الدولة الحائرة
وصف مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأميركي جيمي كارتر، وليام
كوانت في كتابه (السعودية في عقد الثمانينات) القيادة السعودية بأنها
مترددة وتلوذ بالقرارات المواربة التي تحمل إجابات متناقضة. وعلى حد
قول أحدهم بأن القرار في السعودية يجمع بين الـ (لا) والـ (نعم) ليخرج
في صيغة (لعم)، لأن عملية صناعة القرار تجمع بداخلها عناصر متناقضة،
واعتبارات محلية ودولية متضاربة، وأهداف خاصة وعامة متقابلة، وبالتالي
فهي صيغة في القرار تهدف الى إرضاء كافة الاذواق، ولكنها في النهاية
تخرج على غير ما أريد لها، بحيث تصبح القرارات الصادرة خلافية على المدى
البعيد وإن بدت في ظاهرها توافقية على المدى القصير.
هناك صمت ينطق فيه المال، وهناك قرارات تفرضها المصلحة أكثر مما تملى
في إتفاقيات ثنائية، وهناك أيضاً أهداف سياسية يتم إنجازها دون المرور
بالطرق التقليدية لصناعة القرار كما هو عليه الحال في أغلب الدول. وفي
بلادنا التي تنعدم فيها مؤسسات صناعة القرار، تكون القرارات في الغالب
إنعكاسات لطبيعة الحاكم أو الدائرة الضيقة المتقاسمة للسلطة. ولو نزعنا
عامل الثروة لأصبحت البلاد تعاني شللاً سياسياً وحيرة دائمة، بالنظر
الى عوامل الضعف والتهديد التي تحيط بها بدءا من المساحة الجغرافية الكبيرة،
ومروراً بالتناقضات الداخلية، وانتهاءً بالتنافس الاقليمي والدولي.
ما حصل أن الثروة المالية الضخمة لعبت دوراً سحرياً في كسر حاجز الخوف
والتردد، وفتح للدولة آفاقاً في الداخل والخارج بعد أن كان ينظر اليها
وكأنها حلم مستحيل، كما أمدّت الثروة صانع القرار بقوة دفع هائلة في
عملية صناعة القرار السياسي على المستويين المحلي والدولي، وبدأ عقد
السبعينيات بما وصفها هيكل بـ (الحقبة السعودية)، حيث أصبحت الأخيرة
مركز جاذبية على المستوى العربي اضافة الى الحضور المتميز على الساحة
الدولية بفعل دورها المؤثر في السوق النفطية العالمية. كل ذلك كان في
فترة تدفق المال بطريقة غير مسبوقة، الأمر الذي كسح معه الارباك الحاصل
في مركز القرار، وأخفي ضعف القيادة، وجبر كسرها. بكلمات أخرى، أن الثروة
نجحت في تحويل ما هو ممكن بالقوة الى ممكن بالفعل، ولم يعد هناك ما يحول
دون تحقيق التطلعات الكبرى لدى الدولة. تعضد ذلك تحالفات صلبة محلية
ودولية نسجتها الثروة بعناية، وشكّلت جزءا مركزياً في استتباب الدولة
وتماسك السلطة كما زخمت صناعة القرار بالثقة والاقتدار.
ولكن السؤال هنا: في هذا الوضع الذي يؤثر في التجربة السياسية السعودية
الحديثة هل يحافظ على التمييز المتقدم من منظور صناعة القرار؟ كلا بالطبع.
ففي هذه التجربة متغيرات داخلية وخارجية كانت توحي بصورة الدولة المستقرة
والخالدة، وكأن المتغيرات هذه قد أصبحت ثوابت لا تتبدل، كالنفط، والتحالف
الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، والتحالف التاريخي مع المؤسسة الدينية،
والوضع الاقليمي المستقر، والتي كانت تمثّل فيما مضى مقومات استقرار
بالنسبة للدولة السعودية. إن ما ظهر هو بداية سريعة لانحسار متزامن لهذه
العوامل قد حصل، كاشفاً عن مجمل مواطن الوهن والهزال في الدولة، والممتد
الى قمة الهرم السياسي.
وهنا بدأت عملية صناعة القرار تشهد تحدياُ مصيرياً في ظل متحولات
دراماتيكية داخلية وخارجية، فالمال الذي كان يدخل كعنصر رئيسي في الدبلوماسية
السعودية وحجر الزاوية في سياسة الدولة الخارجية فقد وعلى نحو خاطف تأثيره
بفعل الازمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد، فيما تصدّع التحالف الاستراتيجي
مع الولايات المتحدة منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ثم دخول الدولة
في مواجهة مباشرة وعنفية مع حليفها الديني، واخيراً تبدّل الوضع الاقليمي
بطريقة دراماتيكية منذ احتلال العراق.
إن كل هذه المتغيرات المتزامنة نسبياً حرمت الدولة من عناصر قوتها
الأساسية، وبدأت تتكبد الخسائر على الجبهات التي كانت تلعب فيها تلك
العناصر دوراً أساسياً، فأصبحت السياسة الخارجية السعودية في حالة إنسحاب
متواصلة، ولم تعد تملك من مقوّمات القوة الدبلوماسية ما يحفظ مكانتها
كقوة سياسية فاعلة، وباتت تنشد أساليب مختلفة للتخفف من أعباء شبكة ضخمة
من التحالفات القديمة، ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتدفع الدولة
في واجهة الاتهام برعاية الارهاب لتتوسل طريقة في الدفاع عن النفس عبر
شركات علاقات عامة دولية.
أما على المستوى المحلي، فإن الازمات الاقتصادية والسياسية والأمنية
رهنت الدولة بكاملها الى خيارات حل حاسمة لا تملك القيادة السياسية المؤهلات
الكافية لتبنيها بسبب ترددها، وحيرتها. فمنذ عقدين على الاقل والدولة
تشهد غليانات داخلية بفعل الازمات السياسية والاقتصادية لم تقابلها القيادة
السياسية سوى باستجابات مترددة رغم قناعتها بأن ما تصنعه من قرارات لا
تمثل حسماً نهائياً، بل هي تأتي كإنعكاس لطبيعة صانع القرار.
إن الوضع الذي نعيشه حالياً، هو وضع حيرة الدولة، التي يمكن قراءتها
في غياب القرارات الحاسمة في مشكلات راهنة ملحّة، وما استبسالها في ميدان
الأمن الا جزءاً من تلك الحيرة التي تدفع لتضل الطريق الصحيح نحو صناعة
قرارات جذرية وشاملة لمشكلات سياسية واقتصادية، والانجرار الى معالجة
الاعراض وإغفال المرض الحقيقي.
إن الدولة تتخبط الآن في حيرة شائكة، لا تعرف كيفية الخروج منها،
لأنها مترددة وخائفة ومربكة بعد أن فقدت الادوات التي كانت فيما مضى
تمارس دوراً نيابياً في صناعة الحلول البديلة. ولأنها تقف اليوم في مواجهة
مباشرة مع أزماتها الحقيقية فليس بوسعها البقاء في منتصف الجسر، فهذه
الحيرة لابد أن تزول من أجل إنقاذ الدولة قبل أن يزيلها البركان.
|