السعودية وتجسير الهوة بين الإصلاحيين والمتطرفين
نشرت صحيفة شكياغو تروبيون في 24 نوفمبر الماضي مقالاً للكاتب إيفان
إوزنوس الذي زار بريدة معقل التيار الديني المتشدد، وسجّل في مقالته
ملاحظات هامة حول نشاطية التيار ودوره السياسي في ضوء تنامي الاتجاه
الاصلاحي في المملكة، وفيما يلي نص المقال:
الرسالة الإصلاحية للحكومة السعودية في بريدة وكذلك في الرياض هي:
لا تسمحوا لانهار الدم بالجريان في أرض الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن
زعماء السعودية يسعون جاهدين لصياغة مستقبل مستقر لبلدهم الذي يمور بالمشاكل،
ويحاولون مواجهة الفجوة بين خطط الحكومة والفكر الأصولي المحمي بقوة
في أجزاء كبيرة من البلاد.
وبريدة التي تبعد عن الرياض مسافة ثلاث ساعات بالسيارة هي المكان
الذي يشد الأنظار وتصدر منه البيانات الجريئة، وهي تعتبر السعودية الأخرى!.
وبريدة، أيضا، هي موطن ذلك النوع من الغضب الذي يغذي الأعداد المتزايدة
من المتشددين الدينيين. فبعد سنوات من الإصرار على أن التطرف لا يمثل
مشكلة هنا، أصبح زعماء البلاد يدعون إلى المباشرة فوراً في الإصلاحات
لمحاربة التعصب الديني.
يقول عبد الله (21 سنة) وهو طالب شريعة كان يجلس في ظلال مسجد بريدة
بعد أن تفرق المصلون عقب صلاة الجمعة: إن الدين يحكمنا. ولا يحكمنا أي
شئ آخر. ويضيف: حتى أولئك الذين في مراكز السلطة يظنون أن بإمكانهم أن
يحكمونا. لكنهم لن يستطيعوا! ويمضي قائلاً: إن السبب الذي يدفعني أو
يدفع أي شخص آخر لان يملأ سيارة بالمتفجرات هو ما نعرفه جميعا، وهو أن
الأمريكيين موجودون هنا ويريدون أن يفعلوا بنا ما فعلوه في أفغانستان
والعراق.
ويقول الزعماء السعوديون أن الأصوات الغاضبة في أماكن مثل هذه المدينة
البائسة تجارياً، لا تمثل سوى أقلية صغيرة. والأمر المؤكد هو أن غالبية
السعوديين يشجبون بشدة هجمات المتطرفين الدينيين من قبيل الهجوم الانتحاري
الذي وقع في الرياض مؤخراً وأدى إلى مقتل 17 شخصاً.
لكن القيادة تعرف أيضاً أن الأعداد القليلة التي تنتهج العنف تتحدث
ويكون لحديثها نتائج مدمرة.
ولهذا السبب يقول المحللون إن إمكانيات الإصلاح سلمياً تعتمد على
القناعات المنتشرة في المناطق اكثر مما تعتمد على ما يصدر عن العاصمة.
يقول سليمان الهتلان الكاتب في جريدة الوطن: هناك فجوة بين النخب
وما يحدث في الشارع. والتغيير لا يأتي بقرار سياسي فقط. وقد عمل المتطرفون
بجدية طيلة ثلاثين عاماً من أجل تطبيق أجندتهم الخاصة على المجتمع، فيما
لم يفعل ما يسمى بالليبراليين شيئا بالمقابل.
وما هو واضح الآن هو أن أزمات الحكومة في ازدياد، فمنذ مايو الماضي
عندما قتل 35 شخصاً في تفجير إنتحاري إستهدف مجمعاً سكنياً في الرياض،
أغارت قوات الأمن على عشرات المزارع والمكاتب والمنازل في كافة مناطق
المملكة بحثاً عن أفراد مشتبه بضلوعهم في التفجيرات.
وتقول السلطات إن عمليات البحث أسفرت عن اعتقال 600 متشدداً مشتبه
به، بينما وقعت سلسلة عمليات تبادل إطلاق النار مع قوات الشرطة راح ضحيتها
بعض الأشخاص، وقد تمكنت قوات الأمن من إلقاء القبض على بعض المشتبه بهم
وعثرت على أسلحة نارية ومتفجرات خلال 21 غارة على الأقل حدثت في مكة
المكرمة والمناطق الشرقية من البلاد.
ويقول مسئول سعودي كبير إن حوالي 300 شخصاً من أعضاء تنظيم القاعدة
كانوا قد عادوا إلى البلاد بعد أن شاركوا في القتال في أفغانستان، قاموا
بتجنيد حوالي 2000 شخص في الداخل. وبالإضافة إلى الأعداد الكبيرة من
هؤلاء المتطرفين، هناك أيضا حقيقة أخرى لا تقل أهمية وتتمثل في أن المتشددين
وجدوا ملاذاً آمناً في المناطق التي تقاوم ضغط الحكومة لاستئصالهم.
ويؤكد ديبلوماسي غربي أن هناك من يبحث عن هؤلاء المتطرفين ليمنحهم
ملاذاً يحميهم. ويضيف: إن البيئة المتساهلة هي المشكلة الحقيقية. أما
محسن العواجي المحامي الإسلامي الذي يحتفظ باتصالات مع الجماعات المتشددة
فيندد بالهجمات الأخيرة ولكنه يشك في أن هناك الكثير من السعوديين ممن
سيترددون في مساعدة السلطات على اجتثاث المتشددين. ويضيف: إنني موالٍ
للحكومة والبلد، لكن إذا جاء إلى بيتي شخص مطارد من قبل قوات الأمن،
فإنني يجب أيضا أن أتمسك بتقاليدنا، وأحد تلك التقاليد هو الكرم، ومن
المستحيل أن أقول للشخص: اذهب بعيدا.
ويشرح عبد الله ، الطالب البريداوي، هذه الجزئية بشكل أوضح فيقول:
لن نخونهم! (يقصد المتشددين)، ولن نلقي بهم إلى الذئاب، بل سنوفر لهم
الحماية والغطاء.
وبعد 11 سبتمبر اقتنعت المملكة العربية السعودية بالحقيقة المتمثلة
في أن 15 من إرهابيي عمليتي نيويورك كانوا من السعوديين. ولكن بعد سنتين
من ذلك التاريخ وعلى خلفية العنف المتصاعد داخل البلاد، إضطرت حكومة
الأمير عبد الله إلى الإسراع في عملية إصلاح النظام الديني والتعليمي،
على أمل أن يساعد ذلك في كبح انتشار الأفكار غير المتسامحة والمعادية
للغرب وللنظام، خاصة في أوساط الشباب.
وفي بلد يجاهد لاستيعاب أعداد كبيرة من الشباب، فإن شبابا كثيرين
يعانون من البطالة والعزلة والفراغ، وهم هدف سهل للتغرير بهم من قبل
المتشددين، كما أن ثلثي سكان المملكة البالغ عددهم 18 مليون نسمة هم
تحت سن العشرين. وقد ساعدت الزيادة الكبيرة في عدد السكان في رفع نسبة
البطالة إلى 14 بالمائة مما صعّب على الشباب مهمة العثور على فرص وظيفية.
والنتيجة هي إزدياد أعداد خريجي الجامعات الدينية الذين أصبحوا بلا هدف
ويفتقرون إلى المهارات اللازمة للتواصل مع بقية العالم.
وأصبحت مهمة إبعاد الشباب عن رجال الدين المتطرفين هدفا من أجل بقاء
النظام. وفي بادرة تهدف إلى محاربة التعصب، تم طرح كتب دراسية جديدة
تحمل رسومات لبنات وأولاد يدرسون معاً، الأمر الذي يعتبره المتطرفون
انتهاكا لأوامر الإسلام الداعية إلى الفصل بين الجنسين. وفي خطوة أخرى،
تقرر أن يعاد تأهيل حوالي 2000 رجل دين بعد أن تبين انهم يروّجون للعنف
ويحضون على كراهية الأجانب. لكن حتى التغييرات الطفيفة باتجاه الانفتاح
والتسامح يمكن أن تثير غضب الناس في أماكن مثل بريدة، التي عرفت تاريخيا
بميلها للتحدي والمواجهة.
يوسف (39 سنة) هو أحد سكان بريدة وقد شكك في جدوى أية خطة جديدة للحكومة
في تعقب آثار التطرف في المدارس، وأضاف: لا أعتقد بان لأساليب التدريس
في المدارس علاقة بهذه الهجمات.
لقد قاومت هذه المدينة التغيير منذ وقت طويل، ففي 1965 إستنكر رجال
الدين فيها قرار الحكومة بإدخال التلفزيون، وفي 1991 إعترضوا على سماح
الحكومة بدخول قوات أجنبية إلى البلاد. وأثناء قصف الولايات المتحدة
لأفغانستان إمتدح رجل دين بارز هو الشيخ حمود الشعيبي، علنا، (بطولة)
طالبان.
لكن الضغوط من أجل الإصلاح في تزايد، وليس هناك موضوع أكثر إثارة
للجدل من موضوع الوهابية، وهي المدرسة الإسلامية التي هيمنت على الحياة
الدينية في السعودية لاكثر من قرنين. وكان مؤسسها محمد ابن عبد الوهاب
يعارض النفوذ الأجنبي ويدعو إلى التطبيق الصارم لتعاليم الرسول. وحتى
وقت قريب، كان ذكر كلمة الوهابية أثناء الحديث من المحرمات، لان الكثير
من السعوديين يعترضون على فكرة أن الوهابية تختلف عن التيار الإسلامي
الغالب. كما أن العائلة المالكة تدين بالفضل في استمراريتها إلى مشايخ
الوهابية، ولهذا السبب يرفضون توجيه النقد لها. لكن الهجمات الأخيرة
كسرت ذلك الصمت وأصبح زعماء البلاد يسمحون بالمزيد من النقاش بين رجال
الدين والمثقفين والصحفيين، وتتناول الحوارات دور الوهابية في تنامي
التطرف.
يقول خالد باطرفي الصحفي بجريدة الوطن: إنني أكتب الآن عن مواضيع
لم أكن أتخيل أنني سأكتب عنها في الماضي، مثل الإرهاب والتأثير السلبي
الذي يمارسه رجال الدين في حياتنا، ويضيف: إن الناس بدأوا يقولون: لقد
حان الوقت لنعيد النظر في المناهج الدراسية والائمة والمدرسين.
وبينما يرحب المثقفون بهذا النقاش، فإن انتقاد الوهابية يستفز غضب
الكثير من السعوديين، وقد تعرض باطرفي وغيره من الصحفيين الذين تجرأوا
على الحديث عن الوهابية إلى الاستنكار من جانب رجال الدين المتشددين
كما تعرضوا لتهديدات من قراء مجهولين.
ويقول محسن العواجي إن معظم السعوديين ليسوا مستعدين بعد لطرح أسئلة
تتناول النسيج الديني الأساسي للبلد. ويضيف: هناك فراغ بين الشعب والعائلة
الحاكمة. وكلما إتسع ذلك الفراغ كلما قلَّ ولاء الشعب لهم.
لكن كيف تستطيع الحكومة جسر الهوة؟
كبداية، عقد الأمير عبد الله في يونيو الماضي إجتماعا غير عادي مع
المثقفين ورجال الدين السنة والشيعة، وأوصى المجتمعون بتوسيع هامش المشاركة
الشعبية السياسية وحرية التعبير. والحقيقة أن ما قد يبدو وكأنه خطوة
صغيرة في بلدان أخرى، ينظر إليه في المملكة باهتمام كبير، وقد أعلنت
الحكومة أيضا عن خطط لإجراء أول إنتخابات بلدية في البلاد رغم أن تاريخها
لم يحدد بعد.
لكن يبدو أن هذه الجهود لم تفلح في إقناع الشباب الملتحين الذين تدفقوا
خارج مسجد الراجحي في بريدة ظهيرة أحد أيام نوفمبر الماضي، فهم يريدون
من الحكومة أن تتحدث مباشرة إلى المتطرفين وان تنظر في مظالمهم،
أما قادة البلاد فقد رفضوا علناً هذه الفكرة قائلين أنهم سيتعاملون
مع المتشددين بيد من حديد.
وبرأي الشاب عبد الله فإن (العناد) لن يولِّد سوى المزيد من العنف،
ويضيف: إنهم يستخدمون السيف والبندقية، ولن يحصلوا سوى على السيف والبندقية!
|