دولـة محـاكـم
تحوّلت مملكة القهر الى محكمة كبرى، وباتت العقوبات
جاهزة ولا تتطلب سوى عقد جلسة صورية في إحدى المحاكم من
أجل إقرارها..موضوعات المحاكمة متعدّدة، وكذلك العقوبات،
حتى بات أفراد الغالبية الساحقة من الشعب مرشّحون للخضوع
لمحاكمات بواحدة أو أكثر من التهم، وتالياً فرض عقوبات
قاسية بحسب طبيعة الاحكام..
أحكام بالإعدام تصدّر ضد شباب، ليس لأن القضاء أثبت
عليهم تهمة القتل العمد، أو حتى الإفساد في الأرض، ولكن
التهمة لا تتعدى المشاركة في مسيرة، أو التعبير عن رأي،
أو انتقاد سياسات الدولة..وهذا أمر بات بعد الربيع العربي
عادياً بل مقبولاً، وإن أشد الأنظمة قمعاً واستبداداً
تخلت عن قبضتها الحديدية في هذا الأمر، بل أكثر من ذلك،
أن استعمال القمع ضد الناشطين الحقوقيين والاجتماعيين
في هذا الوقت بات مستهجناً..
في 3 يونيو الجاري نشرت الصحف المحلية ما صدر عن اللجنة
الابتدائية بخصوص ما وصفته مخالفات النشر الالكتروني والسمعي
والبصري بعد أن تفاعلت قضية ثلاثة مدعى عليهم بتهمة مخالفات
النشر الالكتروني، حيث تداول المغردون على تويتر قضيتهم
على نطاق واسع ما فرض على السلطات السعودية إصدار توضيحات
وتالياً قوانين خاصة بما تعتبره مخالفات.
اللجنة الابتدائية التي أصدرت القرارات لفتت الى أن
الانتقادات التي تتعرض لها المؤسسات الحكومية بإمكانها
مقاضاة المغرّدين بل وكل المؤسسات الإعلامية التي تنتقد
عمل المؤسسات تلك، وبإمكانها الترافع في القضاء ورفع دعوى
ضدها. ما لفت في كلام اللجنة أنها وضعت كل المغرّدين ضمن
دائرة الاستهداف، بحجة أن هناك (تغريدات مرتجلة بالغة
السوء في ألفاظها ومحتواها، لا تليق في تجاوزاتها الفادحة
بآحاد الناس فضلاً عن خاصتهم). ومع أن هناك مشايخ وأشخاص
محسوبين على المؤسسة الدينية الوهابية ومقرّبين من أهل
الحكم قد تجاوزوا في قلة الادب والقدح ولم يصدر بحقهم
أي اجراء جزائي.
ولو قدّر لأعضاء اللجنة التي يبدو أنها تخصصت في رصد
ما يمس أهل الحكم وعلماء المؤسسة الدينية الرسمية فيما
تتجاهل عن عمد ما يصدر من مقرّبين منهم من إساءات وبذاءات
واسفاف، دون أن يصدر بحقهم طلب توقيع تعهد خطي أو إيصال
رسالة تحذير لهم دعم عنك طلب إحضار الى القضاء ومحاكمتهم
بتهمة القذف والتشهير..
اليوم هناك انتهاكات صارخة تطال كل إنسان في هذا البلد
يمارس حقه الطبيعي والشرعي والانساني في التعبير عن الرأي
وحرية الفكر. في المقابل، هناك تهويل دائم بأن هذه الحقوق
تهدد الأمن والاستقرار، بل والأخطر من ذلك حين توضع ممارسة
حرية التعبير في مقابل العدالة، الى درجة تصنيف التغريدات
الناقدة للقضاء الفاسد والاحكام الصادرة عن قضاة فاسدين
بأنها «تمس أهم ملاذ للجميع في سلطات الدولة وهما القضاء
والعدالة..»، ما يعني أننا أمام تواطؤ خطير بين السلطتين
التنفيذية والقضائية، لأن ما يقوم به المغرّدون أو كل
الذين يمارسون حرية التعبير عن آرئهم في وسائل الاتصال
الاجتماعي أو وسائل النشر الأخرى لم يفعلوا ذلك بدافع
الإساءة للقضاء أو للعدالة، بل بدافع إحقاق الحق ورغبة
منهم في تصويب مسار الدولة..في حقيقة الأمر، أن التعامل
مع التغريدات الناقدة لممارسة القضاء بأنها مساس به وبالعدالة
هو في حد ذاته مساس بهما، لأن العدالة لا تتحقق بدون رقابة
من الناس..وهو ما أكّدته اللجنة ذاتها التي أكّدت على
(دعم الحريات وعدم التضييق عليها..)، بوصفها (أهم دعائم
العمل ومبتكراته من جهة، وأهم أدوات دوره الرقابي من جهة
أخرى..).
الكلام اليوم لا يتعلق فقط بالقضاء الذي يستوجب اصلاحاً
شاملاً وجذرياً، ولكن يتعلق بمجمل مؤسسات الدولة التي
تمارس الجور بكل أشكاله. إن الاحكام القصوى والجائرة التي
تصدر بحق الناشطين والحقوقيين والاصلاحيين تشارك في اصدارها
السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، لأن الدولة باتت
بكامل حمولتها منغمسة في الجور وضالعة في الفساد..
حين نصف مملكة الصمت بأنها سجن كبير لكل الناشطين والاصلاحيين،
إنما لأن الواقع يخبر بذلك، فأينما وجّهت بصرك في هذه
الدولة لا تجد الا خبراً عن أحكام بالإعدام هنا، أو بالسجن
مدى الحياة هناك، أو بعقوبة مالية هنالك، فضلاً عن أحكام
المنع من السفر، والفصل من الوظيفة، والحرمان من الحقوق
المدنية، في وقت تزداد فيه الدولة فساداً، فيما يتردى
أداء مؤسساتها..
في المشهد العام اليوم، هناك أحكام بالإعدام تصدر بالجملة
ضد ناشطين لا جرم لهم سوى المشاركة في مسيرات مطلبية،
بعد أن أوصدت المجالس المفتوحة أبوابها، ونضبت ماكينة
الوعود، ما دفع بالمحرومين في مملكة النفط لأن يطلقوا
صرخة الاحتجاج في الشارع، وإيصال الصوت المخنوق لعقود
عديدة خلت إلى أرجاء الدنيا بعد أن قرر من في الداخل أن
يصمّ إذنيه عن مجرد الاصغاء الى مظالم الأغلبية المقهورة..
أحكام بالإعدام بخلفية سياسية وأمنية، ورغبة في استعادة
هيبة كيان يتعرّض للتفكك بعد أن بات مرتعاً لكل من أراد
الأثرة، والنهب، والنفوذ دون إيمان به، أو حتى مجرد تفاؤل
ببقائه طويلاً..
أحكام هي أبعد عن القضاء والعدالة، لأنها تصدر في قضايا
لا يستحق المستهدف بها العقوبة مهما كان مستواها، فمن
يمارس حقه في التعبير عن رأيه أو في نقد سياسة ما لدى
الحكومة إنما يقوم بما هو محمود من أفعال، ولكن لأنها
أحكام سياسية وأمنية فإن من يصدرها يصل بالعقوبة الى أقصاها،
وهذا وحده كافٍ للكشف عن درجة التسييس الذي بلغته بل الأخطر
من ذلك أن هذه العقوبة القصوى تفشي سوء حال الدولة التي
باتت تصرف كالمنكوبة التي أصابها البلاء من كل جانب وتخشى
أن يتخطفها الموت..كيف وقد بلغت قلوب الأمراء حناجرهم
خوفاً على زوال الكيان!
|