إنعدام الوزن السياسي في السعودية
الدولة بين التورّم والاجهاض
أخذت سيرورة الدولة السعودية منذ نشأتها عام 1932 شكلاً تصاعدياً
مدفوعة بنزوع متزايد نحو إحكام السيطرة على المجال العام، بحيث تجاوزت
حد الاطار الوظيفي للدولة كآلية لتنظيم المصالح العامة ودرء المفاسد
بكافة أشكالها. ومن الناحية النظرية، أملى منطق التطور على قيادة الدولة
الاستجابة للحاجات المتزايدة للمجتمع والدولة لانشاء أجهزة جديدة قادرة
على إستيعاب الظروف والحاجات المتجددة، فبعد أن كانت الدولة تدار من
قبل وزارة المالية أصبحت بمرور الوقت بحاجة الى منظومة أجهزة ذات تخصصات
متنوعة تتعامل مع قضايا المواطنين بقدر أكبر من التنظيم والكفاءة الادارية.
وهذا تطور طبيعي وضروري من أجل الاحتفاظ بكيانية وصدقية الدولة بما
هي جهاز رعاية مصالح، الا أن ما صاحبه هو ان درجة الحكومة، أي درجة تغلغل
السلطة السياسية في الشأن العام تفشّت بدرجة متمادية أضرّ بمرور الوقت
بالهدف الاساسي من اصل نشأتها والوظيفية الرئيسية التي قررت لها. فالتمدد
اللامحدود للسلطة الى حد اختراق مجال التفكير عند الافراد أحال الدولة
بكافة أجهزتها الى جهاز بيروقراطي ضخم يتكوّم فيه عدد لا محدود من الافراد
يمارسون أدواراً ثانوية ويخضعون لدورة عمل روتيني مكتبي بصورة واسعة
النطاق.
إن التضخم المتزايد في الجهاز البيروقراطي للدولة أحال من الأخيرة
الى جسد مترهل، ينوء بأعباء تفوق قدرته على التحمل. إن الاحساس المتزايد
لدى الفئة الحاكمة بضرورة وضع الدولة بكافة أجهزتها تحت السيطرة، جعل
تمدد الدولة يطال حتى المؤسسات التي كان بالإمكان تحويلها الى مؤسسات
خاصة، والاكتفاء بالمؤسسات التي تحفظ النظام وتحقق قدراً كافياً من الأمن
والاستقرار.
ولكن ما حدث، أن إختراقاً واسعاً جرى من قبل الدولة للمجال العام
مستوعباً كافة المناشط، ثم تدخل عنصر التنافس الشديد المحتدم داخل العائلة
المالكة على السلطة ليعزز نزعة التمدد، حتى بات معروفاً أن الوزارات
والمؤسسات العامة تكون إما خاضعة مباشرة للأمراء أو لممثلين عنهم، والسبب
في ذلك هو أن الدولة منذ نشأتها كانت محمّلة بنزعة التسلط.
وكرد فعل على هذا التورم البيروقراطي غير الحميد كانت النتيجة الطبيعية،
أن نشوء عدد متزايد من السياسيين قد ضاعف من المطالب على الجهاز السياسي،
بمعنى أن تضخم الدولة قد ضاعف من مسئولياتها وضاعف من ضغوط المواطنين
عليها، وبالتالي فإن تزايد توقعات المواطن من الدولة العاجزة هذه عن
تلبية هذه التوقعات أسفر عن مستوى خطير من الصراع والذي بات في نفس الوقت
بدرجة من التعقيد بحيث أصبح من العسير جداً تسويته او حتى ادارته.
الدول القائمة على أساس ايديولوجي، أي على مدعيات دينية وتاريخية
تكون أكثر عرضة لهذا النوع من الامراض التي تصيب بمرور الوقت جسد الدولة
بحالة شلل تام، وهو ما يعبر عنه المواطن والمسؤول بصدق (ان الدولة تمشي
بالبركة) تعبيراً عن فقر الدولة لايجاد حلول لمشاكلها بحيث باتت تنشد
حلولاً من خارجها. فالدولة المؤدلجة يشيع فيها الفساد والمحسوبية والاثرة
بعكس الدول القائمة على اساس وظيفي، أي لتنظيم المصالح العمومية ودرء
المفاسد بكافة اشكالها.
في واقع الامر، أن الاساس الايديولوجي للدولة يوفر مبرر تحريرها من
قائمة الالتزامات الضرورية تجاه مواطنيها رغم اختراقها المشين للمجال
العام، بكل متوالياته. وتحرير الدولة من التزاماتها يرهن كل ثرواتها
وأمنها واستقرارها لمجموعة من المنتفعين وأصحاب المصالح الخاصة.
ولعل أهم تمظهر لاختلال وظيفية الدولة والحكومة معاً هو ما تترجمه
نظرة الحاكم للمحكوم وما ينجم عن هذه النظرة من تداعيات على مستوى العلاقة
المفترضة بين المواطن والدولة والمهمات المرسومة لكل منهما في مجال حماية
المواطن والدفاع عن حريم الدولة واستقرارها الداخلي ودرء العدوان عن
ثغورها أو على مستوى الحقوق والواجبات المتبادلة. والسؤال هنا: ما هي
نظرة الحاكم الى المحكوم في بلادنا؟
نقل عن الملك فيصل قوله لأحد المتظلمين حين اشتكى له مصادرة احد الامراء
لأرضه قوله (أنت وما تملك لن) وتكررت المقولة على لسان الأمير سلطان
وزير الدفاع قبل سنوات قليلة حين تظلم له أحد المزارعين بعد ضم مرزعته
لمزرعة الامير نفسه. إن مقولة (أنت وما تملك لنا) تحيل من المواطن وممتلكاته
الى مجرد عرض خاص أو بضاعة منقولة يجوز للحاكم ان يفعل بها ما يشاء.
إن تأسيس الدولة على مبدأ الرعاية يجعلها مجرد محسن (وما على المحسنين
من سبيل) ويزيل عنها صفة المسئولية، وهذا ما ينفي ابتداءً وظيفة الدولة.
فالحكومة تكون فوق الشبهة والمحاسبة حين ترى فيما تقوم به مجرد إحسان
تجود به على من تسود، ويبدو أن هذه النزعة كانت قوية في بداية نشأة الدولة
حين كانت السلطة المؤسسة حديثاً بحاجة الى جلب ثروات المناطق الاخرى
لمكافأة الحلفاء في منطقة نجد وتأسيس السلطة المركزية كقاعدة لانطلاق
الدولة وتعزيز سلطانها في مركز النشأة وتالياً في المناطق الملحقة، الا
أن هذه النزعة أثارت وبدرجة كبيرة سخطاً في المناطق الاخرى، وكانت مثار
استهجان من وجدوا أنفسهم ضحايا لوحدة لم يجنوا منها سوى الحصرم.
وكما يبدو فإن هناك تجاوزاً لمفاهيم الدولة الحديثة لدى الفئة الحاكمة،
فالمواطنة كفمهوم حميمي متصل بنظرية الدولة والسلطة السياسية، يكاد يغيب
من الثقافة السياسية، بل وفي أجندة السلطة، ويستعمل في الغالب للتعبير
عن شيء محدد وهمي: المواطن الصالح هو الاكثر ولاء للسلطة الحاكمة، وهو
ابتكار فريد يختزل مفهوم المواطنة الى حد هدم مدلوله الحقيقي.
فالمواطنة بما تتضمن من منظومة عناصر ومقتضيات تجعل من الولاء للسلطة
مجرد استجابة موضوعية لتحقق العناصر المقررة لمبدأ المواطنة. فالمواطنة
في جانبها المدني تتكون من حقوق ضرورية للحريات الفردية، وفي جانبها
السياسي من حق المشاركة في مزاولة السلطة عبر البرلمان ونظرائه، واخيراً
في جانبها الاجتماعي من الحق في الحصول على مستوى مقبول من الحياة ومن
الميراث الاجتماعي للمجتمع.
هذه المواطنة كما يعرفها منظّرو الدولة تضع وبصورة مكثفة العناصر
المتعارف عليها، ولا نحتاج الى جهد كبير لعقد مقارنة بين المواطنة كمفهوم
والسلوك العام للسلطة السياسية لدينا في مجال اختبار تحقق هذه العناصر،
فالحريات الفردية تنفيها تقارير حقوق الانسان بما حوت من انتهاكات للحقوق
الاساسية للمواطنين بما فيها حق الدفاع عن النفس، فضلاً عن انعدام حرية
التعبير والاجتماع. واما المشاركة السياسية فالنضال مازال يتصاعد من
اجل الحصول على الحد الادنى من المشاركة السياسية، يكشف عنه ظهور اطراف
وجماعات جديدة تولدها البيئة السياسية الضاغطة والاحداث السياسية المتلاحقة
النازعة نحو فتح الابواب المغلقة للسلطة.
الدولة بين الاصلاح والاجهاض
في النظم السياسية الحديثة وفي الغرب على وجه الخصوص، تمت عملية انسحاب
تدريجية للحكومة لحساب المحكوم دون ان ينال ذلك الانسحاب من هيبة الدولة
واستقرارها وتماسكها الداخلي، وكان الهدف بصورة رئيسية من ذلك الانسحاب
تحسين أداء الدولة وتنظيم المصالح العمومية، فتطابقت الدولة مع أهدافها
الاصلية التي من أجلها تشكلت كما رسم لها منظرو الدولة الاوائل حين قرروا
وظائف محددة للدولة لا تحيد عنها ولا تتجاوزها، فاصبح للدولة دور محدد
هو تنظيم المصالح العمومية ودرء المفاسد وحماية الاعراض والممتلكات من
العدوان الداخلي او الخارجي.
على الضد من ذلك في الدولة التسلطية كما يصفها خلدون النقيب، فقد
كان هناك عمل دؤوب على تسلل الحكومة الى جميع مرافق الدولة واطالة ذراعها
الى المصالح العمومية الى حد مزاحمة الناس في أرزاقها، وفي لقمة عيشها،
بل وفي تفكيرها. فلم يعد هناك ما يفصل بين ما هو خاص بالحكومة وما هو
عام للمواطنين، وكل ذلك لأن ولاة الأمر ينظرون الى الدولة بكامل حمولتها
ملكاً خاصاً او إمتيازاً فريداً لهم وبئراً نفطياً ينعمون به ويقتسمونه
فيما بينهم ويسترضون به من عاضدهم او تحالف معهم في إنجاز مهمة السيطرة
والنفوذ.
فالحكومة لدينا لم تعد أداة لتنظيم المصالح العمومية وقوة رادعة للطامعين
سواء في الداخل او الخارج، بل تحولت بفعل إختلال الوظائف المرسومة لها
في الاصل الى اداة لتعطيل المصالح وقوة قامعة في الداخل وهشّة في الخارج،
ولا غرابة، والحال هذه، أن تسمع قصصاً تنال من كبار الامراء حول نزع
ملكية هذه الارض، ومصادرة بستان هذا او مزرعة ذاك، او المشاركة الاقحامية
في هذه التجارة، وهذه القصص تتكرر على ألسنة المواطنين من غربه الى شرقه
يومياً وعلى مدار الساعة تقريباً. لماذا؟
لأن الدولة ليست منفصلة عن الحكومة، فالدولة بما فيها شيء من أشياء
الحكومة والاخيرة امتياز خاص بعائلة، ولنفس السبب يكون مصير هذه الحكومة
والدولة ملتحماً بمصير العائلة، ولنفس السبب ايضاً تكون الوحدة الوطنية
مهددة سيما اذا كان البلد مثل السعودية حيث التعددية فيها تمتد من اللهجة
والزي وتمر بالمذهب والثقافة والعادات الاجتماعية وتصل الى التطلع السياسي،
وحيث عملية الاندماج السياسي الحقيقي لم تتحقق حتى في حدودها الدنيا،
فحينئذ تقف الدولة وجهازها الاداري أي السلطة على طرف نقيض مع باقي فئات
الشعب المتضررة من الدولة والسلطة فيها.
والمفارقة المثيرة للجدل دائماً، أن الدولة لدينا تتمتع بكونها (قوية)
و(تسلطية) لا بمعنى أن هذه الخصائص كامنة في الدولة تكويناً، ولكن بالمقارنة
مع وبالنظر الى ضعف القوى الاجتماعية، ولكنها هذه القوة والتسلطية تتبدد
مع أول تهديد قادم من الخارج. وكما يظهر فإن هذه القوة والتسلطية قد
سقطت الى حد كبير هذا العام تحت دوي الانفجارات المتزامنة والمتوالية.
إن قوة الدولة وتسلطها نابعان من كونها أكثر تغلغلاً واقتحاماً في
الشأن العام من أي قوة اجتماعية اخرى، فهي التنظيم الاكثر تضخماً وسيطرة
على منابع الثروة والقوة، وهنا مكمن الخطورة. فالدولة بتغلغلها تزيد
من التزاماتها، والضغوط المفروضة عليها، وهذا ما يمثل مصدر شحن لطاقة
السخط الشعبي حين تعجز الدولة عن الوفاء بالتزامات فرضتها هي على نفسها.
كانت الدولة التسلطية أمام فرصة تاريخية لأن تعيد تشكيل نفسها، والتخلص
من أعبائها القديمة، وبالتالي اجراء عملية اصلاح راديكالية مأمونة العواقب
من خلال التحرر تدريجياً من مهماتها الاضافية، ولكن الاصرار على ابقاء
القبضة الحديدية على السلطة حرم النظم السياسية من فرص كانت فقيرة اليها.
فمع استكمال بناء مؤسساتها ثم دخولها في برامج التنمية الشاملة كانت
الدولة قادرة على نقل جزء كبير من مسئولياتها وامتيازاتها الى الشعب
وبالتالي اجراء عملية دمج حقيقية للشعب في العملية التنموية في بعديها
السياسي والاقتصادي، وكان ذلك يتطلب ارساء اساسات جديدة يكون فيها الشعب
قادراً على تشكيل مؤسساته الخاصة، وحين بدأت بوادر الازمة الاقتصادية
في بداية الثمانينات كانت السلطة السياسية امام فرصة اخرى وربما أخيرة
من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه ولتجنيب البلاد والعباد أزمات خانقة تدك
بشدة قواعد الاستقرار في الدولة ويهدد بقاءها. ومع ذلك، ضاعت هذه الفرصة
ولم يعد هناك ما يمكن انتظاره سوى اصلاحات راديكالية محفوفة بالمخاطر
تماماً كما حصل في الاتحاد السوفيتي حيث أدت (بيريسترويكا) ميخائيل جورباتشوف
الى تفكيك الاتحاد السوفيتي والاطاحة بثاني اكبر معسكر في العالم. فالاصلاح
المتأخر يحمل بداخله خطر الانهيار الكامل.
فهل الدولة لدينا قادرة على بدء عملية اصلاحية، والاستماع الى صوت
العقلاء الذين عبّروا في عرائض متوالية عن برنامج إصلاحي محكم ونزيه؟
الجواب يكمن في قدرة الدولة على تشخيص المأزق الخطير الراهن بكافة
أبعاده، فالأزمة الاقتصادية متمثلة في مديونية داخلية ثقيلة (750 مليار
ريال في السعودية)، ومعدلات بطالة مرتفعة (تصل الى 37 بالمئة في السعودية)،
والأزمة الأمنية بأشكالها الرايدكالية العنفية غير المسبوقة، والازمة
السياسية المتمثلة في غياب المشاركة السياسية، ومؤسسات المجتمع المدني
وحريات التعبير بأنواعها، والازمة الثقافية بإنحباس المجتمع داخل اطار
ثقافي مغلق داخلياً مقابل الانفتاح على كونية متنوعة الثقافات عبر وسائل
الاتصال الفضائي والانترنت، كل هذه الازمات تجعل من حلول السلطة المعتادة
في شكلها البطيء والترقيعي مجرد محاولات يائسة لعلاج جسد يرقد في غرفة
الانعاش.
نعم، اذا قدّمت الدولة برنامجاً إصلاحياً شاملاً ومتكاملاً وملموساً،
تراعى فيه حاجات ومطالب المواطن الحقيقية، يكون مقصده ـ أي مقصد هذا
البرنامج ـ عملية انسحاب تدريجية للسلطة السياسية الى مجالها الخاص،
المتمثل في ممارسة تنظيم المصالح العمومية ودرء العدوان الخارجي فحسب،
فيما يترك لمؤسسات المجتمع المدني بكل تشكيلاته ادارة نفسه ذاتياً بعيداً
عن سلطة الدولة متمثلاً في جهازها الاداري. وقبل ذلك وبعده تجسيد مفهوم
المواطنة بكل عناصرها المدنية والسياسية والاجتماعية، أي بما تحقق مبدأ
المساواة، وتكافؤ الفرص، والمشاركة السياسية، والحريات الفردية، حينئذ
تكون الدولة قد كسبت الجولة الأخيرة التي بها تضمن البقاء على قيد الحياة.
ورغم ان حلاً كهذا بات في أذهان الكثير من المواطنين المحبطين من
الدولة وميراثها السياسي يمثل مجرد لعب في الوقت الضائع او حلماً غير
قابل للتحقق، فإن ذلك كله يعتمد على قدرة ولاة الامر على كيفية ادارة
عملية التحول قبل ان يكون الاصلاح مجرد خيار اليائسين بعد انتهاء الوقتين
الاصلي والاضافي للدولة نفسها.
|