كانت قد شهدت توترات أمنية داخلية ولكن لم تواجه
خطر التفكك ولم يجر الحديث فيها عن تصدّعات في بنية الدولة نفسها. إذن
مالذي يجعل التوترات الأمنية في المملكة السعودية مصاحبة لتهديدات بإنهيار
الوحدة الوطنية.
إن ما يجدر الالتفات اليه في بلادنا أن المواقف السياسية تمثل تعبيرات
مختلطة يصبح الفصل فيها بين المطلب السياسي المحدد بالموقف من السلطة
والدولة معاً، ولذلك فإن أية حركة سياسية مهما تباينت مواقفها وآلياتها
في التعبير عن الاهداف السياسية تصبح تلقائياً مصنّفة باعتبارها مصدر
تهديد للدولة المعبّر عنها بـ (الوطن) لاضفاء صبغة عامة تستوعب المجتمع
تحقيقاً لغرض الاصطفاف الداخلي خلف السلطة. وبحسب نظرة رجال السلطة،
فإنه فليس هناك معتدل ومتطرف حين يدخلان ميدان السياسة، إذ سيكون الموقف
منهما موحّداً، فهما في الخطر على السلطة سواء. ولذلك يصبح (الوطن) حاضراً
بسطوة في التصريحات الرسمية، والكتابات الصحافية، وحتى في البيانات السياسية
الرسمية حين تصبح السلطة عرضة للتهديد بفعل عوامل داخلية أو خارجية،
ولكن يختفي هذا (الوطن) حين يكون التهديد موجّهاً للمجتمع. إن الاصرار
على تصنيف جميع القوى السياسية والاجتماعية بكافة إتجاهاتها المعتدل
منها والمتطرف يجعل الخيارات السياسية مفتوحة طالما أنها لا تخضع لمقاييس
متباينة. وكل ذلك يعكس حالة القطيعة بين المجتمع والسلطة، وهذا ما انعكس
بصورة عفوية في مواقف الافراد وسلوكهم، فهم يتعاملون مع سلطة لا تمثل
جزءا لصيقاً بهم، ولا تعبّر عن مصالحهم، وهذا ما يفسّر تباين المواقف
من السلطة نفسها المؤسسة على المصالح.
مواقف متباينة من الحكومة
بصورة عامة، إن مواقف المواطنين من الحكومة تتوزع بين إتجاهات عدة،
فهناك من يرى فيها حكومة شرعية على أساس ديني باعتبارها حائزة على شروط
ومواصفات الدولة الدينية، وهذا ما يعبّر عنه بصورة وأخرى عدد من علماء
المؤسسة الدينية الرسمية، وبخاصة أعضاء هيئة كبار العلماء، وهكذا مشايخ
التيار الديني التقليدي المحافظ في نجد. فبالنسبة لهؤلاء يصبح التعبير
عن مشروعية الحكومة تأسيساً على مقولة (ليس بالامكان أفضل مما كان)،
مغلّفاً بغطاء ديني، أي الاعتقاد بأن الحكومة تتقوّم على مبادىء الدين
وقيمه وتمتثل لاملاءات الشريعة، وإن وجود بعض الأخطاء والقوانين الوضعية
لا يصل الى حد المجاهرة بالمخالفة والخروج على الدولة فضلاً عن الدعوة
الى محاربتها. ويستند هذا الموقف على فلسفة لها جذورها في الفكر السياسي
الاسلامي تنطلق من أصالة النظام ومفادها أن درء المفسدة مقدم على جلب
المنفعة أو المصلحة، أي بمعنى آخر أن إزالة النظام وإن أثمرت في قيام
نظام صالح يوفر الامن والحرية والمساواة للمواطنين الا أن خطورة إزالة
النظام قد تكون أكبر من حيث انعدام الامن وانتشار الفوضى. والبديل ازاء
ذلك يتمثل في مراكمة الضغوط الداخلية عبر النصيحة، والعرائض والاعلام
والتحرك السياسي التي تدفع في المحصلة النهائية الى تنازلات سياسية من
قبل الحكومة.
وهناك من يرى فيها حكومة شرعية تبعاً لمنطق الواقعية السياسية، والتسليم
بسطة الأمر الواقع .de facto ورغم أن هذه الشريحة من المجتمع قد تكبر
أو تصغر، بحسب طبيعة السلطة (ديمقراطية أم إستبدادية)، وحراكية الجو
السياسي، ودرجة انخراط المواطنين في الشأن العام، وهذا (اللاموقف) هو
أحد التعبيرات الصامتة، والممثل لشريحة واسعة في مجتمعات الشرق الاوسط.
الا أن الحديث هنا ينصبَّ في الأساس على تلك الفئة التي تمتثل لموقف
إرادي، أي مؤسسٍ على خلفية سياسية تغذيه وتشحنه مجموعة المصالح المشتركة
والمتبادلة. بكلمات أخرى إن وجود مصالح خاصة لدى مجموعة من السكان مع
الحكومة من شأنها أن تغذي مشاعر الولاء والانضمام لمعسكر أهل الحكم،
حيث ترى هذه المجموعة في الحكومة ضماناً لاستقرار وتدفق المصالح وهذا
ما تفرضه أخلاقيات التحالف، ومنطق المنافع المتبادلة.
وهناك فئة ثالثة تتحفظ في موقفها حيال مشروعية السلطة وتربط هذه المشروعية
بقدرة السلطة على تحقق بعض المواصفات والشروط فيها، فهي لذلك ترى في
الحكومة خياراً مقبولاً ولكن في ذات الوقت ليس مفتوحاً بل يرتكز على
شروط محددة، وهذا القبول المشروط يصدر عن عقيدة أن السلطة الحالية تصبح
مشروعة حين تقوم بحفظ المصالح العمومية واقامة العدل، وتطبيق القانون.
وفي داخل هذه الفئة هناك من يصدر عن عقيدة سياسية، بدرجة أولى، تقوم
على إعتبار أن الحكومة خياراً مقبولاً لكون مفاسدها ليست استثناءً، وإنما
هي جزء أصيل من السلطة ذات الطبيعة الفاسدة تكويناً، ولذا فإن صناعة
البديل المنشود يتم من خلال تكثيف أدوات المحاسبة والمراقبة والتقويم
والضغط من أجل إبقاء مستوى الفساد الى درجات ادنى، والدفع باتجاه إدخال
اصلاحات متواصلة في جسد الدولة، أي العمل من أجل ابقاء الدولة خاضعة
على الدوام لعملية تجديد مستمرة تجعلها متوافقة مع حاجات المجتمع وقادرة
على مواجهة تحديات العصر.
وهناك فئة رابعة تميل بدرجة متعاظمة الى إعتبار أن السلطة الحالية
فاسدة ومفسدة ولابد من استبدالها من أجل إقامة بديل سياسي آخر. ومهما
تفاوتت منطلقات هذه الفئة سواء من حيث المدعيات الدينية أي القول بافتقار
الحكومة لأي مشروعية دينية او المدعيات السياسية أي كون الحكومة سالبة
للحريات والامن والمساواة ومتطلبات قيام حكومة شرعية، فإن موقف هذه الفئة
يتوحد في وسيلة التغيير وهي استئصال النظام واستبداله كلياً وإقامة نظام
بديل مكانه. فمنذ انطفاء حركة جهيمان العتيبي عام 1979 في مكة المكرمة
والتي حملت لواء الاطاحة السياسية بالنظام السعودي، لم تظهر حركة راديكالية
تتبنى هدفاً مماثلاً حتى بداية التسعينيات، حيث ظهرت حركة دينية سلفية
وصمت الدولة السعودية بالكفر، كما أظهره كتاب يحمل عنوان (الكواشف الجلية
في كفر الدولة السعودية) الذي قام بإعداده شخص ينتمي للتيار السلفي المتشدد،
وتبنته بعض الجماعات السلفية لاحقاً. وقد شهدت الدولة ظهور تيار تكفيري
عنفي بعد سلسلة التفجيرات التي شهدتها الرياض، وظهر من خلال المنشورات
السرية المتداولة بين أفراد التيار أن الخروج على الدولة يكشف عن موقف
تكفيري منها.
غير أن التيار الديني التكفيري عجز عن إكتساب تعاطف شعبي، ولم ينظر
اليه سوى كونه الوجه الآخر للعملة إن لم يكن النسخة المزوّرة للدولة
السعودية الحالية. وهذا ما يلح في طرح سؤال مركزي على أصحاب هذا الموقف:
ماذا بعد إستئصال النظام، وخصوصاً في بلدٍ يفتقر الى مقومات الدولة الحديثة،
أي تلك القائمة على مبادىء المواطنة الكاملة، والامن للجميع والمساواة
والعدل والحريات الفكرية والتعددية؟ ثم ما هي الضمانات الكفيلة باقامة
بديل سياسي أفضل، يستند على شروط ثقافية وإجتماعية وإقتصادية. فهل بالإمكان
إقامة نظام سياسي يتمثل فيه كل الجماعات مع وجود نزعة استئصالية استئثارية
لدى بعض الجماعات، وكيف يمكن ضمان الحريات الفكرية في ظل عقائد خلاصية،
وكيف يمكن توفير فرص اقتصادية متساوية بوجود احتكاريات واسعة؟.
أما الفئة الخامسة، ممثلة في التيار الاصلاحي الوطني الحاضن لأطياف
سياسية وإيديولوجية متنوعة، فهي ترى بأن الدولة الحالية قابلة للبقاء
مع إجراء تعديلات جوهرية في بناها الفوقية من أجل صياغة الدولة على أسس
جديدة وصولاً الى صناعة الوطن وتالياً حكومة الاجماع الوطني. وهذا التيار
يتجاوز الجدل حول الموقف من الحكومة القائمة ويسعى الى بلورة رأي عام
وطني يسهم في تشكيل أو إعادة تشكيل حكومة تستمد مقوماتها ومشروعيتها
من عقد اجتماعي، تكون فيه الارادة الشعبية قادرة على فرض مجموعة المبادىء
الضرورية لقيام حكومة وطنية بالمعنى المليء للكلمة، وتتمثل قيم الحرية
والمساواة والتمثيل العادل والمتكافىء للجماعات المنضوية بداخل الدولة.
ويفصل هذا التيار عن الفئة التي تتبنى التغيير التدريجي أن الاول
مازال يراهن ويسعى للتغيير من أعلى أي بتكثيف ضغوطه ونشاطه من أجل إقناع
ودفع السلطة السياسية الى إدخال تغييرات الى جهاز الحكم. ويتبنى هذا
التيار منهاجاً سلمياً في التغيير يقوم على أساس تعميم ثقافة وطنية والمبادىء
المقررة عالمياً (حقوق الانسان، والديمقراطية تمثيلاً). وقد توسّل هذا
التيار بخيار العرائض، حيث قدّم خلال هذا العام عريضتي (رؤية لحاضر الوطن
ومستقبله) و(دفاعاً عن الوطن)، والتي إشتملت على رؤية إصلاحية متكاملة
وشاملة، وقد تلقى أفراد هذا التيار وعوداً من قبل ولي العهد والأمير
سلطان، وغيرهما بتحقيق عدد من المطالب الواردة في العريضة الاولى، غير
أنه لم يتحقق من هذه الوعود شيئاً. وبعد تفجّر العنف وخروج التظاهرات
في الرياض أصيب التيار الاصلاحي بخيبة أمل أخرى حيث إكتشف بأن طرق العمل
المتاحة، أو الخاضعة أو المتوافقة مع رغبة السلطة أصبحت غير مجدية حيث
سبق الشارع النخبة في التعبير عن فشل وسائل العمل التقليدي التي لم تؤت
ثمارها بعد قرابة العام من العمل المطلبي السلمي.
ومن الضروري الاشارة الى أن وسائل التيار الاصلاحي تخضع للجدل المتحرك
على الدوام وسط هذه الفئات تبعاً لسلوك السلطة المتغير أو غير المستجيب
لمأمول هذه الفئة أو تلك. وهذا يثير سؤالاً: ماذا لو فقدت أدوات الضغط
تأثيرها في محاربة الفساد أو محاصرته، تماماً كما هو الحال في الكثير
من بلدان الشرق الاوسط، فتعالي الاصوات المطالبة بمحاربة الفساد السياسي
والاقتصادي لم يفضِ الى الحد منه في كثير من الاحيان؟!
وهل يفهم من هذا السؤال ترجيح خيار راديكالي آخر؟ بالطبع كلا، وإنما
هو سؤال يستهدف وبدرجة أساسية فهم هذا التفاوت في المواقف وكيف يسير
الجدل الافتراضي بين جماعات وشرائح داخل المجموع الكلي لسكان بلد.
لقد دخل عنصر جديد في معادلة التغيير بعد مسلسل التفجيرات التي شهدتها
العاصمة الرياض، ثم انفجار الغضب الشعبي العفوي في مظاهرات سلمية في
عدد من المدن بما فيها العاصمة الرياض، حيث بدأ يتبلور خيار في التغيير
يأتي من الأسفل ابتداءً أي من خلال تحفيز المواطنين نحو الاشتراك في
حركة سياسية شعبية تستهدف إشاعة أجواء الاصلاح السياسي، وبالتالي دفع
الحركة من أسفل الى أعلى نحو التغيير السياسي. قد يجادل البعض بأن التغيير
السياسي القادم من أسفل يحمل ضماناته المستقبلية ويكون أقدر على دحض
محاولات التقويض والاعاقة كونه مستقوياً بالشعب نفسه صاحب القرار الفعلي
في التغيير والتشييد.
كل ما سبق يفتح باب النقاش حول الوطن الذي يجري الحديث عنه، في ظل
المواقف المتباينة من السلطة. إن الدولة التي عجزت عن خلقٍ مجتمع متجانس
يتوحد في مواقفه حول السلطة لا يمكن تصوّر وطنٍ يضمُّ كل هؤلاء دون أن
تكون المواقف من السلطة فيها محسومة أو موحّدة. فباستثناء من يرى في
السلطة الحالية أنها قائمة على شرعية دينية وأن بقاءها يحقق أغراضاً
أيديولوجية محضة، فإن مواقف الغالبية العظمى من السكان تندرج في إطار
المأمول السياسي منها، أي تحوّل الدولة الى وطن يحتضن أبناءه، يتحقق
فيه أحلامهم وتطلعاتهم، وحتى ذلك الوقت فإن الوطن ليس أكثر من يوتيبا
يتحدث كثيرون عن وجوده ولكنه يظل حلماً مؤجلاً.
|