خيار الطوارىء قبل الخروج المستحيل

تفجّرت قروح الجسد فجأة واحدة، وقبل أن تنتهي الحكومة من تضميد جرح أو شد الرباط عليه حتى يتفجر قرح آخر، حتى باتت الدولة بالكامل تشهد حالة إسعاف متصلة، ولكثرة ما في هذا الجسد من قروح فقدت الدولة أجندة أولوياتها، فلا تدري أياً من هذه القروح أولى بالعلاج من الآخر، هل هي البطالة المتفشية، أم الفقر المتزايد، أم جماعات العنف المتنامية، أم الفساد الاداري والقضائي، أم معضلة الخطاب الديني السلفي، أم الجريمة بكافة أشكالها..هذه وغيرها ملفات ظلت رهينة لارادة عليا مجمدة، فتراكمت المشكلات طيلة عقود وهي تتفجر الآن تباعاً.

إن ما كانت تراهن عليه الدولة سقط، فما عاد الاحساس المتورّم بالقدرة على ضبط الاوضاع، والامساك بزمام الأمر مجدياً، فقد بات معلوماً أن اللجوء الى البطش من علامات فشل الدولة إن لم يكن نهايتها، وأن مراكمة المشكلات وترحيلها لا يعني أكثر من تأجيل لحظة الوفاة، لأن الأوضاع بلغت مستوى من السوء بحيث ليس هناك من يرى بصيص نور آخر النفق المعتم. فحتى الكبار وهم يعقدون إجتماعاتهم الدورية يتفقون على الأزمة الخانقة بالسلطة، ولكن حين تأتي لحظة التفكير في القرار يكون الجميع أما الاسئلة الحائرة: كيف نبدأ؟ ومتى؟ ومن أين نبدأ؟

مهمة تصحيح الاعواج متشعبة، ولا يمكن الهروب منها، فهناك مشكلات بين الدولة والعالم الخارجي بسبب صادراتها: النفط والارهاب، وهناك مشكلات بين الدولة والمجتمع بفعل سياساتها المتخبطة التي إنتهت الى: الفقر والبطالة والاستبداد بنوعيه الديني والسياسي، وبينما تحاول بشتى السبل معالجة مشكلاتها مع العالم، تتفجر قضايا لم تكن في الحسبان، من صفقات الغاز المجهضة، الى الخطاب الديني المتطرف الى الارتكاس السريع في مجال السياسة الخارجية والعلاقات الدولية. وفيما ينتظر منها في الداخل إصدار قرار تاريخي للبدء ببرنامج اصلاحي شامل وفوري، إذا بردود الافعال تتفجر دويّاً وتدميرا.

لقد سأم الناس من وعود ساخرة، وتصريحات زائفة، وكلام ينضح دجلاً وهزلية، ووصل بهم حد اليأس من هذه الدولة بكل ما في جوفها من أجهزة الى درجة أنهم باتوا ينشدون حلولاً من الشيطان. فقد أضاعت الدولة حقوق العباد والبلاد ولم ترع لهم حرمة وكرامة، ودفعت بهم لأن يسلكوا سبلاً في التعبير عن يأسهم بطريقة لم تخطر لهم على بال من قبل، وإنما إضطرهم اليه ضنك العيش، وهدر الكرامة، ومصادرة الحرية..

وصحيح ما أشارت اليه الدكتورة مي يماني في كلمتها في جلسة الاستماع في الكونغرس الاميركي مؤخراً والمنشورة في هذا العدد بأن الجيل الحاكم الآن هم أبناء الثمانين والتسعين، فيما يمثل 80 بالمئة من سكان البلد أقل من نصف أعمار هذا الجيل، الذي مازال يعيش بعقلية المؤسس، الذي يرى في البلاد حقل صيد والسكان عبيداً يعملون فيه لصالح المالك الرئيسي. ولذلك فإن ما يصدر عن هذه العقلية لا يمكنه الا أن يكون متأخراً عن آوانه، لأنه يأتي تعبيراً عن ماضٍ مازال هذا الجيل مسكوناً فيه، فيما تتطلب تحديات ومشكلات الدولة الراهنة عقلية جديدة تعيش الواقع بتماميته والمصلحة بأبعادها القصوى.

هل يعني ذلك أن الجيل الجديد يحمل مزامير الاصلاح وزبور التغيير، وبالتالي هل هو أكثر تأهيلاً وكفاءة وانفتاحاً من الجيل القديم؟ لا يعني ذلك بتاتاً على الاطلاق، فنفي الشيء لا يعني إثبات ما عداه كما يقول أهل المنطق، لأن الجيل الجديد تحكمه عوامل أخرى غير العمر، فهو مصاب بأمراض السلطة، من فساد وتعالي، واستبداد.

إن المنتظر من العائلة المالكة بات قليلاً إن لم يكن نادراً، فالجميع يدرك حجم المشكلة ويدرك أشكال الحل المتوفرة لدى السلطة، ومهما بلغ الأمل بأهله فهو لن يكون بأكثر من توقّع ترقيعات في الاطر الخارجية. هكذا تخبرنا فحوى القرارات الصادرة عن القيادة السياسية منذ نشأتها وتعزز ذلك منذ عقدين، حين إنشغلت الدولة بصناعة الاطارات الفارغة ممثلة في مجلس الشورى، ومجالس المناطق، والحال سينسحب بالتأكيد على مجالس البلديات.