أزمتنا الفكرية مع العنف
السلفية.. من التطرف إلى الإرهاب
محمد بن علي المحمود
لم تكن التفجيرات الإرهابية الأخيرة، وما بينها، من ما هو في سياقها،
سوى تمظهرات لنسق إرهابي كامن في العمق الثقافي، تم شحنه بما يعززه،
على فترات زمنية متباعدة، وربما متقطعة، لكنها قادرة على التتالي، لانخراطها
في سياق وجداني عام، كفيل بأن يعطيها طابع التراكمية المعرفية - وإن
لم تكن معرفية في الحقيقة - على نحو ما. وهذا ما يجعل منها - على ضخامتها
- مجرد شفرة علاماتية، تكشف عن ما وراءها من تأزم ثقافي، هو في الحقيقة
أعظم منها خطراً، وأبعد منها - على المدى البعيد - أثراً.
لقد كانت أحداثاً مؤلمة للوعي العام، وبدت ذات قسمات واضحة، حتى ولو
اكتنفها الغموض في بعض جوانبها، خاصة في ما يتعلق بالبعد الاستراتيجي
لمنفذيها، فهي - على كل حال - توحي لمتأملها بحقيقة متعينة، لا يسعنا
تجاهلها، فنحن نلمسها في المشاهد المأساوية التي تم عرضها، والتي تؤكد
أن منفذ العمل ينطلق من نفسية إجرامية، تستشعر الإجرام هوية، مهما حاولت
شرعنة جريمتها، إذ كل مجرم يحمل لجريمته ما يبررها به. وإذا علمنا أن
النفس الإجرامي قادر على أن يجد مراقد له في كافة التشكلات الاجتماعية،
وأن يسري في خلايا الأيديولوجيات على تباينها، مهما ادعت لنفسها البراءة
والنقاء، فمن الطبيعي أن يحاول الإجرام استمداد مبرراته من الأيديولوجية
التي يتماهى معها، ولا يلام على ذلك، فهذا - بالنسبة له - جزء من آليات
الصراع التي يتوسل بها، وإنما يلام على ذلك، مستهلك هذا التبرير المزيف.
ومع مأساوية الأحداث، فإن المعالجة الثقافية (في جانبها الإعلامي الجماهيري/ المرئي) على أهميتها، وأثرها الفاعل، لم تكن على مستوى الأحداث، بل كان تسطيح الحدث فكرياً - في الغالب - هو ما اتسم به الإعلام المرئي محلياً وعربياً، إذ اتضح أن هدفه كان تسجيل الإدانة للحدث التفجيري إعلامياً أكثر مما هو تشريح ثقافي لمكونات التفجير، وما سيتبعها من تداعيات. وبما أن المعالجة الفكرية هي ما يعنينا في هذا الطرح، فإن ما انطوى عليه الإعلام الجماهيري هو - فيما أرى - أزمة بحد ذاته، مما يؤكد أننا لم نصل بعد إلى الوعي بخطورة البعد الثقافي الكامن وراء هذه الأحداث، ولا ندرك ما لهذا البعد من دور مستقبلي حاسم في هذا الشأن.
ومن خلال متابعتي لكثير مما طرح من معالجة فكرية لقضية الإرهاب، رأيت التنبيه - بإيجاز - على أمور - كانت المغالطة فيها تتم على نحو متكرر، أو لم يتم الالتفات إليها بالقدر الكافي، ولأني أظنها جديرة بأن تأخذ نصيبها من الاهتمام، فإني أشير إليها فيما يلي:
1- ظهر في كثير من ندوات الحوار التي دارت حول الأحداث الإرهابية، اختزال الظاهرة الإرهابية إلى بعد واحد، مع أنها ظاهرة لا يمكن أن ينهض أي بعد - مهما كانت حيويته - بتشكيلها، وإذا كان البعد الفكري أكبرها أثراً، وقد تم التركيز عليه، لأنه العمود الفقري الذي تقوم عليه، فإن المشكلة ليست في الاقتصار - أحياناً - على هذا البعد المهم، إذ هو بلا شك بعد ينتظم الأبعاد الأخرى، وتحرك أنساقه العامة كافة التمظهرات الحياتية لدينا، ولكن موطن الإشكال - وهو ما نأخذه على هذا الاختزال - يكمن في أن تناول هذا البعد الفكري، يقتصر على جانب واحد من جوانب التشكيل الثقافي العام، في وقت يتم فيه تجاهل الجوانب الأخرى، وبهذا نجد البعد الفكري يوظف حسب ما يخدم الخلفية الأيديولوجية للمحاور.
2- لا شك في أن الظاهرة الإرهابية ستبدأ في الضمور، ولا شك أن الاستنفار العام سيقلل من إمكانية تكرارها على نحو ما حدث، وهذا ما سيعطي انطباعاً مغلوطاً بانحسارها، وانتهاء أمدها. لكنها في حقيقة الأمر - وهذا أمر في غاية الأهمية - لن تلفظ أنفاسها على المدى المنظور، مهما تلاشت مظاهرها، وتراجعت رموزها، وتغيرت قناعات منظريها، فما دام المخزون الاستراتيجي الفكري لها يحظى بالإمداد المتواصل، ما دامت الأنساق التي أفرزتها كامنة في البنية الثقافية العامة، وفي الجماهيري منها خاصة، فإنها سوف تكفل لها الاستمرار، وتعيد إنتاجها بشكل مستمر، وستظهر كلما سمحت لها الظروف، أو حركتها عوامل الداخل والخارج. وقد لا تكون إعادة الإنتاج على هذه الصورة التي رأيناها، لكنها ستظهر على نحو ما، ولو بعد حين، بأوجه متعددة، وصور متباينة، قد تكون أكثر بشاعة، وأعظم انتهاكاً لإنسانية الإنسان.
وبما أن طبيعة التفكير لدينا، تظهر أنه تفكير يسمه الطابع الموسمي بميسمه - لأن حياتنا في عمقها التاريخي موسمية، تبعاً لظروف البيئة في ذلك الزمن الغابر - فإن تركيزنا سيكون على الآني، وسيتم التنازل عمّا يمس حياتنا - ربما في عمقها - على المدى البعيد، وسيكون تقديرنا للخطر الراهن المتعين أكبر من تقديرنا للخطر المستقبلي المتوقع، خاصة إذا كان هذا الخطر المستقبلي مما يصعب تحديد ملامحه، ووضع اليد عليه. فنحن أكثر إيماناً بما نبصره عياناً، وإحساسنا به أكبر، وهذا ما يجعلنا نتعامل مع الظاهرة في وقتها، تاركين تراكماتها النسقية الخطيرة لمراحل زمنية لاحقة، تكتوي بلهيبها الأجيال القادمة.
3- نلاحظ أن هناك حساسية مفرطة تجاه أي نقد يمس الخطاب الديني، كخطاب ديني، وليس كدين (وبينهما فرق يجب التنبه له) وما ظهر مما يُظن أنه نقد، إنما كان من باب تصفية الحسابات بين التحزبات الفكرية داخل الخطاب الديني نفسه. وتظهر هذه الحساسية تجاه النقد لدى من نصب نفسه ممثلاً لهذا الخطاب، مع أن الحقيقة، التي يعرفها الجميع، ويعترف بها الإرهابي نفسه، أن ما وقع قد تمت ممارسته بخلفيات دينية - طبعاً خاطئة - لكن هذا لا يعفي الخطاب الديني من نقد ذاته، ولا من أن يكون نقده كاشفاً عن عناصر السلب داخل الحزب (ليس الحزب التنظيمي، وإنما المراد هنا التوجه الفكري، كالسلفي والإخواني والتبليغي و...) أو المذهب الذي ينتمي إليه، كما أن خطأ التوظيف من قبل الإرهابي للبعد الديني لا يعطي هذا النفور من النقد تبريراً، ولا يخوله منح نفسه حصانة ليست له، وإنما هي للدين فحسب، بوصفه ديناً يقوم على قاعدة أساسية من اليقين الإيماني.
لقد كشفت الندوات المرئية التي تم عرضها، أن الخطاب الديني كان جل همه تبرئة نفسه، وكان كل توجه داخل هذا الخطاب الديني يدور حول ذاته، هدفه الأساس لم يكن معالجة ما حدث، بقدر ما كان سعياً حثيثاً للخروج بصك براءة للتوجه الذي ينتمي إليه، ومع أن الاتهام - بما تعنيه كلمة اتهام - لم يكن موجهاً لهذا الخطاب، إلا أن الحرص على المكتسبات التي حققها بمواقعه المؤسساتية كان هاجساً يبعث الخوف في أوصاله، ويحفزه للظهور بمظهر الخطاب المضاد للخطاب الإرهابي، حتى ولو تم ذلك بأسلوب بدائي، يحمل احتقاراً لعقل المشاهد، وخلفياته المعرفية. ولهذا رأينا جمل الإدانة مفصلة - بمقدار - على أهداف التوجه الذي ينتمي إليه المتحدث، بحيث تمس بلاغيات الإدانة كل أحد سوى منظومته التي ينتمي إليها، وينافح عنها.
4- هناك أمر له ارتباط بما سبق، وهو أن الأحداث وما رافقها من طرح فكري، أصبحت ميداناً للانتهازية، فظهر الصراع الايديولوجي، بل - أحياناً - داخل الايديولوجيا الواحدة، وطرحت مقولات ليست بريئة في مقاصدها، وتجلى التعصب الحزبي (فكراً لا تنظيماً) حتى داخل الخطاب المتسمي بالسلفي، الذي رفع شعار (رفض التحزب) ويعده بدعة!، بينما يكشف المسكوت عنه في خطابه تحزباً في غاية التعصب، وإن كان يرتبط بمقولات لا بتنظيم. ومن هذا فإن هذا الخطاب (السلفي!) يطرح نفسه كبديل لكافة أطياف الديني، بوصفه الأفضل ولاء، والأقرب تمذهباً، في سياق مغالطات يرفضها العقل الحديث، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يماهى مع زيفها.
إن السلفية التقليدية - أياً كانت منطلقاتها وتوجهاتها، ومهما قدمت من مبررات لحضورها - غير قادرة على تقديم الحلول لإشكالية التطرف/ الإرهاب، فالإرهاب - شاءت السلفية ذلك أم أبت - يتكىء على مقولاتها، ويصدر - وإن كان بشكل غير مباشر، ومن غير رضاها - عن وعيها. وفي حقيقة الأمر فإن السلفية - بكافة تنويعاتها المعاصرة، تنطوي على تأزمات مزمنة تجعل من تموضعها في الواقع الراهن مصدر إشكال، لا حلاً له، ولعل أبرز صور هذا التأزم ما يلي:
أ - مفهوم السلفية مفهوم عائم، كثر تداوله، وأصبح منتشراً بين طوائف متنافرة، بل وربما متصارعة، وكل منها ترفع دعواها به، وبهذا فليس هناك سلفية واحدة، وإنما هناك سلفيات، ومن الطبيعي أن تدعي كل سلفية أحقيتها بهذه التسمية، ما دامت ترى فيها وسيلة انتشار، وأداة استتار، بحيث تمارس الأيديولوجيا تحت مسميات ظاهرها البراءة، وباطنها دوران حول الذات، ومطامعها الخاصة.
وإذا كان المفهوم على هذه الدرجة من الإشكال، فإن تحديد السلف الذين ينتسب السلفي إليهم إشكالية أخرى، فالسلف الصالح الذين ينتسب إليهم السلفي، من هم؟ إذ لكل سلفه الصالح، وإذا كان المراد الصدر الأول من هذه الأمة - كما يصرح بذلك السلفي التقليدي - فالصدر الأول - على صلاحهم - متباينون في رؤاهم، فعن أيهم يصدر السلفي؟، ومختلفون في آرائهم، إلى درجة الاقتتال فيما بينهم، وهذا ما نسعى لتفاديه، ونتجنب إعادة إنتاجه.
ب - يلاحظ على السلفي التقليدي تغييب العقل، واستحضار الذاكرة، فالعقل نصوصي تاريخي، يستحضر النصوص استقطاباً لمتخيلات الحدث، ولكن لا يعي كيفية تموضع النص في الواقع. وخطورة العقل النصوصي لا تخفى، فالنص لما له من احترام وإجلال يستحضر في واقعة ما، وكأن التلازم (وجه الاستشهاد) يقيني، مع أن النص هو اليقين، وأما التلازم فهو ظني، بل ربما في أدنى درجات الظنية، وبهذا يكتسي الظني من روح اليقيني، وهذا مكمن الخطر، وسر من أسرار التضحية/ الإصرار الإرهابي على المبدأ حتى الموت. ولعل من يقرأ الأدبيات (التكفيرية/ الإرهابية) سواء ما ظهر منها على لسان الذين تراجعوا عنها، أو ما هو مبثوث في بياناتهم، يلاحظ الكثافة النصية، مع غياب التأويل الذي تفرضه روح العصر، وضمور العملية العقلية في ربط النص بسياقاته النصوصية والمقاصدية من جهة، ومن جهة أخرى في ربطه بالواقع المعاصر. وبهذا رأينا كيف تحول راوي النص إلى فقيه، يفتي الأمة في دمائها وأعراضها وحاضرها ومستقبلها، مع أنه لا يمتلك إلا ذاكرته، مفتقراً افتقاراً كلياً إلى آليات المعرفة العامة، وشروط الاجتهاد الخاصة. فهل هذا الوعي الساذج هو ما تريدنا السلفية التقليدية (وهي نصوصية بالطبع) أن نحتكم إليه، وأن نعممه في خطابنا المعرفي حاضراً ومستقبلاً؟!
ج - السلفية التقليدية ماضوية بطبعها، فوعيها وعي من الماضي وإليه!، ولأن الماضي يستحيل توجيه الخطاب إليه، لكونه زمنا مات وانتهى، فلا بد أن تستحضر الماضي في الحاضر، ولأن هذا الحضور لا يمكن أن يتم بشكل كامل، بحيث تأتي الوقائع السابقة بحواملها، فسيعاني السلفي من تأزمات العلاقة غير الطبيعية بين حلول الماضي وإشكاليات الحاضر، وسيبقى الحل مستحيلاً، وما يظن حلاً، هو نوع من الترقيع الفج، يمارسه عقل كسيح.
وإذا كانت السلفية في احدى صورها (التقليدية) تطرح خطاباً ترويضياً، بوصفه حلاً لإشكاليات التطرف الراهن، فإن ما يتراءى حلاً - حسب دعواها - في المدى الزمني القريب، هو ما سيكون أحد مسببات الإرهاب في المستقبل، إذ ليس بوسعك أن تلغي الحراك الاجتماعي، وتصنع مجتمعاً سكونياً لا يعي ذاته، فضلاً عن أن يعي غيره، وإنما بوسعك أن تقدم الحراك البديل، فتملأ الفراغ، والسلفية لا بديل لديها لتملأ به هذا الفراغ، فهي في الحقيقة لا تحل الإشكاليات التي يعاني منها المجتمع المعاصر، وإنما تميت إحساس المجتمع بإشكالياته، وبهذا فهي لا تحل الإشكال، وإنما تؤجله إلى حين.
ولأن عوامل التغير الحضاري بصيرورتها التاريخية لا يمكن إيقافها، فإن المجتمع إذا أصبح سلفي الوعي سيحتك - حتماً - بهذه العوامل، طال الزمان أو قصر، ولأن الوعي السلفي لا يستطيع التفاعل معها وفق سلفيته، فسيضطر للتخلي، إما عن واقعه الحضاري، وإما عن سلفيته، وإذا كان من المرجح - تحت ضغط وقائع الحياة - أنه سيتخلى عن تلك السلفية، فمعنى ذلك أنه سيبقى مشتملاً على فراغ، هذا الفراغ ثغرة في وعي المجتمع يدخل من شاء من خلالها وبأي أطروحة شاء، وسينجح، لأنه يعمل في أرض بكر (فراغ) قابلة لأية إيديولوجيا تطرح حلاً حقيقياً - أو ما تظنه حلاً - لإشكالياتها، ولن تهتم بأبعادها بعد ذلك. بينما تفعيل أنواع من الحراك الفكري الاجتماعي، تصنعها على عينك، وتفهمها وتتفهمك، آمن على المدى البعيد، مهما بدا أنها مقلقة وغير قابلة للتقولب.
د - السلفية التقليدية - بطبعها - أحادية الرأي، تسفه الآخر المختلف، وتبدعه، وتضلله، و - أحياناً - تكفره، فهي تقوم على تصور امتلاك الحقيقة المطلقة، وأنها الفرقة الناجية من بين ثلاث وسبعين فرقة هالكة. وبهذا، فهي مهما أظهرت من مرونة، ومهما أبدت من تسامح، فهي تنطوي على جذر إرهابي، ينفي الآخر، فأنساقها الكامنة أنساق حادة، لديها - على الأقل القابلية الفائقة للإرهاب. ويمكن استنطاق هذه الأنساق من مجمل خطاباتها، إذ يسيطر عليها هم واحد، ينتظمها جميعاً، ألا وهو نفي الآخر، وعلى وجه الخصوص، الآخر المختلف من داخل المنظومة الإسلامية، وإن كانت لا تعتبره إسلامياً، أو إسلامياً ناقصاً وفق معاييرها، في ظل أدبيات التبديع والتضليل التي استهلكت معظم نشاطاتها.
هـ - السلفية التقليدية تطرح نفسها بوصفها البديل الوحيد لكافة أطياف التنوع الموجود - على خفوته - في الساحة حالياً، ومعنى ذلك أنها تريد التفرد والاستئثار بالميدان الثقافي، مع أنه ميدان يسع الجميع. ولا شك أن الوعي الذي يلغي الآخر المختلف وعي اقصائي في استراتيجيته العامة، سيولد الإرهاب ولو بعد حين. وقد أثبتت التجارب الإنسانية المعاصرة، أن الحل للتنوع ليس إلغاؤه، وإنما مد الجسور معه، والدخول معه في مثاقفة حرة، بحيث يستفيد كل طرف من الآخر، أما أن يتفرد خطاب ما - حتى لو اقتنعنا بإيجابياته في ذاته - ويهيمن على وعي مجتمع بأكمله، فإنه سينتج وعياً إقصائياً/ إرهابياً في نهاية الأمر.
(الرياض، 27/11/2003)
|